كانون الأول 1994 ، العدد 36
الرواد : الحوار
الساخن ما بين الايديولوجيات الاقتصادية راح يميل في السنوات الأخيرة إلى
الإنسان كمحور فاعل منفعل بعد أن حاولت بعض النظريات إلغاءه، وهو الحياة
وغاية الحياة الكبرى، وفي هذا اللقاء الموجز يستعرض سماحة الدكتور محمود
عكام أهم مقومات الاقتصاد الإسلامي بما يتحلى به من عقيدة وأخلاق و تشريع
تُوجِّه الإنسان لبناء ذاته.
سماحة الدكتور عكام: لا بد لنا قبل أن ندخل في تعريف الاقتصاد الإسلامي أن
نعرِّف علم الاقتصاد بشكل عام وموجز ؟
د.عكام : بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة و السلام على
رسوله وآله، وبعد :
الاقتصاد، كما أفهمه من تعريف الاقتصاديين هو : علم بقواعد تساعد على إرواء
رغبات الإنسان، وحاجاته اللامتناهية، بكمية الموارد المتناهية المحدودة.
وإذا رجعتَ إلى كل كتب الاقتصاد وجدت هذا التعريف، فإن صُبغ هذا العلم أو
تلك القواعد بصبغة إيديولوجية أخذ صفتها، وتمذهب بها، وصار موسوماً
وموصوفاً بها، فكان المذهب الاقتصادي كما يسمى، وقد برزت في قرننا الراهن
أو في بداياته، ونتيجة للثورة الصناعية في الغرب، والثورة البلشفية في
الشرق، مذاهب اقتصادية متعددة صُنّـفت في اثنين كبيرين؛ أما الأول فالمذهب
الاقتصادي الاشتراكي المقيّـد، والثاني المذهب الاقتصادي الحر. فالأول:
اصطبغ بصبغة المذهب الإيديولوجي فكان مرآتَه. والثاني: كان وليد انفصال
الدين عن الدولة، إذ لم يعد الدين بمسيطر على شيء يتعلق بظاهر الإنسان
تنظيماً وأحكاماً، وإنما اقتصر الدين على داخله، فصار ظاهر الإنسان - على
حد الزعم - منقطعاً عن الدين، وإن كان متأثراً به، منفذاً له، لأن الدين
نفسَه يقول له، كما تصورَ معتنقُه : أنت حر في اتخاذ الأحكام التي تريد
لتنظيم حياتك، دعه يمشي، دعه يمر.
الرواد : ما هي أهم ملامح الاقتصاد الإسلامي في القرآن الكريم
والسنة الشريفة ؟
د.عكام : الاقتصاد مرآة تتجلى فيها العقيدة والأخلاق والتشريع، ومن
أجل هذا كان لابدّ من الحديث عن اقتصاد إسلامي، أعني اقتصاداً نلمح من
خلاله العقيدة الإسلامية، والأخلاق الإسلامية، والتشريع الإسلامي أو الفقه.
ولقد مرت فترة سابقة ليست بقصيرة، ظن فيها كثير من الناس أن الإسلام لا
يمتلك مقومات اقتصاد خاص به، أو أن الإسلام يستعير من هنا وهناك تشريعات
اقتصادية ليتمم نفسه، أو ليُقنع بها أتباعه ورواده، ولكن الحقيقة أن آيات
الأحكام في القرآن الكريم، كان أكثرها منصباً على المعاملات التي تعني في
النهاية الحركة الاقتصادية، من دون أن تلفت النظر ابتداءً إلى " المذهب
الاقتصادي " أو " علم الاقتصاد ".
الرواد : وهل هناك شواهد على هذا، أرجو من سماحتكم التفضل بإيراد
بعضها كمثال ؟
د.عكام : نعم هناك آيات كريمة تناولت البيع، وأخرى تحدثت عن الرهن،
وثالثة تخصصت في الكسب، ورابعة نظمت شؤون الدَين، وخامسة بيَّنت استغلال
الموارد، وسادسة حثَّت على السعي والعمل، وسابعة نادت بضرورة رعاية المال
وتثميره فيما يعود على المجتمع بالخير،وهل هذا إلا اقتصاد ؟ وهل ذاك في
النهاية إلا وصف لرقعة المجال الاقتصادي عند الإنسان بأبهى حلل التشريع،
وأجمل منمنمات الأحكام؟ ذلك أن هذا التشريع وتلك الأحكام جاءت من الله
العليم بالإنسان المحيط به المسوّي لتركيبه، لاسيما إذا ألحقنا بتلك الآيات
الكريمة الأحاديث الشريفة التي شرحت وبيَّنت وفصّلت ما جاءت به الآيات.
