آخر تحديث: الجمعة 26 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
مقومات العولمة الخَيِّرة

مقومات العولمة الخَيِّرة

تاريخ الإضافة: 2003/02/28 | عدد المشاهدات: 4442

أما بعد ، أيها الإخوة المسلمون :
قال لي أخ صديق بالأمس عمَّ سنتكلم في خطبة الجمعة غداً , والأخ هذا أيضاً يقوم بخطبة جمعة في مسجد من مساجد حلب ، قلت له عن ماذا تريد أن نتكلم ؟ قال لي : هل نتكلم عن ترشيح مجلس الشعب ؟ قلت له : الأمر في رأيي أو الموضوع يجب أن يكون أكبر من هذا . قال لي : هل نتحدث عن ضرب العراق ؟ قلت له أيضاً القضية أهم من هذا . قال لي عمَّ تريد إذاً أن تتحدث ؟ قلت له : أريد أن أتحدث عن نفسي ، ولعلك أيضاً تتحدث عن نفسك . قال لي وهل نحن أهمُّ من هذا ؟ قلت له : إذا التفت الإنسان إلى نفسه يقوِّي إيمانه , يوسِّع مداركه , يُنَمِّي عقله , يسعى من أجل أن يحقق رسالته , إذا التفت كلٌّ منا إلى نفسه أعتقد أننا وأنا لا أقول أن التفت أنا بمفردي إلى نفسي ، وأن تلتفت أنت بمفردك إلى نفسك ، لكنني أريد من كلِ واحدٍ منا أن يلتفت إلى نفسه وأن ينظر نفسه وأن يسعى من أجل أن يكون موجهاً ومدرباً وأستاذاً ومعلماً وناصحاً ومربياً لنفسه , فإننا أهملنا أنفسنا وكما قال المثل الذي روي في الأثر : " من كان لنفسه مضيِّعاً كان لغيره أكثر تضييعاً " من ضيَّع نفسه ضَيَّع غيره ، ومن كان مع نفسه مهملاً فهو مع الآخرين أكثر إهمالاً .
لعلكم تسألون ماذا نريد من أنفسنا ؟ والجواب : نريد أن نلتجئ إلى الله عز وجل ، كل منا بطريقته ، وحينما أقول بطريقته لا أعني كيفيات بعيدة عن الإسلام وعن أسس الإسلام ، ولكن أقول لكل منا وجهة ، لكن الوجهات تدخل تحت دائرة الإسلام والشريعة الإسلامية ، نريد أن نلتجئ إلى الله ، نريد أن نصدق في التجائنا إلى الله ، أريد من المُرَشَّحين ، أريد من أهل العراق ، أريد من أهل سوريا ، أريد من المسؤولين ، أريد من الحكام ، أريد من الشعوب أن تصدق في التجائها إلى الله عز وجل ، وتذكرت وأنا أقول لأخي وصديقي هذه الكلمة ، تذكرت قصة وردت في السيرة النبوية يوم جاء أبرهة الحبشي من أجل هدم الكعبة ، وكان ذلك قبل ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى جاء هذا الرجل الغاشم والذي يشبه إلى حدٍ ما يسمى بالصهيونية الأمريكية ، أو الأمريكية الصهيونية ، جاء من أجل هدم الكعبة ، ولما أن وصل مشارف مكة سأل عن سيد القوم ، فقيل له : إنه عبد المطلب . فاستدعى عبد المطلب وقال له : إني أريد هدم الكعبة ، فماذا تريد ؟ قال له عبد المطلب : إنكم أخذتم عنوةً وغصباً إبلاً لي رواحل . فقال له أبرهة : أقول لك جئتُ من أجل هدم الكعبة وأنت تسأل عن إبلك ! فقال عبد المطلب : أنا رب الإبل والرواحل ، وللبيت رب يحميه . أنا مسؤول عن إبلي لذلك أطالبك بإبلي . عقلي يقول لي : كن صادقاً عما أنت مسؤول عنه وسترى بعد ذلك نتيجة طيبة . أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه . وترك عبد المطلب أبرهة وعاد إلى الكعبة ، وتعلق بأستارها وراح يقول :

لاهُمَّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك

ويقول صاحب السيرة النبوية المؤرخ ابن اسحاق : وكان مما قال عبد المطلب لربه : لا ملجأ منك إلا إليك ، وضعت نفسي في بابك .
نحن مكلفون ومأمورون إذا ما أوينا إلى فراشنا لننام أن نقول : باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه ، اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ، أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وجعلت اعتمادي عليك ، لا ملجأ منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت . هل نقول هذا ؟ وأنا أخاطب نفسي وغيري والمرشحين والمسؤولين وأهل العراق وكل العالم الإسلامي والعربي , هل نلتجئ ْإلى الله وهذا من مقتضيات الواقع الذي نعيش . يقتضي واقعنا أن نلتجئ إلى الله أولاً . ثانياً : يقتضي واقعنا أن نتَّحد ، واسمحوا لي إن كررت بين الفينة والأخرى دعوتي لكم من أجل وحدة تبتدئ بوحدة بينك وبين من يصلي بجانبك ، بينك وبين جارك ، بينك وبين أولادك ، بينك وبين زوجك . لقد ضربت الفرقة أطنابها بيننا ، فالواحد مفترق عن جاره ومبتعد عن زوجه وبعيد عن ولده ، ومختلف إلى حد العداوة مع مع ذلك المسلم الآخر ، يقتضي الواقع الراهن الوحدة ، يقتضي الواقع الراهن أن نرى أنفسنا وأن نفحصها حيال قوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) وأنا أتمنى على القمة العربية التي ستعقد ، وربما نشبت الفرقة فلم تعقد ، فإن عقدت فأتمنى على الجميع ، على القمة العربية وعلى القمة الإسلامية التي ستنظمها – هكذا سمعنا – منظمة المؤتمر الإسلامي ، أتمنى على القمتين أو على القمم أن تبحث في الوحدة ، في سبلها ، في آلياتها ، في طرق تحقيقها ، أن لا تبحث في الأمر الطارئ من أجل بعض الاحترازات أو بعض التطبيقات ، أتمنى على القمة أن تضع أمام أعينها ( واعتصموا ) على أنه أمر إلهي ( واعتصموا بحبل الله ) بالقرآن الكريم ، لا مفر لنا منه إن أردنا نجاحاً وإن أردنا فلاحاً ، وليسمع العالم العربي والإسلامي برؤسائه ، بحكامه ، بملوكه ، بأمرائه ، بشعوبه ، بمثقفيه ، ليعلم الجميع أن الخلاص في كتاب الله . كلمة مجملة ، ولعل بعضنا ينكر علينا إجمالها أحياناً ، لكننا سنكررها مجملة ، وسنفصل أحياناً وسنترك التفصيل للتطبيق من قبلكم أيها المثقفون ، أيها المسؤولون ، أيها العلماء ، أيها التجار ، أيها العاملون على مختلف توجهاتكم ، على مختلف تخصصاتكم ، فالوحدة يقتضيها واقعنا الراهن ، ومن غير وحدة تبتدئ بين أصغر خلية وتنتهي بين كل جغرافيا العالم الإسلامي وبين كل جغرافيا العالم العربي وبين كل آمال العالم الإسلامي وآمال العالم العربي ، وآلام العالم الإسلامي وآلام العالم العربي ، وحدِّث عن المشتركات ولا حرج ، فالمشتركات جد كثيرة ، الدينُ إسلام ، اللغةُ عربية ، لا تعصب لعرق ولكن انتماء لتبني الإسلام ، لهذه اللغة ، اللغة عربية ، الهوية إسلامية ، الرسالة إنسانية ، الخير هو المراد ، المنطلق إرضاء الله عز وجل . هذه قواعد وأسس وشعارات يجب أن نعيشها في مؤتمراتنا على مستوى الأسرة ، وفي مؤتمراتنا على مستوى القمة ، وفي مؤتمراتنا على مستوى المدرسة والجامعة والروضة والجامع على كل المستويات . يقتضي واقعنا التجاء إلى الله ، يقتضي واقعنا وحدة بين المسلمين كافة ، يقتضي واقعنا ثالثاً : مقومات لعالمية . وإن شئتم قولوا لعولمة خيِّرة . نحن نسمع بعولمة أمريكا بعولمة الشر ، يقتضي واقعنا أن نقدم للناس مقومات عولمة خيّرة ، ومقومات العولمة الخيرة : العلم الذي ابتعدنا عنه ، فأمتنا وعالمنا لا يمكن أن يصنف في سجلات الأمم المتعلمة . مقومات العولمة الخيرة ثلاثة : المقوم الأول : العلم " طلب العلم فريضة على كل مسلم " هكذا قال عليه وآله الصلاة والسلام كما جاء في سنن ابن ماجه ، والله عز وجل يقول : ( وقل ربي زدني علماً ) والله عز وجل يقول : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) . المقوم الثاني : العدل . والعدل أساس الملك ، فلا يمكن أن يقوم أو يكون نظام إنساني إلا بالعدل ، ولذلك أنادي نفسي