آخر تحديث: الثلاثاء 03 ديسمبر 2024      
تابعنا على :  

أخبار صحـفيـة

   
الإنسان والتنمية/ جريدة بلدنا

الإنسان والتنمية/ جريدة بلدنا

تاريخ الإضافة: 2011/10/11 | عدد المشاهدات: 2558

نشرت جريدة "بلدنا" الصادرة في دمشق بتاريخ الثلاثاء 27 أيلول 2011 وضمن صفحة (رأي) مقالاً للدكتور الشيخ محمود عكام بعنوان: مقامات فكرية في مفهوم الحرية، وفيما يلي نص المقال:

الإنسان والتنمية

ها نحن أولاء نحدد بداية الفرق الدلالي بين التربية والتنمية، لتكون الأولى متوجهة للإنسان بناءً وتكويناً، والثانية مرتبطةً بالكون "الأشياء" اكتشافاً ومعرفة وحُسن تسخير لتحقيق سعادة الإنسان المنشودة، وفي النهاية تشكل التربية والتنمية معاً "الحضارة" التي تأبى وترفض احتكارها لصالح التربية مستقلة عن التنمية، أو لصالح التنمية مستقلة عن التربية، قال تعالى: (وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب) هود:61.يقول المفكر الكبير علي عزت بيغوفيتش: "إذا سألني أحدهم: بماذا يمكن أن نتعرف على الأسس المسيحية للحضارة الأوربية ؟ سأجيب: في هيمنة مبدأ احترام الإنسان" (1).

وكتب أحد عمال ميناء طوكيو في مجلة نقابية عام 1992: "نحن نحيا حياة بلا حرية، وننوء بأعباء غير طبيعية، ونعاني عبء نظام غير عقلاني. أين قيمتنا كبشر ؟ نحن نعيش حياة غير آدمية" (2).

وبناء على ما ذكرنا فإننا سنعرض هنا مبادئ عامة لتنمية شاملة تتناول الإنسان وما حول الإنسان، العاقل وغير العاقل، وقد أردنا بـ "التنمية الشاملة" ما كنا أردناه من "الحضارة"، التي تجمع بين مساحات التربية ووجائب التنمية.

والقضية – في ظننا – غدت واضحة بيّنة، فلنذكر مطالب التنمية الشاملة العامة في مختلف المجالات:

1- في مجال الثقافة:

إذا كانت الثقافة تعني تحويل المعطيات المعرفية إلى سلوك، أي امتلاك هذه المعطيات وتمثلها والقدرة - بعدئذ - على ممارستها وقد أضحت سلوكات جادة، يشرف عليها الوعي الإنساني باستمرار، فيرعى ازدياد المطابقة بين القول والعمل، حتى يصل الأمر بهما إلى حد التماهي: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) آل عمران:78.

نعم، إذا كانت الثقافة هكذا، فإننا ندعو – ومن أجل تنمية شاملة في هذا الميدان – إلى:

أ- إزالة التناقضات الجذرية في المعطيات المعرفية، بتحديد المفهومات وتحديد أبعاد المصطلحات وحدودها، مثل: الدين، العلم، الدنيا، الآخرة، الحضارة، الإنسان، ... إلخ.

ب - العمل على إقامة مصالحة مع الثقافة الغربية، ومد جسور التواصل مع أهلها عبر قنوات التعارف والحوار: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات:12.

ج- التعامل مع السنن الإلهية في الإنسان والكون بجدية، والانعتاق من ربقة "الخوارقية": (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) الزلزلة:7-8.

د- البحث عن السبب الذي عطل اللغة ودورهَا في تحريك الإنسان وتحريضه ودفعه إلى الأمام: "فلماذا لا تكون الشعوب التي تقوم صَلاتها على النظافة وترتبط بالمراجعة الدائمة للوقت مثالاً للنظافة والدّقة ؟ ولماذا تصبح الشعوب التي تمتنع عن الطعام والشراب ثلاثين يوماً في العام مثالاً للمبدئية ؟ لماذا لم تحولهم التجربة الصعبة والقاسية طوال أربعة عشر قرناً من النظافة والدقة والمبدئية إلى طبيعة أخرى ؟ إن من يقدم جواباً مقنعاً عن هذين السؤالين يستحق جائزة نوبل" (3).

2- في مجال الفكر والعلم:

والفكر هو حركة العقل الطبيعية القائمة على التصور والربط، والتصور للمفهومات والربط للقضايا، وأما العلم فما هو إلا المعادلات في صيغتها النهائية التي وصل إليها الفكر، ففي هذا المجال ندعو – من أجل تنمية شاملة – إلى:

أ‌- التمييز بين إرادة الإنسان وقدراته: "يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة" (4).

ب‌- اعتماد قانون السببية، وهذا يعني البحث عن السبب، وعدم الوقوف على الظاهر المشكِل، فالشجرة بجذورها، والحرارة تُدرس أسبابها ولا يِكتفى بإزالتها، وهكذا.

ج- استثمار الإعلام في نشر الفكر، والإعلام هو الفرصة المضيَّعة، فيا ويحنا ونحن مقصرون هذا الشأن: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته) المائدة:67.

د- التوثيق والتحقيق، وهما ركنا العلم: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) البقرة:111. أثبتوا بالنقل الموثَّق حيث يتوجب، أو بالعقل المحقِّق والمحقَّق حيث يقتضي الأمر، وإلا فما أنتم بصادقين، وتسقطون.

3- في المجال الاجتماعي:

على اختلاف وتنوع تجليات الاجتماع من أسرة إلى مدرسة إلى جامعة إلى حزب إلى تكتل إلى تيار إلى دولة إلى...، وأهم ما يجب لحظه في هذا المجال من أجل تنمية شاملة منشودة:

أ- تعميق فكرة الواجب وأنه أساس الحق، معرفة والتزاماً.

ب- العمل على وقاية المجتمع من المرض الاجتماعي الأخطر وهو "الأنانية" أو "الأثرة"، ومعالجة المجتمع منه إن وقع أو انتشر أو استفحل أو استشرى.

ج- الموازنة العادلة بين سيادة الجماعة واستقلال الفرد، فلا سيادة على حساب الاستقلال، ولا استقلال يؤثر سلباً على السيادة، فلا اندماج ولا اندراج ولكن تكاتف وتعاون وتبادل ووحدة واتحاد وأخوّة: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) آل عمران:103.

د- الوفاء بالعقود الاجتماعية كلها، والتي تحفظ لكل عضو في المجتمع كرامته وحريته وماله وعرضه، فالمواطنة عقد، والجوار عقد، والمساكنة عقد، والمِدارسة عقد، والانضمام والانتساب لمنظمة دولية عقد، والإنسانية عقد.

وما ينقض هذه العقود هو الخيانة، الاعتداء، الظلم، ويُقابل النقض بمثله: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) الحجرات:9.

4- في المجال التربوي والأخلاقي:

إذا كانت التربية تُعنى برسم معالم الإنسان المنشود، ووضع المناهج التي تؤدي إلى إيجاد هذا الإنسان المتحقق بتلك المعالم، فإننا هنا نحرص على رصف المعالم وذكرها تحت عنوان "الإنسان المطلوب في التربية النهضوية لتحقيق تنمية شاملة" فهو:

أ- إنسان مشغول بمشروع عظيم: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) الانشقاق:6، (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم) العلق:1-3.

ب- إنسان الجوهر لا المظهر، وصدق الإمام علي كرم الله وجهه إذ قال:

داؤك فيك وما تبصر ودواؤك منك وما تشعر

وتحسب أنك جِرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

ج- إنسان الوسطية والاعتدال: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) البقرة:143، أي: على المتطرفين والمتسيبين.

د- إنسان الحرية والبحث والتفكر: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلق هذا باطلاً سبحانك) آل عمران:190-191.

وأما الأخلاق فهي - في رأيي – أمثلية في الأداء لتحقيق أفضلية في النتائج والغايات والأهداف، والأمثلية تجويدٌ وتحسين وإحراز شهادة الجودة "آيزو" في أعلى درجاتها بدافع الشعور بالمراقبة من قِبل من لا يغفل عن تفاصيل الإرادة وتفاصيل العمل: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" أخرجه الشيخان.

5- في المجال الاقتصادي:

ولعله المجال الذي ينأى عن اختصاصي، غير أني سأذكر فيه بعض القواعد التي تتداخل مع مثيلاتها في المجالات الأخرى الثقافية والتربوية، وقد أفدت فيما يخص هذا المجال من رسالة دكتوراه ناقشَها بعلمية جادة الدكتور محمد إقبال الخضر – في كلية الاقتصاد بجامعة حلب في حزيران 2005، وقد كنت أحد أعضاء لجنة المناقشة والتحكيم – فمن أجل تنمية شاملة يجب أن نعمل في هذا الميدان على:

أ‌- سيادة المفهوم الحقيقي لرأس المال، الذي هو "إنسان وأرض ووقت".

ب‌- الثقة والترابط الاجتماعي.

ج- الاستثمار الاجتماعي، وهذا يعني عمل كل أفراد المجتمع دون أي إهمال من أحدهم، ولتحقيق هذا ينبغي التشجيع على العمل دينياً ووطنياً.

د- تأمين بيئة قانونية آمنة مناسبة لعمل الإنسان وتنشيط الاقتصاد.

هـ- تطبيق منهج عدالة توزيع الثروة.

و- وجوب تحريك الملك كله في خدمة المجتمع، وإشاعة تحريم الكنز وتعطيل الأموال وتجميدها وتضخيم الأرصدة في البنوك، ولا سيما البنوك الخارجية.

ولو عادت الأموال التي في الخارج وتُدوولت في الداخل لكُفينا الفقر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

بقلم

الدكتور محمود عكام

مفتي حلب- مفكر إسلامي

الهوامش:

(1) انظر: "هروبي إلى الحرية"، علي عزت بيغوفيتش، ترجمة إسماعيل أبو البندورة، دار الفكر 2002.

(2) انظر: "اليابان: رؤية جديدة"، سميث باتريك، ترجمة سعد زهران، سلسلة عالم المعرفة.

(3) "هروبي إلى الحرية": مصدر سابق.

(4) رواه مسلم، وتتمة الحديث: "وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها".

لقراءة النص من المصدر، لطفاً اضغط هنا

التعليقات

شاركنا بتعليق