آخر تحديث: الجمعة 26 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
المفارقة بين سلوك النبي وسلوكنا

المفارقة بين سلوك النبي وسلوكنا

تاريخ الإضافة: 2010/04/30 | عدد المشاهدات: 3265

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

منذ يومين التقيت صحفياً أجنبياً، ابتدأ حديثه معي قائلاً: أريدك أن تحدثني بعض الشيء عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فقلت له هو إنسانٌ تكاملت فيه الإنسانية، أوحي إليه من قِبل ربه، هو صادقٌ وأمين، هو عادلٌ ورحيم، هو مُحسِن سبَق مَن معه ومَن قبله ومَن بعده بارتقائه من سلَّم البشرية إلى سلم الإنسانية، ومن سلم الإنسانية إلى درجة الرحموية، هو إنسانٌ إذا أردتَ أن تتخيَّل القيم المثلى مُجسَّدةً فسيكونها، وإن أردتَ أن تتخيل القيم وهي مشخصة فستكون هذه القيم هي هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

شرحت له ما أعتقده عن هذا النبي العظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه قال لي بعد ذلك: لماذا وأنت تذكر كل هذه الصفات الرائعة، وأنا لا أشك إجمالاً في هذا الذي تتحدث عنه أنه متصف بهذا الذي وصفت به، لكن المشكلة عندي - هكذا قال - أنني أرى فرقاً واسعاً بين هذه الصفات التي تحدثتَ عنها، وقد شُخّصت في هذا الرجل العظيم، وبين أولئك الذين يدَّعون اتباعه في بلادٍ تسمى بالبلاد العربية، وفي بلادٍ تسمى بالإسلامية، فإني لا أكاد أجد إلا بعض أفرادٍ يكادون يتحققون بشيءٍ من هذه الصفات، أما بشكل عام، وعلى مستوى المجتمع فالأمر مختلفٌ جداً، تحدثت عن العدل، تحدثت عن الرحمة، تحدثت عن الصدق، تحدثت عن الأمانة، تحدثت عن كل صفة حميدة أنا لا أشكّ في وجودها في هذا الرجل، لكن لماذا لا يكون هؤلاء الذين يتبعونه ويحبونه على مستواه، وعلى طريقه وعلى مساره، ولو كانوا في أول الطريق ؟

أجبته بأن هذا الذي يسأل عنه هو ما نسأل عنه نحن، وقلت في نفسي لأكلمنَّ إخوتي في جامع التوحيد هذا الذي حدث معي، وأقول: لو أن كل واحدٍ منكم سُئل هذا السؤال فما سيكون جوابه ؟ أنعترف بالخطأ والخطيئة ونسكت، أنعترف بأننا أتباع شكليون لا أكثر ولا أقل، نحتاج إلى مستند تاريخي كبير حتى نُعفي أنفسنا من أن نتكلم عن حاضرٍ يجب أن يمتلأ سعياً وعملاً وجهداً ؟ أأقول له بأننا أمة شغلتنا أموالنا وأنفسنا وأهلونا عن المُثُلِ والقيم والاتباع ؟ أأقول له ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ؟ أأقول له نعصي الإله ونحن نزعم حبه، هذا لعمري في القياس بديع ؟ أأقول له إن حبنا زَعمٌ وادِّعاء لا أكثر ولا أقل ؟

المشكلة قبل أن تكون في ذهن الصحفي هي في ذهننا، ولذلك أنتم المعنيون بالإجابة على هذا السؤال الذي ينبعث من هناك، لأنكم تتحدثون عن شخصٍ اعترف الجميع بفضله وكرمه وإحسانه وعظمته وخلقه ورحمته وعدله، وكل القيم التي قلت عنها بأنها قيم مثلى. حدثوا أنفسكم، وأريد أن تكون الخطبة مُحرِّضة لكم أنتم الذين تستمعون من أجل أن تفكروا بعد الخطبة، ومن أجل أن تجيبوا أنفسكم حينما تُسأَلون من قبلها هذا السؤال.

