آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
المفارقة بين الصورة والحقيقة

المفارقة بين الصورة والحقيقة

تاريخ الإضافة: 2010/04/23 | عدد المشاهدات: 3059

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

من المعلوم بداهةً أن لكل شيء صورة وحقيقة، حتى الإنسان له صورة وحقيقة، فصورته الجسم، هذه الكتلة المادية التي تظهر أمام الإنسان الآخر وتظهر وتشغل حيزاً في عالم المادة، أما الحقيقة فهي كما قال شاعرنا:

أقبل على النفس واستكمل فضائلها            فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

حقيقتك قلبك، وحقيقة قلبك مَن في قلبك، حتى العمل له صورة وحقيقة، عندما تقوم بأي عمل له صورة وحقيقة، صورته هذه الشكلية التي تقوم بها، وحقيقته هي الغاية المرجوة من هذا العمل، عندما تقوم بالدراسة، تكون طالباً في مدرسة أو جامعة، فإنك تتحقق بالصورة، فتذهب إلى المدرسة وتعود منها، وتذهب إلى الجامعة وتعود منها، وتقعد على مقاعد الدرس في المدرسة وفي الجامعة، لقد قمتَ بالصورة، لكن الدراسة لها صورة وحقيقة، أما حقيقتها فهي أن تتحقق فعلاً بما من أجله تذهب إلى المدرسة، أنت تذهب من أجل أن تتعلم، ومن أجل أن تزوِّد نفسك بالمعلومة، ومن أجل أن يكبر العلم فيك، ومن أجل أن تزداد معرفةً وأن تفحصَ هذا الازدياد يوماً بعد يوم.

المهم إذا كان لكل شيء صورة وحقيقة، وإذا كان لكل عمل صورة وحقيقة، حتى الماء له صورة وهي الشكلية السائلية، وله حقيقة وهي الطهارة والصلاحية للشرب والصلاحية للري وهكذا...، فإذا كان لكل شيء صورة وحقيقة، فهل نحن في عالمنا العربي والإسلامي نعيش الصورة، أم نعيش الصورة والحقيقة، أم نعيش حتى الصورة من غير إتقان ونحن في أشد البعد عن الحقيقة ؟

الجواب وستوافقونني عليه: أننا في أعمالنا وتحركاتنا وسكناتنا واجتماعاتنا نعيش الصورة، وحتى هذه الصورة التي نعيشها ليست بتلك الصورة المحمودة، أما الحقيقة فنحن بالنسبة لها في مكانٍ بعيدٍ، حتى لا يمكن أن نتحدث عن بعدٍ بيننا وبينها، لأن المسافة أكبر من أن تُذكر في عالم البعد والقرب.

أيها الإخوة:

انظروا إلى اجتماعاتنا على مستوىً عالٍ، هنالك صورة، حيث يجتمع الرؤساء ويجتمع العلماء ويجتمع الفقهاء، تتحقق الصورة، تحسبهم جميعاً، لكن الحقيقة لا يمكن أن تكون مستقرة، هناك حيث الصورة تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، صورة من غير حقيقة، هذا الذي قلته مقدمة لشيء أريد أن نتحدث عنه ونحن نمارسه ونقوم به.

أولا: نعبد من غير خشوع وحب: أنت تعبد الله، أنت تأتي لتصلي، والعبادة عمل، وللعمل صورة وحقيقة، فأنت تحرك جسمك وتركع وتسجد وهذه صورة، ولو سألتك عن حقيقة العبادة، فهل أنت متحقق بها ؟ لعلك تسألني وما حقيقة العبادة ؟ أقول لك: حقيقة العبادة: حب وخشوع، رقة وإشعار مَن أمامك بالأمان، إشعار من حولك بالاطمئنان، هذه حقيقة العبادة. لذلك قلت نحن نعبد صورةً من غير حقيقة، نحن نعبد من غير خشوعٍ ولا حب. مَن منا في عبادته يعيش: "أرحنا بها يا بلال ؟" مَن منا يعيش في صلاته لذّة القرب مع الله عز وجل، كهذا الذي نقرؤوه عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في البخاري عندما قالت له السيدة عائشة وقد رأته يصلي حتى تفطرت قدماه: يا رسول الله تفعل هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك ؟! قال: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً ؟) والشكر للنعمة، والشكر يكون في السراء، فهو يجد النعمة في العبادة، وهو يشعر باللذة في العبادة، ولذلك قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، استشعر اللذة والخشوع والحب والأمان والاطمئنان، وبالتالي إذا استشعرت هذا فسأشكر الله عز وجل، من منا يتهيأ للصلاة من أجل أن يستشعر قربه من ربه ؟ من منا يصلي في الليل وفي صلاته يدعو ويقول كما قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما روي عنه من أدعيه: (يا رب أنت أحق من عُبد). من منا يتوجه إلى ربه سائلاً إياه المغفرة ؟ من يذكر سيد الاستغفار في صلاته النافلة ؟ من منا يرفع رأسه من الركوع ليقول لربه عز وجل: سمع الله لمن حمده، ربنا لكل الحمد. يستشعر ربه أمامه ويراه ويطّلع عليه، فيقول هذه الكلمات من قلبه وجوارحه ومن ذراته. نحن نعبد من غير حب وخشوع، ومن غير أمانٍ، ومن غير اطمئنان، إلا من رحم الله، ولا أريد أن أعمم، نحن صورة. يأتي أحدنا إلى المسجد ليصلي الجمعة، يأتي بجسمه وقد غيَّب وأعفى عقله وقلبه من الحضور ليقول له: كن حيث تريد أن تكون، كن في الدنيا، كن في المعمل، كن المتجر، كن في المال، كن في الجنس، كن في السفر، كن في المشكلة التي أعانيها، كن في الغَرض الذي أبتغيه، كن في الغاية المادية التي أريد أن أحققها... نعم، وليسأل كلٌ منكم نفسه، نعبد من غير خشوع وحب.