وإخواني إلى تطبيق العدل بدءً من عدلك مع نفسك ، وعدلك مع أسرتك ، وعدلك مع موظفيك ، وعدلك مع عمالك ، وعدلك مع شعبك ، وعدلك مع أمتك ، العدل – ونحن إذ نذكر العولمة الشريرة – نذكر فيها العلم ، لكننا لا نذكر فيها العدل ، فهي ظالمة تكيل بآلاف المكاييل ، إذا ما أردنا مواجهة عولمة الشر فلتكن المواجهة بالعلم والعدل ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ونحن نريد أن نكون عادلين ، نريد أن نتبنى العدل في كل حياتنا ، نريد أن نعيش العدل صفة ملازمة لنا على مستوى الأفراد ومستوى الجماعات والمؤسسات ، نريد أن نعيش العدل غيمة تمدنا بمطر العطاء النافع ، نريد أن نعيش العدل ساحة تزدهر فيها كل صفات الفضيلة ، لأن العدل وراء كل فضيلة ، ولأن الظلم وراء كل رذيلة . اعدلوا أيها المسؤولون ، اعدلوا أيها العلماء ، اعدلوا أيها الحكام ، اعدلوا أيها الملوك ، اعدلوا فإن : " عدل ساعة خير من عبادة ستين عاماً " هكذا قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وأما المقوم الثالث فهو الرحمة : نريد أن نكون رحماء ، نريد أن نعطي الرحمة من تصرفاتنا ، من ألسنتنا ، من واقعنا ، من حياتنا : " ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " وكما قلت لكم من على هذا المنبر : الرواية التي أَتَبَنَّاها هي " يرحمُكم " ليس على الجزم وإنما على الرفع ، لأن الله يرحمكم باستمرار ، تعلموا الرحمة من الرحمن الرحيم . إن عولمة الشر لا تعرف الرحمة ، إنهم يصرحون بالقسوة ، بالبغضاء ، إن أمريكا التي تمثل عولمة الشر لا تعرف الرحمة ، وإن عرفتها فمن أجل مصلحة ، تعرفها مع الظالم ، وهذا ينفي الحكمة والرحمة ، أن تكون رحيماً مع الظالم فتلك ليست برحمة ، ولكن الرحمة تكون مع العدل ، ارحموا ، ونريد أن نخاطب المسلمين من أجل عولمة خيِّرة . الرحمةَ الرحمة يا مسلمون . الرحمة فيما بينكم ، الرحمة حيال إخوانكم ، الرحمة يا مسؤولون حيال شعوبكم ، الرحمة أيها التجار حيال فقرائنا ، الرحمة أيها الآباء حيال الأولاد ، الرحمة أيها الشيوخ حيال الناس وأنتم تحدثونهم ، ولا أريد أن يغدو الشيخ على المنبر عامل رعب وعامل تخويف ، ولكن أريد أن يتجسد فيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " يسروا ولا تعسروا ، بشروا ولا تنفروا " لقد قلت في مقالة كتبتها منذ سنتين : إن المواطن في العالم العربي والإسلامي تلاحقه ثلاث سلطات ترعبه : السلطة السياسية ترفع صوتها فوقه ، والسلطة الاقتصادية تهدده بالفقر صباح مساء ، والسلطة الدينية تهدده بالكفر والفسوق وتدخله جهنم قبل أن يدخلها ، وتُنَصِّب نفسها على باب جهنم ، تضع فيها من تهوى وتُخرج منها من تهوى ، والمواطن الضعيف العادي تلاحقه هذه السلطات وهو في حيرة ، أيلجأ إلى هؤلاء ! فالسوط مسلط عليه ، أم يلجأ إلى هؤلاء ! فالفقر يهدده ، أم يلجأ إلى هؤلاء ! فالكفر والفسق سيغدو عنوانه ، والنار تنتظره ، وجهنم فتحت ذراعيها لتستقبله ، ويبقى المواطن في حيرة إلى من يلجأ ! أقول لهؤلاء ، لتلك السلطات الثلاث : اتقي الله وكوني عادلة عالمة رحيمة ، العلم والعدل والرحمة مقومات لعولمة خيِّرة .
يا أخي ! يا من سألتني عمَّ سأتكلم ؟ أسأل الله أن لا يجعل كلامنا من غير أعمالنا . أسأل الله أن يجعل كلامنا من أعمالنا . أسأل الله أن يجعل ألسنتنا مسدودة ، وقلوبنا سليمة . أسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا .
وأخيراً : لما خرج حُصَين من عند رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام قال يا رسول الله – وقد أسلم – إن ورائي قوماً فماذا أقول ؟ قال : يا حصين ! قل – وأنا أقول لنا ولكم وللمرشحين ولأهل العراق وللعالم الإسلامي شعوباً وحكومات - ، أدعو الله بالدعاء الذي علّمه النبي عليه وآله الصلاة والسلام حصين ، قال : يا حصين ! قل : " اللهم إني أستهديك لأَرشدِ أمري ، وأسألك علماً ينفعني " فاللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا ، ونسألك علماً ينفعنا ، نعم من يسأل أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق