آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
الخوف ... توصيفه وتوظيفه

الخوف ... توصيفه وتوظيفه

تاريخ الإضافة: 2002/09/06 | عدد المشاهدات: 3166

أما بعد ، أيها الاخوة المسلمون : 
لاشك أن ثمةَ أمراضٍ تخترق جسمنا المعنوي ووجودنا غير المادي ، هذه الأمراض يطلق عليها أمراض نفسية . هل بالإمكان أن نعددها ؟ إنها كثيرة ، ولكنني سأتحدث اليوم عن مرض يمكن أن يكون سبباً لهذه الأمراض ، سأتحدث عن مرض هو في رأيي المرض الذي يستجلب أمراضاً نفسية كثيرة ، هذا المرض بكل بساطة هو الخوف . الذي أضحى سمةَ مجتمعاتنا ولا سيما تلك المجتمعات التي تُدعى بالمجتمعات العالم ثالثية ، ولكن ما الخوف الذي يُسمَّى مرضا ؟ 
الخوف - أيها الاخوة - الذي أدعوه بالمرض هو الخوف الذي يقتل الإبداع ، هو الخوف الذي يُورث الذل هو الخوف الذي يجعل من الإنسان منهزما في داخله هو الذي يفرزه الاستخفاف بالآخرين فاستخف قومه فأطاعوه هو الخوف المنفي عن أولياء الله عز وجل ( ألا إن أو لياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) هو الخوف الذي يمكن أن أصفه بالسلبي أو إن شئت قل : هو الخوف المُثَبِّط الذي يُدعى أحيانا بلغتنا بالجبن ، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قال : " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن ، ومن العجز والكسل ، ومن الجبن والبخل ، ومن غلبة الدين وقهر الرجال " الخوف الذي يقبع خلف النفاق ، الخوف الذي يقبع وراء الممالأة ، الخوف الذي يجعلنا دائما في حالٍ غير ثابتة مضطربة في حال قلقة تعيشه جُلُّ مجتمعاتنا العربية والإسلامية على مستوى التكوينات الاجتماعية وعلى مستوى الأفراد ، في داخلنا عفريت الخوف ، نتحرك خائفين ، نتكلم خائفين ، يخاف الواحد منا من الآخر ، يخاف من سطوة أخيه ويخاف من سَوْط أخيه ، من عصاه ، يخاف الولد من والده ، والولد من والده ، والحاكم من محكوميه ، والمحكوم من حاكمه ، والموظف من مديره ، والمدير من موظفه ، والجندي من ضابطة ، والضابط من جنديه ، وهكذا ... لقد عشش الخوف في مؤسساتنا وفي أماكن وجودنا وفي كل مكان . أنت تخاف من الآخر في الجامع ، تخاف من أن تقول فكرتك ، تخاف من أن تقول ما يعتلج في داخلك خشية اتهام ، تخاف أن تقول ما يدور في ذهنك ، تخاف أن تقول نقدك وأن تقول نصيحتك ، أن تقول موقفك تخاف إما من هذا وإما من ذاك ، تخاف لأن الآخرين أشرعوا سيوفهم ، يريدون أن يقتلوك إذا خالفتهم بالرأي ، يريدون أن يزيلوك من الوجود إن كان لك رأياً يخالف رأيهم . هذا مرض جدُّ خطير يستفحل فينا نعيشه نلامسه نحياه نتوكأ عليه ننظر إليه ، عيوننا خائفة ، جوارحنا يصيبها ارتجاف يُسَمَّى في علم النفس ارتجاف الخائف ارتجاف الحزين نخاف من الغد . يجب أن نخاف من الله ولكنَّ الخوفَ من الناس أخذ حَيِّزاً يجب أن نملأه خوفاً من الله ، ولكن الخوف من الآخر ولكن الخوف من الطاغوت - والطاغوت ليس حاكماً فحسب ولكن الطاغوت هو أنت أحياناً هو جارك هو أبوك هو أخوك هو معلمك هو شيخك - قلت مرة وأنا اكرر هذه المقولة اليوم : حتى السؤال غدا أمراً يُخاف منه نحاول أن تظهر الأسئلة على شفاهنا ولكننا وقبل أن يلامسها الهواء وخوفاً من أن نتهم بالسؤال من قبل من يتهم على غير أساس تعود الأسئلة الى دواخلنا لتتحول دواخلنا إلى مستنقعات للأسئلة كانت يجب ان تعيش ولكننا أمتناها وقضينا عليها . قل لي بربك هل تستطيع أن تقول رأيك الذي يعتلج في داخلك أمام شيخك ، أمام أستاذك ، أمام والدك ، أمام ولدك ، أمام زوجتك ، أمام زوجك ؟ أنت تخاف وأنا أخاف والخوف أضحى غيمة تظللنا وتمطرنا بوابل من الذل والضياع والهوان تمطرنا بكل ما يمكن أن يسمى صفةً سلبية جانحة جامحة لا قيمة لها . إن سألتني عن سبب الخوف أقول لك : سببه تربية فاشلة وهذا أولا تربية فاشلة . وإن سألنا من يربي سواء كان المسؤول أباً أو معلماً أو مسؤولاً عسكرياً كيف تربي ؟ ما الغاية التي تربي هذا الذي أمامك ليتحقق بها ؟ ما الغاية وما الهدف ؟ نحن نربي من أجل مستقبلٍ موهوم ، نربي من أجل مادة جامدة نحن نربي من أجل دقائق في عالم المادة لا يأبه لها ، يربي الوالد ولده من أجل أن يكون إنساناً لا يتكلم عليه أحد من أجل أن يكون إنساناً يحصل بيتاً فإن قصر في تحصيل البيت فالإنسان هذا لا قيمة له لذلك ترى الإنسان منا عبد بيتٍ كما قال المصطفى عليه وآله الصلاة والسلام في صحيح مسلم : " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة " يربيه ويضع أمام عينيه بيتاً فإن حصله فأنت أيها الولد إنسان صالح وإن لم تحصله فأنت فاشل . نحن نربي ونستنبت بذور الخوف في تربيتنا بذور الجبن في تربيتنا ، نربي لتحقيق مادة جامدة موهومة ، نربي على أساس مستقبل موهوم مزيف ، نربي الآخرين نربي من أوكل أمر تربيتهم إلينا على أن يكون الإنسان مبتعداً فرداً لا يلتقي الآخرين : عليك نفسك ، إياك أن تقترب من الآخرين ! الآخرون ذئاب ! عليك أن تبتعد ! إياك أن تتحدث عن قضايا هامة ! تحدَّث عن السفاسف ، تحدث عن أمور فارغة ، تحدث عن قصرٍ منيف ، تحدث عن سيارة فارهة ، عن مزرعة وفيرة ، تحدث عن هذا ، ولا تتحدث عن أسرة عاملة تبغي الخير ، لا تتحدث عن كلمة بَنَّاءة تكون شهيدَها ، ورجل قام إلى حاكم ورجل قام إلى إنسان ذي سطوة فقال له كلمة الحق ، لا نربى الإنسان على هذا . كلنا يذكر وما أروع هذا الذي نذكره على سبيل المثال قصةً نتغنى بها كثيراً قصة عبد الله بن الزبير يوم قالت له أسماء وهي أمه قالت له : أي بني إياك أن تعطي خصلة من دينك مخافة القتل ، إن الشاة إذا ذبحت لا يضيرها السلخ ، وذهب عبد الله بن الزبير وتعلمون انه استُشهد وقال قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة يخاطب أمه أسماء : 