نحن نعيش حالات تخلف على المستوى المعنوي والمادي شئنا أم أبينا، ثم بعد ذلك هذه المفارقة تتجلى في هذه الصورة التي أرسمها لكم، نحن نعيش تخلفاً على المستوى المادي وعلى المستوى المعنوي، ويُتوِّج هذا التخلف ادِّعاءٌ عريض بأننا أتباع النبي الأعظم صاحب الخلق العظيم، صاحب العدل، صاحب الكرم، صاحب العطاء، صاحب الرحمة، صاحب الوفاء، صاحب الصدق... تقول هذا ثم بعد ذلك أراك في حقلٍ مُجانب ومخالف لما تقول، وبذلك تُربِك من أمامك، وتربك نفسك، وتربك أولادك وتلاميذك ومن حولك، تتحدث عن الإيمان لكن مسارك لا يدل على أنك في هذا المسار أو في هذه الحركة، لا يدل على كونك مؤمناً، تتحدث عن حبك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد ذلك أرى بينك وبين هذا النبي فرقاً كما هو بين المشرقين.

هذا سؤال أردت أن أضعه في أسماعكم وقلوبكم من أجل أن يجيب عليه كل واحدٍ منكم، وبالتالي لا أريد أن يقتصر الجواب على تحريك الفكر، ولكن أريد أن تُتبعوا حركة الفكر بحركة السلوك، بالعمل والتطبيق، ما أجملنا حينما نتكلم ولكن... وضع نقطاً حينما نفعل. قلت البارحة لطلابٍ في كلية التربية: إن تحدّث الغرب عن الرفق بالحيوان أجبناهم نحن الأمة التي ترفق بالحيوان، ونأتي لهم بقصص ليست من حياتنا، نأتي لهم بقصص من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقف هذا الإنسان الغربي متعجباً، هو يتحدث عن رفقٍ بالحيوان في العصر الحاضر وفي الوقت الراهن، وأنت تحدثه عن الرفق بالحيوان فيما مضى، أما الآن وأنت الذي تقول نحن الأمة التي ترفق بالحيوان، يراك قاسياً ومعتدياً على جارك وطالبك وأستاذك وأبيك وأمك... ! ما هذا الذي تقدمه للناس عبر لسانك وعبر حركاتك وجوارحك ؟ ثمة بونٌ وفرقٌ شاسع، ثمة تناقض يا ناس، ثمة فشل في تقديم شخصياتنا، أدعُ الجواب لكم من أجل أن تفكروا، وبعد التفكير من أجل أن تجتهدوا وتعملوا، وبعد العمل من أجل أن تستمروا، وبعد الاستمرار من أجل أن تورّثوا مَن بعدكم، فأطفالكم الآن ينتظرون منكم سلوكاً، هم يحفظون ما تحفظون، وربما حفظوا أكثر مما تحفظون، هم لا ينتظرون منكم معلومات مخزونة، فلربما فاقت معلوماتهم المخزونة معلوماتكم المقولة، هم ينتظرون منكم سلوكاً، ينتظرون منكم ترجمة على أرض الواقع، ينتظرون منكم معاملة حسنة يُفرزها إيمانٌ بالقيم والأخلاق، في المستشفيات، في الجامعات، في المدارس، في الأماكن العامة، في الوظائف، في الثكنات العسكرية، ينتظرون منكم ترجمة واقعية، أنا لا أقول ولا أطالب بالترجمة العملية الكاملة، ولكن ينتظرون منكم بدايةً جادّة لترجمة عملية.

وتابع هذا الرجل أسئلته فقال لي: هل تعرض عليَّ بعضاً من أقوال هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟

عندي بعض الأوراق، وقد سجلت عليها في يومٍ من الأيام بعض الأحاديث، فاستللتُ هذه الورقة وقلت له اسمع، وهذا ما كنت قد كتبته منذ أكثر من ثلاث سنوات، وقلت له من غير تكلف: سأقرأ عليك بعض أقوال هذا النبي الكريم، وهذه الأقوال لم أسجلها ولم آخذها من أجلك وإنما كتبتها منذ زمنٍ بعيد إلى حدٍ ما.