على الباحث أن يرجع إلى أي كتاب في الحديث الصحيح؛ ليجد مئات بل ألوفاً من
الأحاديث التي نظمت المجال المالي، والساحة الاقتصادية عند الإنسان
بمنطلقات عقدية، وغايات عبودية، وأهداف تلامس الإنسان في داخله، إذ يسعى
إلى إرضاء الله في النهاية، وأجملُ الاقتصاد ما قـام على اعتقاد، وأدى في
نهايته إلى خدمة الإنسان، وإرضاء الدّيان، ولم يغيّب الضمير ولا الوجدان.
الرواد : لكل مذهب اقتصادي مقومات، فما هي أهم مقومات الاقتصاد
الإسلامي ؟
د.عكام : مقومات الاقتصاد الإسلامي هي:
أولاً - نظرة الإسلام إلى المال: المال في الإسلام مال الله. قال تعالى: (
وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) النور/33، وما ذاك الذي يحوزه إلا موظف
عليه، وصاحب حق في إدارته، يستثمره وفق قواعده، أعني الإسلام، ويصرفه على
ضوء أحكامه، فلا إسراف، ولا تبذير، ولا تضييع، ولا كنز، ولا اكتناز، ولا
تخزين،إنما قصدٌ ووسطية في الصرف، وتثمير وتشغيل وعمل في الاستمرار، وتوزيع
حقوق وجبت فيه على مستحقيها، واستشعارٌ للمسؤولية الملقاة على عاتقه، تجعله
في حالة طوارئ قاسية، وهو يقوم بمهمة الاقتصاد وتطبيقه: ( كلا بل لا تكرمون
اليتيم و لا تحاضّـون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا ً لـمّــاً
وتحبون المال حباً جماً ) الفجر/17. فالإسلام أقر تعلق الإنسان بالمال،
ولكنه لم يقره في تصرف لا إنساني حياله، فإنسانيةُ التعلُّق تستلزمُ
ربانيَّةَ التنظيم.
ثانياً - العمل فرض في الإسلام لتثمير المال: فمن كنزَ، أو اكتنز، أو كسل،
أو تقاعس، أو أعرض، فقد أعلن أحقيَّة غيره بهذا المال، وبالتالي لم يعد هو
بذاك الذي يرعاه، وعندها تقف الدولة منذرة، فإن استجاب واشتغل فنعمّا فعل،
وإلا تصرفت الدولة عليه، ومارست حقها في مال الله، فثمّرته و شغّـلـته،
وأعطت هذا " الكسول " درساً يفيد منه لينشط، فقد قال صلى الله عليه وآله
وسلم عمن أحيا أرضاً مواتاً ولم يثمّرها : "ليس لمحتجر حق بعد ثلاث ". على
أن العمل الاقتصادي له ضوابطه وقواعده، وهي منثورة في كتب الفقه، وأهم هذه
القواعد :
1- أنّ الربا حرام لا يجوز الاقتراب منه، وللإسلام فيه دراسة مستفيضة يمكن
أن نجعلها موضوع لقاء آخر.
2- وأن الاستغلال والاحتكار والغش والرشوة مرفوضة غير مقبولة. وهذا ما يسمى
بقواعد التَّرْك، لتأتي بعدها ضوابط الفعل :
3- فالتجارة أمر مرغوب فيه.
4- والزراعة قضية نُدعى إلى ممارستها.
5- والصناعة مدعاة تفوق في المجتمع نتنادى إليها.
