آخر تحديث: الجمعة 19 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
إعداد الفرد فكرياً

إعداد الفرد فكرياً

تاريخ الإضافة: 2024/04/20 | عدد المشاهدات: 3734

أما بعد، أيها الاخوة المسلمون:
في مثل هذه الأيام يكثر الكلام عن الفرد كما بيّنا، إذ هو اللبنة الأساسية في كل المجتمعات ، وإن إعداده أمرٌ لازمٌ يتطلع إليه كل رواد الإصلاح، لا سيما وأن كلمة (الإعداد) اليوم غدت كلمة العصر، ومصطلحه الأكثر ذكراً، وعليها تتسابق الأحزاب والديانات والمذاهب، ولكن الإسلام سيبقى الأفضل، سيبقى الأقوى، وسيبقى المعطي الوحيد بما قدمه في هذا الميدان من نماذج ومبادئ. ولئن كان الإنسان ذا نفس وعقل وسلوك وروح، فإننا - أيها الاخوة - ينبغي أن ننظر إلى (الإعداد) على أنه ضروري، لكل المكونات من حيث النظرة لكل واحدة منها، وإلى هذه المكونات من حيث النظرة إليها جميعها، من أجل أن تصب في مصب الهدف الواحد، المحدد في إسلامنا بقول الله عز وجل: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) والمضيَّع في المذاهب والمبادئ الأخرى.
وقد تحدثنا في الأسبوع الماضي عن (الإعداد السلوكي) بأنه المظهر، وعن (الإعداد النفسي) بأنه المخبر، والآن نريد أن نتحدث عن (الإعداد الفكري) بأنه المنهج، والإنسان بدون منهج لا يمكن أن يُقبل، ومن سعى من غير منهج - هكذا يقول العلماء - فسعيه مردودٌ عليه، وسعيه مردود. إن المبادئ التي اعتمدها الإسلام في الإعداد الفكري :
أولاً: اعتماد العقل في قبول ما جاء به الإسلام:
اعتمد العقل في قبول كل ما أتى به هذا الإسلام، واعتبر العقل مناط التكليف، ثم دعاك أيها الإنسان من أجل أن تُعمل العقل، وتقوم بتشغيله، وذلك التفكر في آيات الله، لكي يكون العقل دائماً في يقظة، ثم لتكون بعد ذلك على أهبة الاستعداد حين يلقي إليك الأمور التي ينبغي أن تعتقدها، وأن تطبقها، والتشريعات التي ينبغي أن تقوم بها، الإسلام اعتمد عقلك فجعله مناط التكليف، ودعاك إلى تشغيله وإعماله، ثم بعد أن أضحى عقلك يقظةً قال لك خذ هذه المواد التي ينبغي أن تتبناها، ثم بعد ذلك سترى فيها إ ذا كان العقل يقبلها أم لا، وبذلك ورد عن النبي - بالنسبة لجعل العقل مناط التكليف - ما رواه الترمذي: " رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل " . فما دام العقل غائباً فلا تكليف إذاً وقال ربنا عز وجل يحثنا على إعمال العقل، من أجل أن يبقى العقل يقظاً دائماً وأبداً : ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ) . ثم بعد ذلك حينما دعاك إلى التفكير وجعل عقلك مناطاً للتكليف قال لك: خذ هذه الاعتقادات واجعلها مقبولة من قبل عقلك اليقظ، أتراك ستقبلها ؟ نعم ستقبلها ما دمت يقظاً في عقلك وتفكيرك، فاسمع إلى ربك جلت قدرته يدعوك من أجل أن تؤمن بالله الواحد القهار، فيقول بناءً على عقلك وعلى ما ينبغي أن يفكر به عقلك : ( لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا ) هل يقبل ذلك عقلك الذي جعلناه يشتغل ويفكر ويعمل ؟ أيقبل هذه المنظومة التوحيدية ؟ أيقبل بأن الله واحد ؟ إذاً خذ الدليل : ( لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا ) خذ الدليل على أن القيامة ستأتي بحول الله وقوته، وانظر أنت يا أخي الذي تُعمل عقلك وتفكر، نريد أن نعد العقل وأن نجعله يقظاً، ونريد أن نقدم له المنظومات التي تتناسب معه. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد، وأخذ بيده عظاماً باليةً وفتتها، قال: يا محمد أيحشر ربك هذا ؟ أيحييه بعدما رُمّ ؟ بعدما بلي، فأنزل الله قوله: ( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون. أوَ ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ) الإعادة أهون من الابتداء وهذه بدهية رُكّب عقلك على أساسها فيما أمرك بأشياء كثيرة. أمرك بالقرآن الكريم وقدمه إليك، قال لك: ينبغي أن تحاكم عقك في قبوله وإليك الحجة وإنني أتحدى، ربنا يتحدى يقول لك : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ). لقد أعد الإسلام فكرنا، أعد الإسلام عقلنا ، وجعله - أيها الاخوة - معتَمداً ، وأعمله ثم قدم له المعلومات التي تناسبه، فلا فرق بين ما قدم الإسلام، وبين ما يمكن أن يقبله العقل السليم الصحيح، ولذلك قلت لكم إن واحداً من علمائنا كتب كتاباً بعنوان " موافقة صريح المعقول لصريح المنقول " فلا يمكن أبداً أن يكون هناك تناقضاً. 