الحديث الأول على سبيل المثال: جاء في البيهقي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه).

في حديث آخر يقول صلى الله عليه وآله وسلم حسبما جاء في مسند الإمام أحمد: (إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب) وأفهمته وأفهمت نفسي هذا الحديث، بأنك إذا رأيتَ منكراً، أي إذا رأيت على سبيل المثال قمامة في الشارع، لأن القمامة في الشارع منكر، فعليك أن تزيلها، لأن كثيراً من الناس يحصرون الأمر بأنك إذا رأيت إنساناً يرتكب منكراً فعليك أن تزيله، هذا جزء من الحديث ودلالاته، لكن الجزء الأهم عليك أن تزيل المنكر، أن تزيل كل شيء يؤذي المجتمع من أمام المجتمع، إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه، فهمنا الحديث هذا وحصرناه في الأمر السياسي فقط، إذا رأيتَ في بيتك، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث الصحيح: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). لا أريد أن أعلق كثيراً.

يقول صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في مسند الإمام أحمد: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، ولعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم) لعدوهم قاهرين وليس لأصدقائهم ولا لمن اختلف عنهم في حركتهم (لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من البلاء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا يا رسول الله فأين هم ؟ قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس) في بلاد الشام في بلادنا، في بلاد الرافدين، هل نحن لعدونا قاهرين أم أننا يقهر كل منا الآخر ؟ يقهر أخاه يقهر ومواطنه.

حديث آخر في البزَّار، قال صلى الله عليه وآله وسلم، وانظروا إلى يقوله رسول الله فيما يخص الاستهلاك الذي وقعنا في حبائله اليوم، فقد أصبحنا مستهلكين من غير إنتاج: (من أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه أخذ جيفة وهو لا يشعر) علمنا أولادنا وتعلمنا على الاستهلاك من غير إنتاج، وأن نأخذ من دنيانا أكثر مما يكفينا بآلاف المرات، وثقوا بأن ما نستهلكه أضعافَ ما يستهلكه الغرب، وأن ما ننتجه لا يمكن أن يسمى شيئاً مذكوراً.

يقول صلى الله عليه وآله وسلم عن رب العزة كما جاء في صحيح الإمام مسلم: (ابن آدم اذكرني بعد الفجر ساعة) وأنا لا أقول الذكر أن تجلس وتمسك السُّبحة وتقول الله الله، لا، اذكر ربك، واذكر حق ربك عليك، واذكر حق المجتمع عليك (ابن آدم: اذكرني بعد الفجر ساعة، وبعد العصر ساعة، أَكفكَ ما بينهما) من همٍّ وغمٍّ، سَلِ الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء، كلهم يجثم الهمُّ على صدورهم، وكلهم يشتكي من كلهم، وكلهم يضيع كلهم.

يقول صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في البخاري ومسلم: (ستكون بعدي أَثَرة وأمورٌ تنكرونها، قالوا يا رسول الله فما تأمرنا ؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم) قم بواجبك نحو ربك، نحو أخيك وجارك وعملك، نحو دولتك وشعبك ووطنك، وسل ربك ما لك.