أسماء إن قتلت لا تبكيني 

لم يبقى إلا جنتي وديني 

وصارم لانت به يميني

التربية الفاشلة - أيها الاخوة - نربي للدنيا لثرائها ولا نربي للدنيا لكونها دنيا من الدُّنو تقربنا إلى عالم الحق ، ولكننا نربي للدنيا الفارغة ، للسراب للوهم للضياع ، نربي من أجل أن نقول لإنساننا هل أنت قادر على التوليف ؟ لماذا لا تُوَلِّف كما يولف الآخرون ؟ هذه عبارات نسمعها في عالم السياسة وفي عالم الاقتصاد وفي عالم الاجتماع لمَ لمْ تولف ؟ انظر الآخر كيف يولف وأنت مقصر بالتوليف انظر إليه كيف أضحى وزيراً ! كيف أضحى أميراً ، كيف أضحى مديراً وأنت لازلت بعيداً عن التوليف ، وأنت أين فهمك وأين قدرتك ؟! يريدون من شبابنا أن يستنفذوا قدراتهم وقوتهم في التوليف الفارغ ، لدنيا هي للدناءة أقرب ، بل هي عين الدناءة . التربية الفاشلة سبب من أسباب الخوف والجبن .
السبب الثاني : ضعف الأيمان بالقدر وضعف الأيمان بالله الذي قَدَّر الأقدار . ما أجمل الحديث الذي كررته على المنبر كثيراً ، ما أجمل أن يكون هذا الحديث أمام بصيرتنا وبصرنا الحديث المعروف : " يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم إن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك " لعلكم تُصدقون حينما أقول مثل هذا الكلام وأشعر بالخوف لأنني فردٌ معكم أتلقى ما تتلقون لأننا نعيش حالة واحدة حالة مشتركة . إن العز بن عبد السلام الذي نذكره والذي نتغنى بمواقفه - لنحن أحوج إلى كلماته نحن بحاجة الى كلمة قوية تنفض عنا غبار الخوف الى كلمة قوية تربي في الانسان تطلعاً لا يستقيم الا مع الله - لقد قال لي بعضهم في يوم من الأيام إن فلاناً يمتلك شخصية قوية هيَّا لنزوره ، وذهبنا لزيارته وإذا بتلك الشخصية القوية كما قيل لي يتكلم شاتماً ويشتم متكلماً ،كلُّ ما يخرج من فيه لعانٌ وسبابٌ قلت له : أهذا معيار الشخصية القوية ؟! لقد أخافني والشخصية القوية لا تخيف ، وإنما الشخصية القوية هي التي تورث القوة . أتذكر يا صاحبي يوم وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه فقال : لو أنكم رأيتم في عمر اعوجاجاً فماذا أنتم قائلون ؟ قام واحد فقال : يا أمير المؤمنين لو رأينا في عمر اعوجاجاً قومناه بهذا السيف . هل كان عمر ضعيفاً ؟ لا . كان قوياً فورث القويُّ قوة وحينما يورث القوي ضعفاً ونفاقاً فعليه أن يفحص نفسه فهو ليس بالقوي . إنه الضعف بعينه إنه الذل الذي ورثه ذاك فورثه وأورثه مَن بعده . العز بن عبد السلام لقي حاكم مصر الصالح أيوب فقال له : يا أيوب - وليس في هذا الكلام احتقار والإسلام لا يريد أن يحتقر أحدٌ أحداً ولا نبخس الناس أشياءهم - يا أيوب ماذا ستقول لربك إذا سألك ألم أبوئك مصر فلماذا تبيح الخمور ؟ قال : وهل كلامك صحيح يا عز ؟! قال : نعم حانة كذا وحانة كذا . قال : ولكنها لم تكن في عهدي وإنما كانت في عهد أبي واستمرت . فقال له العز بن عبد السلام : يعني أنت من أولئك الذين قال الله عنهم : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) . قيل للعز بعد هذا الفصل كيف استطعت أن تقول هذا للصالح أيوب ؟! فقال العز لهم : لما كلمته استحضرت هيبةَ الله فصار أمامي كالهر .