ثانياً: نتعلم من غير إحسان: أنتم أيها الطلاب من منكم يُتقن تعلّمه، والإحسان إتقان، نتعلم من غير إحسان، أنتم معشر الطلاب وأنتم الذين تقرؤون وتتعلمون في مدارس الحياة المختلفة، في السوق أوفي المدرسة أوفي العيادة أوفي المستشفى أوفي الثكنة العسكرية، أنتم تتعلمون في كل يوم سواءٌ أكنتم متعلمين بشكل مباشر في المدرسة، أو كنتم  في أمكنة أخرى، تتعلمون بشكل غير مباشر، من منكم يُتقن المعلومة استقبالاً وإحرازاً، من منكم يتقن المعلومة تعلماً وتمحيصاً، من منا يجلس أمام التلفاز ليتعلم بعض الأمور، وإن كنت لا أعتقد في التلفاز معلماً، وإنما التلفاز أمرٌ يجب أن ننظر إليه على انه وسيلة تسلية تُستغل بمقدار ما يُرضي الله عز وجل وليس وسيلة تعلُّم، ومن فمك أدينك، أنت الذي تقول أنا أتعلم من التلفاز بعض الأمور، حدِّثني بربك هل تتعلم أنت وتتقن لأن حقيقة التعلم إتقان.

ثالثاً: نعلِّم من غير رحمة: لأن حقيقة التعليم الرحمة، أن ترحم مَن تعلِّم، والرحمة كما قلت لكم أكثر من عشر مرات: الرحمة عطاءٌ نافعٌ برفق: ﴿فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾. أيها الأب أنت معلم فهل أنت تعلِّم برحمة وبرفق، بعطاءٍ من غير أن تنتظر الرد أو المقابل، أيها الأستاذ في مدرستك هل تعلّم برحمة ؟ هل تعلم التلميذ على أن هذا التلميذ ولدك ؟ وهل تعلم ولدك على أن هذا الولد أمانة في عنقك ؟ نحن نعلم من غير رحمة، كم نصرخ في وجه هذا الذي نعلّم ؟ كم تصدر عنا أفعال لا تليق بالإنسان العادي فضلاً عن المعلم ونحن نعلم ؟ كم نشتم هذا الذي أمامنا ونريد أن نعلمه ؟ كم نعبس في وجه هذا الذي نناقش ونحاور ؟ كم نتضجر من هذا الذي نعلِّم ثم بعد ذلك ندَّعي بأننا معلمون، وندّعي بأننا مُحاوِرون، ندّعي بأننا مُناقشون، ندَّعي بأننا أساتيذ، ندَّعي بأننا مدرسون ؟

الله عز وجل أرسل إلينا رسولاً منا، من أنفسنا، يزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، يزكينا ويطهرنا، لأن التزكية من نتائج الرحمة، إن لم ترحم من تُعلِّم فلن يكون هذا الذي تعلّم زكياً طاهراً نظيفاً، لن يكون مُزكّىً، إن لم تكن راحماً في تعليمك، إن لم تكن مضحياً في تعليمك فلن يكون هذا الذي يتلقى عنك مُزكّى مطهراً، وفكر في هذه العبارات ما شئت أن تفكر.