يقول صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في ابن حبان: (عليك بتلاوة القرآن، فإنه نورٌ لك في الأرض، وذخرٌ لك في السماء) من الذي يتلو القرآن بالطريقة التي ألمحنا إليها مراراً وتكراراً ؟ من الذي ينظر في القرآن الكريم نظرة استمداد وتقرّب، ونظرة إمعان وتمحيص من أجل أن يكون القرآن دائماً على باله حتى يحركه نحو الخير، لأن القرآن يحركك نحو الخير والعدل والخلق الحسن، نحو الصدق والأمانة ؟

يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما في مسند الإمام أحمد: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يتفرقا) وقلت لكم منذ أكثر من سنة المقصود بالمصافحة المصافحة بالأيدي، والمصافحة بالقلوب، أن تصفح عني وأنت تصافحني، وأن أصفح عنك وأنا أصافحك، نحن نتصافح بالأيدي بيد أننا لا نتصافح بالقلوب، قلوبنا لا تصفح على قلوبنا، وأنت بقلبك لا تصفح عن أخيك، لكنك تصافحه المصافحة الشكلية، وهذه إحدى مشكلاتنا كما تحدثنا في الأسبوع الفائت عن الصورة والحقيقة، نحن أمة صورة وحتى الصورة غدت مُشوَّهة مهزوزة.

يقول صلى الله عليه وآله وسلم كما في الطبراني: (إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على قلبك أخيك المسلم) فمن يحرص منا أن يدخل السرور على قلب أخيه المسلم ؟

يقول صلى الله عليه وآله وسلم كما في ابن حبان: (إن الله سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه حفظ أم ضيَّع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته).

يقول صلى الله عليه وآله وسلم كما في البيهقي: (ألا أدلكم على دائكم ودوائكم ؟ ألا إن داءكم الذنوب ودواءكم الاستغفار) من يستغفر منا استغفاراً بقلبه وحركته ولسانه ؟ أنا أعلم أن بعضاً منا يستغفرون بالسُّبحة، يقولون بألسنتهم أستغفر الله، لكن الاستغفار الحقيقي أن تستغفر بقلبك، وأن تستشعر رحمة ربك، وأن تستغفر بجوارحك في أن تجعل جوارحك تدخل عالم الإنتاج الخيّر الذي يقدم للناس الخير.

يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد ولا يبغي أحدٌ على أحد).

يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من دعا رجلاً بالكفر أو قال يا عدو الله) واسمعوا أنتم أيها الإخوة كم من المسلمين عبر التلفاز وعبر الحديث العادي، وفي المسجد والمدرسة، كم من المسلمين يقولون لمسلمين آخرين يا أعداء الله ويا كفار، حتى الابنة، حتى الأم، حتى الأخ، حتى الأب، حتى الولد كثيراً ما يقول لولده ولأبيه ولأمه ولجاره ولصديقه يا عدو الله أين أنت ؟ كم كفّر بعضنا بعضاً من غير دليل سوى أنه يحب أن يكفّر ؟ دُعينا من أجل أن نأخذ الناس بالرحمة والحيطة، ولكننا نفعل خلاف ذلك فأحببنا أن يقول الواحد منا وتمتعنا بذلك أن يقول لأخيه الإنسان المسلم الذي يخالفه في أمر فقهي بسيط يا كافر، يا عدو الله: (من دعا رجلاً بالكفر أو قال يا عدو الله إلا حار عليه) رجع عليه، على القائل.

أخيراً، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) قلنا هذا في خطبتنا عن الإيمان ومقتضياته، أنت مؤمن ؟ نعم. الدليل (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) إن كنت كذلك فأنت مؤمن، وإلا لن تكون مؤمناً شئتَ أم أبيت أيها الإنسان الذي تدَّعي الإنسان والإيمان.

هذه مسؤولية ليست ملقاة على عاتق خطيبٍ أو متكلم أو مدرس، وإنما هي ملقاة على عواتقكم أنتم أيها المسلمون على اختلاف توجهاتكم ومستوياتكم الفكرية والمادية والمنصبية، كلكم معنيون، وكلكم مسؤولون: ﴿فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين﴾ وكلكم مرسلٌ إليهم.

اللهم وفقنا من أجل أن نكون على مستوى السؤال لنجيب الجواب الذي يرضيك ويرضي المؤمنين يا رب العالمين، نعم من يسأل أنت، ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 30/4/2010

التعليقات

شاركنا بتعليق