أمَّا بعد :
أيُّها الإخوة المؤمنون :
و يتتابع الحديث عن " التربية "، وتتوارد الأسئلة عن محاور هذه التربية، هلاّ
تحدثتَ لنا عن التربية الوطنية ؟ وهل هناك ما يسمَّى بالتربية الوطنية في حديثك
، إذ تتكلم عن أفكارٍ تستلهما منَ الإسلام ؟ .
أيُّها الإخوة المسلمون :
ما أظنُّ أحدا ً يمكن أنْ يتحدَّث عن الوطن حبَّا ًووفاءً وكرامة كالمسلم،
فالمسلم هو الذي يتحرَّك في الوطن ، وقد ربط حبَّه بعقيدته ، المسلم هو الذي
يحمي الوطن ، وقد ربط حمايته بكلِّ ما يمكن أنْ يؤمن به مِنْ أركانٍ للإيمان
وأركانٍ للإسلام وأركانٍ للإحسان .
ما مِنْ شكٍ في أنَّ الإسلام رعى حبَّ الوطن في داخل الإنسان ، وهو فطرة ،
واستنبتَ هذا الحبَّ استنباتا ًحسنا ً، ففاض عطاءً و وفاءً للوطن الذي يعيش فيه
، ولذلك نحن بحاجةٍ إلى أنْ يذكِّر بعضنا بعضا ً بواجباتنا حِـيَال وطننا ،
وأنْ يذكِّر بعضنا بعضا ً بواجبات طلابنا حيال وطنهم ، وأنْ يذكِّر بعضنا بعضا
ً بواجبات كلِّ أولئك الذين يعيشون على أرض هذا الوطن، لضرورة الحفاظ عليه
والقيام بواجباتهم حياله . سيبقى الوطن غاليا ً في قلوبنا ما حيينا . ولمَ لا
والوطن جزءٌ مِنْ أرضٍ ممتدةٍ تشكِّل بالنسبة إلى المسلم مسجدا ً، فلقد قال
المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الحديث الذي يرويه الإمام مسلم : "
وجُعِلتْ ليَ الأرض مسجدا ًوطهورا ً، فأيُّما رجلٌ مِنْ أمتي أدركته الصلاة
فليصلِّ " ، وما دامت الأرض كلُّها مسجدا ً، فإنَّ وطننا الذي نعيش فيه بكلِّ
مساحاته ما هو إلا جزءٌ مِنْ هذا المسجد الكبير ، مِنْ هذه الأرض الكبيرة .
أيُّها الإخوة :
نحن الذين نريد أنْ نتحدَّث عن الوطن ، لكننا لا نريد أنْ يبقى الحديث دعايةً ،
ولا نريد أنْ يبقى الحديث كلاما ً لا يُحوَّل إلى ترجمةٍ عملية يعيشها هذا
المواطن ، ولا نريد للحديث أنْ يبقى فضفاضا ً، لكننا ننادي كلَّ فرد في هذا
الوطن :أنْ يا أيُّها المواطن ، هذا هو الوطن ، فقدِّم له كلَّ ما مكَّـنك
ربِّي عز َّوجلَّ منه ، مِنْ رعايةٍ وعناية و حماية وحبٍّ ، فذلك واد عبوديةٌ
تتوجَّه مِنْ خلالها إلى ربِّ العزَّة جلَّتْ قدرته ، فتحققُ مِنْ خلال ذلك ما
مِنْ أجله خُــلِقتَ ، يوم قال ربُّـك لك: ( وما خلقت الجنَّ والإنس إلا
ليعبدون ) .
أيُّها الإخوة :
واجبنا حيال الوطن ، وبالتحديد حيال سورية ، فلا نريد أنْ نتحدَّث بشكلٍ واسع
نتجاوز مِنْ خلاله حدودا ً نعيش ضمنها، فسورية لن تكون أغلى على غيرنا منها
علينا ، ولنْ يتعلَّق بها أحدٌ تعلُّـقَنا بها ، فنحن الذين نريدها مصونة ،
ونحن الذين نريدها محميَّة ، ونحن الذين نريدها أنْ تكون مجاهدة تقف أمام أعداء
الله ، أولئك الذين يريدون أنْ يستلبوا أرضها ، وأنْ يعيثوا فيها فسادا ً، منْ
أجل أنْ تدحر كلَّ غاشم ، كلَّ مفسد ، كلَّ مضلِّل .
واجباتنا حيال سورية :حبٌّ ووفاء ، بذلٌ وعطاء ، تضحيةٌ وفداء .
1- حبٌّ و وفاءٌ : حبٌّ ووفاءٌ علَّمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يوم وقف أمام وطنه مكة حالَ إخراجِه منها ووداعِه لها : " والله إنَّـك لخير
أرضِ الله ، وأحبُّ أرض الله لي ، ولولا أنَّ قومك أخرجوني منكِ ما خرجت " ،
ولما ذكِرتْ أمامه مكة ، مِنْ قِبَل رجلٍ يسمَّى أصَـيْل الغفاري ، كما جاء في
الطبراني ، بكى وقال له : " إيه أصيل ، أبكيتني وإنِّي لمكة لمشتاق " . علَّمنا
مصطفانا صلى الله عليه وآله وسلم حبَّ الوطن يوم وقف أمام جبلٍ منْ جبال الوطن
الذي يعيش فيه ، و يسمى الجبل أحدا ً، وقف وأعلن للملأ ، كما جاء في الحديث
الذي يرويه الإمام مسلم و الترمذي : " أحدٌ جبلٌ يحبُّـنا ونحبُّه " . إنَّه
حبٌّ ووفاء ، ولابدَّ مِنْ أنْ يترجَم هذا الحبُّ بعد ذلك إلى :
2- بذلٌ وعطاءٌ : إنَّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديثٍ يرويه
البخاري ومسلم : " الإيمان بِضْعٌ وسبعون شعبة ، فأفضلها لا إله إلا الله ،
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " ، وإنَّ الشُّعَـب بعدها لتتدرَّج لترعى كلَّ
شيءٍ في هذا البلد حيث يعيش المسلم ، وربُّنا عز َّوجلَّ ركَّز في داخلنا حبَّ
البلد ، ونرجوه جلَّ وعلا أنْ يمتِّعنا دائما ًبالتطلُّع إلى رعاية الوطن الذي
نعيش فيه .
أيُّها المسلمون تذكَّروا أنكم مطالَبون وأنتم توجِّهون أولادكم ، وأنتم
توجِّهون طلابكم ، وأنتم توجِّهون تلاميذكم ، وأنتم توجِّهون عمالكم ، وأنتم
توجِّهون جنودكم ؛ أنَّه بنبغي على الجميع أنْ يحافظوا على هذه البلد، على
أخلاقها ، على إسلامها ، أنْ يحافظوا على أنْ تكون بلدةً خيِّرةً معطاءة تنادي
بكلِّ ذراتها :أنَّ ربِّي الله ، وأنَّ كتابي القرآن ، وأنَّ المصطفى صلى الله
عليه وآله وسلم هو الشارح لكتاب ربِّي ، وهو القائد ، وهو الذي سنسير وراءه ، و
هو الذي يقدِّم لنا ما به نسير في دروب العزَّة والكرامة .
ألا مَنْ قدَّم خيرا ًلهذه البلد ؛ أسأل الله عز َّوجلَّ أنْ يوفـِّـقه ، ألا
مَنْ قدَّم خيرا ًلدِين هذا البلد ، لأخلاق هذا البلد ، لكلِّ خيرٍ يمكن أنْ
يَـنعمَ به أهل هذا البلد ؛ أسأل الله أنْ يمدَّه ويكافأه و يُـجْزلَ له الأجر
والثواب .
3- تضحيةٌ و فداءٌ : فنحن نعطي وطننا كلَّ ما يطلبه منا ، نعطي لسورية ، نعطي
لحلب ، نعطي لكلِّ مكان نعيش فيه مُهَجَنا و أرواحنا ، ونعلم علمَ اليقين أنَّ
الأرواح حينما تُـبْذل دفاعا ًعن الأرض ، فإنَّ صاحبها سيكون في عداد الشُّهداء
الذين هم أحياءٌ عند ربِّهم يرزقون .
سوريةَ ، لنْ يتغنَّى أحدٌ كتغنِّـينا بكِ .
سوريةَ ، أيَّـتها البلد الذي يسعَى منْ أجل أنْ يكون في مرابع النهضة
والاطمئنان والاستقرار .
سوريةَ،لا نريدك أنْ تكوني مع إسرائيل ولا نريدك أنْ تكوني مخدوعةً بكلامٍ مِنْ
أولئك الذين يحاولون جاهدين أنْ يحشرونا تحت خيامٍ سوداء .
سوريةَ ، نريدك أنْ تكوني دائما ًعزيزةً أبيَّـةً ، ونريد لأفرادك ، نريد
لمواطنيك أنْ يستلهموا هذا الحبَّ منْ ديننا ، منْ إسلامنا ، فلا يمكن أنْ
يمدَّنا بالحبِّ لك أيَّتها البلد الغالية إلا ديننا ، إلا قرآننا ، إلا
نبيُّـنا صلى الله عليه وآله وسلم .
مَنْ قتِل دونك يا سورية فهو شهيد : " مَنْ قتِل دون أرضه فهو شهيد ، ومنْ قتِل
دون أهله فهو شهيد ، ومنْ قتِل دون ماله فهو شهيد " . وإنَّنا لنتطلَّع إلى
كلِّ أولئك الذين يعيشون على تراب هذا البلد ، من أجل أنْ يحافظوا عليه ، أنْ
يحافظوا على كرامته ، أنْ يحافظوا على استقلاله، أنْ يحافظوا على أخلاق
المواطنين فيه ، وإنَّنا لننادي أنفسنا من أجل أنْ نقدِّم كلَّ ما تحتاجه هذه
البلاد ، ليتمَّ الخير فيها ، فلئن قال عن سورية غيرنا أنَّها بريقُ العيون ،
فإنَّنا نقول عن سورية بأنَّها عيوننا ذاتها .
أسأل الله أنْ يزيدنا حبَّا ًووفاءً ، و أنْ يزيدنا بذلا ًوعطاءً ، و أنْ
يزيدنا تضحيةً وفداءً لبلدنا ، لكي نكون أقوياء بانتسابنا لهذا البلد . إنَّ
الآخرين يحققون انتسابا ًخيِّرا ً لبلادهم ، وإنَّ الآخرين بالرغم منْ باطلهم
الذي يعيشون على فُــتاته ، يحاولون أنْ يقدموا وفاءً لبلدٍ لا ينتسبون إليه
تاريخا ًوحقا ًوعدلا ً، وإنما ينتسبون زورا ً وبهتانا ً.
إنَّ إسرائيل تنادي بحبِّ فلسطين ، وفلسطين ليست بلدا ً لهؤلاء الذين يعيثون
فسادا ً، والذين يقتلون فيها أطفالنا ، والذين يستحْـيون فيها نساءَنا، إنَّ
إسرائيل ليست كما قال هذا اللعين الآثم في خطبةٍ وقف ليعلن فيها شراسته :ستبقى
القدس عاصمةً أبديَّـة لإسرائيل .
لا يا أيُّها الإخوة ، ولكنَّـنا نريد أنْ نتعلَّم درسا ً لا يمكن أنْ ننساه :
إنَّ أهل الباطل في باطلهم يحاولون أنْ يزوِّروا التاريخ في حقائقه ، ويحاولون
أنْ يلملموا كلماتٍ لا تستند إلى مصداقية في عالم الواقع ، فنحن أوْلى وأجدرُ
بأنْ ننادي : إنَّ فلسطين ستبقى مسلمةً وعربية ، و إنَّ سورية ستحافظ على
هويَّـتها الإسلامية ، من أجل أنْ تكون خيِّرةً معطاءة ، نموذجا ً يُــقدَّم من
خلاله كلُّ خير ، وكلُّ عطاءٍ وحبٍّ .
إنَّ الأرض لنا مسجد ، وإذا كنا نرى للمسجد حُـرْمة ، فللأرض حرمةٌ كحرمة
المسجد ، ما دام النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أعطى لها صفةَ المسجديَّـة
.
يا إخواني إذا ً فلنشمِّر عن ساعد الجِدِّ لنبنيَ هذا البلد .
أنت أيُّها التاجر : اسعَ من أجل أنْ نبني هذا البلد ، ولعلك تسألني عن القانون
الذي تراعيه ، والذي تسير وِفقـَه وأنت تبني هذا البلد ، فإنِّي قائل لك : إنَّ
القانون ،وإنَّ النموذج هو ما قاله وما فعله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم
.
وأنت أيُّها الجنديُّ : بوركتْ سواعدك و أنت تستلهم القوةَ منْ كتاب الله .
بوركتْ سواعدك وأنت تستلهم العزَّة منَ الله .
بوركتْ سواعدك وأنت تحاول في سلوكك أنْ تكون مقتديا ً برسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم .
أنت أيُّها المعلم : بورك تعليمك وأنت تبني سورية ، وأنت تبني هذا البلد ،
وتستلهم البناءَ ومعالمَ البناء منْ كتاب ربِّـنا ، ومنْ سنَّـة نبينا صلى الله
عليه وآله وسلم .
وأنت أيُّها العامل : بارك الله بيدَيْـك اللتين تعملان ليلَ نهار من أجل بناءِ
هذا البلد بالخلق الحميد المستمدِّ منْ كتاب الله ، وبالسعي الحثيث المستلهم
منْ آيات الله ، وبكلِّ صفةٍ خيِّرةٍ تُـؤخَـذ منْ معالم وملامح سيرة المصطفى
صلى الله عليه وآله وسلم .
أيُّها الأطفال : مِنْ بسمتكم البريئة ، نريد أنْ نتطلَّع ، ونريد أنْ نستقرأ
مكامنَ الخيرِ الذي أضحككم .
أيُّها الأطفال : والذي جعلكم تبتسمون لتنيروا لنا مستقبلاً زاهرا ًإنَّما هو
الله ، والذي جعلكم تبتسمون هو الذي سيجعلنا نبتسم في حياتنا ، ما دمنا معه ،
وما دمنا نستلهم كلَّ تشريعاته التي جاءت فـي كتابه الكريم ، وعلى لسان نبيِّـه
العظيم محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم .
أيَّتها البلد أكرِّر دعائي وأقول : رعاك الله ، وأرجو الله أنْ يحفظك منْ كل
كائدٍ و أثيم ، ومنْ كلِّ غاشم ، ومنْ كلِّ فاسدٍ ومفسدٍ مضلِّل .
رعاك الله يا بلدتنا ، يا وطننا ؛ وأنت تقدِّمين لنا العلماء ، وتقدِّمين
الشهداء ، وتقدِّمين الأبطال والحرَّاس .
رعاك الله ، وأرجو لمن رأى منك الخيرَ وحرص عليه ، أنْ يُـوفـَّـق للخير ،
وأرجو الله لمن أراد بك شرا ًأنْ يدحرَه الله ، وأنْ يقضيَ عليه بالطريقة التي
يريدها .
اللهمَّ مَنْ أراد بهذا البلد خيرا ًمستلهَما ًمنْ ديننا وإسلامنا فوفقه لكلِّ
خير . ومنْ أراد به شرا ًفخذه أخذَ عزيزٍ مقتدر
إنَّك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .
والحمد لله ربِّ العالمين .
التعليقات