وكل ذلك مضمَّخ بأخلاق الإسلام وغاياته وأهدافه، وأهم تلك الأخلاق : تعاونٌ
خيّر، وصدق واستقامة، وصراحة ووفاء : ( يا أيها الذيـن آمـنوا أوفـوا
بالعقود ) المائدة/1، ( و تعاونوا على البر والتقوى ) المائدة/2، ( من عمل
صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينَّه حياة طيبة ) النمل/97، صدق الله
العظيم. والعمل الصالح هو ما كان في خدمة الإنسان، مستنداً إلى قواعد
القرآن، ويُسعى فيه لإرضاء الرقيب الديَّان، (ولقد كتبنا في الزبور من بعد
الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون ) الأنبياء/105، وما الجنة التي وُعد
بها المؤمنون المتقون إلا تحريض على العمل والسعي، فمن أراد جنة خضراء
خيّرة فيها كل شيء، فليسعَ إلى أن يكون جزاؤه من جنس عمله، ويعمل على أن
تكون أرض الدنيا بالجنة شبيهة، فمن أسعد الناس بخدمته النافعة، أسعده الله
بجنته الواسعة، وما أجمل كلمة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يوم نادى
وصرخ في وجه هذا الذي جلس في المسجد يدعو بالرزق ليقول له: " اخرج فاعمل،
ولا يقعد أحدكم في المسجد يرفع يديه و يقول : اللهم ارزقني، وقد علمتم أن
السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ".
ثالثاً - الاقتصاد توفيق دقيق، وقصْدٌ منسَّق بين رغبات الإنسان
اللامتناهية، وموارده المتناهية : وقد كان الإسلام في توفيقه بينهما دقيقاً
رائعاً، فاسمع كي أعرض عليك : أما الرغبات فلا كَبت عليها، ولكنها موجَهةٌ
في إطار الحلال تشريعاً ومرسلة لتتناول الآخرة إيماناً: اسعَ أيها الإنسان
لإرواء رغباتك، ولكن هيهات أن تظن أن الدنيا يمكن أن تكفيك، فأنت أكبر منها
لأنها فانية، وأنت من ستبقى بعدها لتكون إنسان النعيم الخالد، في جنـة
الخلد، فهل تفضل الفانية على الباقية ؟ ( وللآخرة خيرٌ لك من الأولى، ولسوف
يُعطيك ربُّك فترضى ) الضحى/5.
وُجِّهت الرغبات إلى هناك، وحُدد ما بقي منها هنا بضوابط الشرع، وحُثَّ على
العمل تجارةً وصناعةً وزراعةً، وعُـدّ أفضل العبادة، فزادت الموارد على
الرغبات، ونودي الإنسان : أن أنفق ما زاد. وإنفاقك دليل اقتصادك، وعطاؤك
برهان فهمك لمذهبك الاقتصادي، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : " من كان
عنده فضل ظهر، فليَعُد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل مال، فليعد
به على من لا مال له ". وهكذا... حتى قال بعض الصحابة : حتى ظننا أنه لا
حقّ لأحدنا في فضل. رواه مسلم والترمذي . ولقد جرّب التاريخ هذا، فاكتفى
الناس، وعاشوا يرقبون ويرتقبون الجنة وكأنهم يعيشونها. وإلا قل لي بربك: أي
وسيلة يمكن أن تتكسر عليها أمواج الرغبات البشرية إلا هذا ؟ وقل لي بربك
:كيف يُرعى الإنسان ليكون عنصر خير إلا بهذا ؟ وهل هناك حلول في أمكنة أخرى
يمكن أن تكون البديل ؟ فما هي ؟ وأين هي ؟ .
الرواد : نأمل أن نجري لقاءات لمناقشة هذه الحلول مقارنة مع الحل
الإسلامي.
د.عكام : على رحب وسعة في مجلة الرواد الرائدة.
الرواد : وما هي كلمتكم الأخيرة ؟
د.عكام : إن كان لي كلمة أخيرة أبثها في صدرك بعد لقائك الماتع هذا
أقول : الاقتصاد إن لم يقم على اعتقاد لن يكون إلا بنياناً لا يطول عمره،
وإن ظُنَّ فيه البقاء. والاقتصاد إن لم يُغلَّف بالأخلاق، فهو حركة ملعونة
تُلمَح فيها الفائدة، ويبقى فيه الضرر أشد. وإنها لكلمة جيدة قالها غاندي :
" من لم يلبس ما يصنع، ويأكل ما يزرع، ويعمل ما ينفع فهو طفيلي " .
وأضيفُ عليها: ومن ظن أنه لن يرجع ليُسأل عما عمل وأوقع، فهو خائب في
الحياة، عبثيُّ الوجهة والتطلُّع. ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم
إلينا لا ترجعون ) المؤمنون/115 صدق الله العظيم.
التعليقات