ثانياً: توحيد جهة المصدرية:
الأمر الثاني في الإعداد الفكري أنه وحّد جهة المصدرية، وحد المصدر الذي يجب أن نأخذ عنه، فقال تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) مصدر تفكيرنا، وعقلنا، وعلومنا، كتاب الله، لأنه يهدي للتي هي أقوم ، وقال ربنا جلت قدرته: ( وما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ، وقال من أجل أن يطمئن الناس إلى صحة هذا المصدر، وإلى وجوب الأخذ عنه: ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ) . 
أيها الإنسان: أنا أعرض أمامك كتاباً وأقدم لك مادةً فكريةً رائعةً، أقول لك: إن هذا القرآن إن استطاعت البشرية بأسرها - والتحدي قائمٌ وإلى يوم القيامة - إن استطاعت أن تأتي بمثل هذا القرآن فلتأت، فإن القرآن صباح مساء يعلن تحديه لكل الناس، بعد ذلك إن لم تستطع البشرية ذلك لا يبقى أمامها إذا كانت عاقلة إلا أن تذعن للأخذ من القرآن، ومما ورد في القرآن، ورحم الله رجالاً عقلاء استيقنوا هذا الأمر، ووضعوه في قلوبهم، وفي عقولهم، ووقف واحدٌ منهم كما يروي صاحب كتاب الشفا، سيدنا أبو بكر الصديق، وقف ليقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " ما عند رسول الله ليس عند أحد من الناس جميعاً ". إنه عاقل فوجد فهمه من خلال توحيده لمصدر المعلومات، فهو القرآن الكريم، هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقف سيدنا علي رضي الله عنه كما يروي صاحب كتاب حياة الصحابة يخاطب الناس - وسيدنا علي عاقل ومفكر - وإذا كنا لا نعتقد ذلك فأي الناس يريد أن يضع نفسه بجانب علي ؟ إنه بدايةً يقول: إذا سمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فظنوا به أنه أهدى وأنه أهنا وأنه أبقى. وهذا المنذر بن ساوى كما يُروى في كتب الرسائل التي أرسلها رسول الله يقول للعلاء بن الحضرمي : "نظرت المجوسية فوجدتها للدنيا، ونظرت الإسلام فوجدته للدنيا والآخرة، فما يمنعني من قبول ما فيه راحةٌ لدنياي وطمأنينة لآخرتي " ، لقد وقف وقال تلك الكلمة ووحد مصدره، ينبغي أن نتبع هذا المنهج، وهذا ثالث، وهذا رابع، كلهم وقفوا أمام هذا المصدر يعلنون الولاء له، لأنه لا يوجد مصدر يمكن أن يفوقه، أو أن يؤخذ عنه بجانب هذا المصدر، الإسلام أراحك، إذ أرادك أن توحد النظرة من حيث المصدر إلى القرآن الكريم والسنة المشرفة الشارحة لكتاب الله عز وجل. إن الأمر الذي اعتمده الإسلام في إعدادنا فكرياً هذا أيها الاخوة.
ثالثاً: التمام والكمال:
الذي اعتمده الإسلام في إعداد الفرد فكرياً فإنه - وأرجو أن ننتبه إلى نقطة يمكن أن تكون مسار حوار، ويمكن أن تُطرح وفي كل عصر - الإسلام تمم وأكمل، إذ أنه طرح لكل قضية أبعادها، واستوفى لكل مسألة أمورها، وتمم حيث إنه جعل الانسجام، وواءم بين كل القضايا بحيث لا تجد أي تغطية لقضية من القضايا التي أتى بها الإسلام تخالف المبدأ الآخر لقضية أخرى، ولهذا قال ربنا عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم ) فليس من قضية إلا والإسلام يتحدث عنها وبشكل كامل: ( وأتممت عليكم نعمتي ) فليست القضايا التي تكلم عنها الإسلام متنافرة في تغطيتها، وفي مبادئها وأحكامها، ومن هذه النقطة نستطيع أن نكلم الآخرين، أن نقول لهم : يا أيها الناس: إن أردتم فكراً اليوم فإنني أعطيكم معيار الكمال والتمام. الكمال: ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ). والتمام: أنك لا تجد بين كلمات القرآن الكريم، ولا بين أحكامه، ولا بين سنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تناقضاً واختلافاً، وإننا على ذلك لمدللون ومبرهنون، ومن أراد فليأتني.
- فإذا ما نظرت إلى العقائد رأيت أن الإسلام جاء بأقومها.
- وإذا نظرت إلى التشريعات رأيت أن الإسلام جاء بأحكمها.
- وإذا ما نظرت إلى العبادات رأيت أن الإسلام جاء بأعزها.
- وإذا ما نظرت إلى الأخلاق رأيت أن الإسلام جاء بأكملها.
- وإذا ما نظرت إلى القصص رأيت أن الإسلام جاء بأصدقها وأوسعها.
- وإذا ما نظرت إلى العلوم رأيت بأن الإسلام يتحدث عن أشملها وأوسعها نطاقاً.
بعد ذلك أيها الاخوة: أوَنريد غير الإسلام من أجل بنائنا فكرياً ؟ إن المذاهب الأخرى تطرح نفسها اليوم، وأريد أن أؤكد على هذا، تطرح نفسها في قضية معينة، في جانب المال مثلاً، في جانب الأخلاق، تطرح نفسها في جانب قضية من القضايا، ولو سلمنا جدلاً بذلك، ولكنها لا تقدم شيئاً في مجالات أخرى، وإن قدمت فإننا نجد من التناقض الكثير الكثير، بين ما قدمته في مجال المال، وبين ما قدمته في مجال الأخلاق، وفي مجال الإنسان، وفي مجال المبدأ والحياة والآخرة، والمادة، وما وراء المادة، ستجد فيها من التناقض ما يبعدك عن عقلك، عن ذاتك، ونستعيذ بالله من ذلك. وأنا أخاطب المفكرين وأقول لهم: أريد فكراً، أريد إعداداً يتحلى بهذين الوصفين: الكمال والتمام، أفقاً وشمولاً، من دون تناقض بين قضية وأخرى. أريد من الناس أن يقدموا لي فكراً كهذا، من الذي يستطيع أن يقدم فكراً يشمل الإنسان من لحظة وجوده، إلى لحظة مماته، ومن لحظة استيقاظه إلى لحظة منامه ؟ من الذي يضمن أن يقدم لنا فكراً يتصف بهذه الصفات ؟ وبالتالي ينبغي أن لا يكون التناقض موجوداً فيه. من الذي يضمن لنا ذلك ؟ إن كان الناس يملكون فكراً بهذا الشكل فليقدموه إلينا، فنحن لم نره إلى الآن. 
رابعاً: إيجاب الدعوة إلى الله:
إنه قال لك: من أجل أن تقوي التزامك ومبدأك ويقينك بما آمنت به، ينبغي أن تدعو إليه: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ).
أيها الإنسان: إن من جملة ما أعد الإسلام أتباعه إعداداً فكرياً أنه قال لهم: قولوا وادعوا إلى الله ولا تنظروا شيئاً سواه فإنكم على الحق والرشاد. ونحن اليوم ندعو إلى الإسلام الواضح الظاهر، الذي يتطلبه الناس بكافة مستوياتهم لا نريد غموضاً أيها الاخوة، ولعل الروعة في إعداد الإسلام لفكر الإنسان، أن الإسلام أتى واضحاً، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقف يومَ أُمِرَ أن يدعو إلى الإسلام، وقف وكان يردد بين الناس في أسواقهم، في ذهابهم، في مجيئهم، في ندواتهم: " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ". إنه عنوان الإسلام، وبالتالي ينبغي أن يطمئن الإنسان إليه. وأنتم يا شباب، أنتم: فكر الإسلام فكرنا، وعقيدته عقيدتنا، وسلوكه سلوكنا، ما أتى به الإسلام في مجال النفس هو لنا، ويجب أن ندعوا الآخرين إلى ذلك بوضوح لا التباس فيه، وإنني أعتقد أن الوضوح يؤكد على صحة المبدأ كتأكيد منطقية المبدأ على صحته، فحينما يجدني الناس واضحاً في دعوتي صادقاً فيها، أقول ما أعتقد، ولا أجعل هناك مفارقات بين ظاهري وباطني، عند ذلك أجعل في نفوس الناس تساؤلات، وأجد فيهم مباحثات ليقولوا : لو لم يكن ما يدعو إليه صحيحاً لما كان واضحاً، ولخاف من اتهام الناس. إن قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد دعا إلى ذلك، وطالب الناس أن يقولوا وأن يكونوا ذلك: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) فيا أتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثقوا أن إعداد الإسلام للفرد إعدادٌ رائعٌ، لا نقول هذا الكلام إلا ونحن مطمئنون إلى ما نقول ولن يستطيع أحدٌ أن يقول الكلام بالثقة التي نملكها لأننا أيها الاخوة بعقلنا فكرنا، وبروحنا صدقنا، وبقلوبنا أيقنا وآمنا، ولئن لامست للمبادئ الأخرى عقول الآخرين في سطحيتها، وقلوب الآخرين في ظاهرها، فإن الإسلام أوجد جيلاً يلامس عقولهم وأفئدتهم حتى ينطلقوا إلى الله دعاة صادقين ومن أجل أن يعتقدوا أن ربهم يراهم، فهم الذين يدندنون بقول الله عز وجل ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ). 
اللهم اجعلنا ممن يرجع إلى الإسلام من أجل كل إعداد النفس والسلوك، والفكر، والروح، والقلب، يا مولانا، نعمَ من يُطلب أنت، ونعم النصير أنت.

التعليقات

شاركنا بتعليق