  رابعاً: نتلاقى من غير رابط: أيدي سبأ، نلتقي في الجامع، في السَّاحة، في الفرح، الرابط بيننا مفقود، حقيقة اللقاء أخوة وتعاون، علاقة حسنة، محبة وترابط، لذلك نحن نتحقق بالصورة، أما الحقيقة فغائبة في اجتماعاتنا ولقاءاتنا، أنتم الآن تجتمعون في عبادة وما أجمل هذا الاجتماع، وما أجمل هذا الموضوع الذي تجتمعون عليه، لكن حقيقة هذا الاجتماع مفقودة. من منا ينظر إلى هذا الذي بجانبه كما ينظر الواحد منا إلى ولده وإلى أخيه، كما يجب أن ينظر إلى أخيه، أنت تنظر إلى هذا الذي يصلي بجانبك على أنه كتلة لحمية مادية وُضعت بجانبك لا تلتفت إليها إلا إذا صدر منها شيء تنفر منه، ولا تقترب إليه إلا إذا استنجدك واستغاث بك فستنجده بمقدار ما لا يتعارض مع لهوك، وبما لا يتعارض مع شغلك الذي لا قيمة له، وبما لا يتعارض مع اقتراحاتك ومع نزهاتك، وهكذا دواليك... وجرِّبوا، فلو كلفك هذا الذي بجانبك جهداً أعتقد بأنك ستعتذر بصراحة وبتورية وبإشارة وبعبارة، نلتقي من غير رابط ونحن على استعداد أن لا نلتقي إذا اقتضى الأمر، فكثيرون منا يقولون: بعد الآن لن آتي إلى هذا المكان من أجل فلان. هو استسهل عدم المجيء لأنه في الأصل لما كان يأتي كان يأتي صورة، والصورة تستسهل في الترك، وتستسهل في الأخذ، أنت تأتي صورة، والصورة ما أسهل أن تتركها، ولو كنت تأتي في الحقيقة لما استطعت أن تقول هذا الذي قلته، لأن الحقيقة يصعب عليك أن تتركها وأن تبتعد عنها لأنها تلتصق بداخلك، لأنها تعطيك وجودك، وبالتالي لا يمكن أن تستغني عن ذلك.

أخيراً: نحن نتكلم من غير حرقة: ومن غير شوق ومن غير حُب، حتى أولئك الذين يخطبون، أحد علماء الهند قال: "ما أجمل قول الخطيب وما أروع تعبيره، ولكني لا أجد في عينيه بريق الحب، ولا أقرأ في وجهه نور الإيمان وسيما الحماس". من يتكلم منا في كل المحافل، في المسجد أفي المدرسة أفي التلفاز وعبر المنابر الأخرى يتكلم جامداً، ويتكلم جالداً، يريد أن يجلد، لا يتكلم بدافع الحب وإرادة الخير لمن يتكلم معه، لا يتكلم وهو يستشعر المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه هؤلاء، حتى الطبيب والمحامي، يتكلم الطبيب من غير مسؤولية، يتكلم المحامي من غير مسؤولية، يقول للمريض هذا ما عندي، فليأتِ هذا الذي جاء دوره، "التالي"، يريد المريض أن يستوضح من الطبيب بعض المسائل، يقول له الطبيب بكل جفاء وقسوة: هذا ما لدي، قلت الذي يجب أن أقوله، وانتهى الأمر، المحامي يقول نفس الشيء، الموظف يقول نفس الشيء، يأتي إنسانٌ بسيط لم يفهم الأمر، يقول له الموظف: أما فهمت ؟! لقد أعدتُ الكلام مرتين، انصرف يا أخي، وكأن كلاماً مقروءاً مفاده وإلا رميتك بأفظع الكلمات، وإلا وربما قالها صراحة أتيت بمن يجرُّك خارج المكان. الطبيب والمحامي والبائع والتاجر... أنت أيها الإنسان هل تستطيع أن تكلم تاجراً كبيراً وبأريحية ؟! وهل يستطيع أن يكلمك بشوق ولهفة كما يكلم إنساناً مسؤولاً ؟ تكلم تاجراً فيكلمك من طرف لسانه كما يقال إن كلمك، لكنه عندما يكلم إنساناً يتمتع بمسؤولية سياسية بسيطة يُقبل عليه بوجهه كله، علماً أن ذلك يكلفه الكثير، أما أنت فلا تكلفه سوى أن يتحقق بإنسانيته، لكننا عدلنا عن الحقيقة وسعينا إلى الصورة لذلك: (رب أشعث أغبر مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) هكذا قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا تنظروا إلى الصورة، فالعبرة بالحقيقة، إن الله أخفى أولياءه في خلقه، لا تعتمد على الصورة فالأصل في الأشياء وفي الإنسان وفي الأعمال وفي الأحوال، فلنعبد بحب وخشوع، ولنتعلم بإحسانٍ وإتقان، ولنعلم برحمة، ولنلتقِ على أساسٍ من محبة وتعاون وإرادة خير وأمان واطمئنان، ولنتكلم بحرقة من يريد الخير للناس كافة، ولنتكلم بشوق، ولنتكلم بحنان، ولنتكلم بحب حتى نقترب من تلك الحقيقة المنشودة والغائبة في واقعنا اليوم.

أسأل الله عز وجل أن يملأ قلوبنا من فضله وكرمه وإحسانه وأنواره وعطاءاته، وأن يملأ جوارحنا بالنور الذي يهدينا سواء السبيل، بالنور الذي يجعلنا فيما بيننا نلتقي على خير ونفترق على خير، نلتقي على ما ينفع الإنسان في كل الأرض ونفترق على ما ينفع الإنسان في كل بقاع الأرض، هيئ لنا من أمرنا رشداً يا رب العالمين، نعم من يسأل أنت، ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 23/4/2010

 

التعليقات

شاركنا بتعليق