السبب الثالث : التعلق بالدنيا . ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) . " لكل أمة فتنة - هكذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الترمذي وسواه - لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال " التعلق بالدنيا والعمل لها ولا أريد أن يفهمني أحد على أني أرفض العمل في الدنيا ، أنا أريد أن تعطي كل ذي حق حقه ، أنا أريد أن تعمل للدنيا وأن تعمل للآخرة ، أريد أن تعمل لطعامك وأريد ان تعمل لقيمك . نحن نعمل لطعامنا على حساب قيمنا والأصل أن نعمل لقيمنا على حساب طعامنا . أتذكرون يا إخوة منذ اثنتي عشرة سنة أو أكثر حدثتكم عن رجل يدعى سعيد الحلبي هذا الرجل سجنه ظلماً وزوراً حاكم في وقته يسمى إبراهيم باشا ودخل السجنَ الحاكمُ ليزور المسجونين ، وكان الشيخ سعيد الحلبي في السجن ومرَّ الحاكم بسعيد وسعيد جالس مادٌّ رجليه ، مر به الحاكم واغتاظ الحاكم ، لِمَ لمْ يقم سعيد ؟! تركه الحاكم مَكراً ثم خرج وقال : أخرجوا هذا الشيخ من السجن ودعوه يذهب إلى بيته . وذهب الشيخ إلى بيته ، وفي اليوم الثاني أرسل الحاكم ألف ليرة ذهبية مع رسولٍ له وقال له : اذهب إلى الشيخ وأعطه الليرات الذهبية ، وذهب الرجل وطرق الباب فخرج الشيخ : من أنت ؟ قال أنا رسول الحاكم ، يُسلِّم عليك ويقول لك خذ هذه ألف ليرة ذهبية هدية منه . - وهدية الحاكم من الذي يرفضها ؟ - قال له الشيخ : عُدْ من حيث أتيت وقل لمن أرسلك : ان الشيخ الذي مَدَّ لك رجله لا يمد لك يده . التعلق بالدنيا أوجدنا له ألف مبرر ، ولكننا عَدَلنا عن ألف أمر الهي بالتعلق بالآخرة من أجل التعلق المذموم بالدنيا ، بفتاتات ، بخميصة ، بقصر ، ببيت . الانسان بين موقف ورؤيا ما موقفك ؟ ما مبدؤك ؟ كيف تفصح عنه إذا لم تأتك ساعة تقول : لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله . في أي موقف ستعبِّر عن مبدئك ؟ أين ومتى ستعبر إن لم تعبر في مثل هذه المواقف ؟ إن دعيت إلى موقف تناله على حساب دينك هل تبرر ؟ نعم . نحن نبرر وأقوياء بالتبرير وعلى معرفة منطقية بالتبرير ، وينصحني أخي وينصحني صديقي أن أبرر ، ولكنهم أبدا إلا قلة لا ينصحونني أن أفكر ، لأن عصرنا أضحى عصر التبرير وانتهى منه التفكير . لذلك أدعو لا سيما ونحن مقبلون على افتتاح جامعاتنا ومدارسنا أدعو المربين من أجل أن يُذهبوا من نفوس أبنائنا الخوف إلا من الله ، الجبنَ الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لنربي أجيالنا على القوة . وأحترز فأقول : على القوة التي تعتمد العمل ولا تعتمد الادعاء . فالقوة التي تعتمد الادعاء زورٌ ووهمٌ وخيال ، وأما القوة التي تعتمد العمل والفهم فهذه هي القوة المنشودة التي نبتغيها وننشدها ونريدها ونسعى اليها . 
يا اخوتي في فلسطين وفي غير فلسطين ، في العالم الإسلامي كله أناشدكم الله أن نتعاون لتحقيق قوة ، فـ : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف " أناشدكم الله أن نتعاون حتى أكون قوياً بك على الحق وبالحق ، ولا أريد أن أكون لك أو أن تكون لي ممالئا لتحقيق باطل موهوم لأن الباطل في الأصل لا وجود له فما بالنا بباطل موهوم انتفى عنه الوجودان الوهمي والذي نثبت به وهماً والذي هو ليس بالأصل وجود . أناشدكم الله أن نتعاون لتذهبوا عني وأذهب عنكم الخوف والجزع والجبن ، لأنه مرض قاتل ولأنه يقبع وراء كل الذل ، وراء كل الضياع ، وراء كل الخنوع . 

أنت القتيل بأي من أحببته 

فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي

اللهم اجعل قلوبنا متوجهة إليك خائفة منك معتمدة عليك تلوذ ببابك ولا تلجأ في أمورها إلا إلى رحابك نعم النصير أنت ، أقول هذا القول واستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق