آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
مقومات الشهادة

مقومات الشهادة

تاريخ الإضافة: 2004/03/26 | عدد المشاهدات: 3511

أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون :

استُشهد رجل كبير ورجل ذو مقاومة مشروعة ، استشهد علم من أعلام الجهاد في عصرنا الراهن ، استشهد رمز من رموز المقاومة الحَقَّة في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل ورفعة دينه وتحرير مقدسات المسلمين ، لذلك وجدتني مضطراً للحديث عن الشهادة والشهيد .
أما الحديث عن الشهادة ، فالشهادة تقوم في رأيي على أربعة أركان :
الركن الأول : الشهيد هو من آمن بالواعد - الذي هو الله - آمن بالواعد الحق المعبود إيماناً أوصله إلى معاينة الموعود . يروي البخاري والديلمي أن صحابياً جليلاً يدعى حارثة لقيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال : أصبحت مؤمناً بالله حقاً . قال : إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولك ؟ قال يا رسول الله : أظمأت نهاري وأسهرت ليلي ، وإني لأنظر إلى عرش ربي بارزاً ، وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وإلى أهل النار يتعاوون فيها – رأى الموعود – فأقَّره النبي عليه وآله الصلاة والسلام بعد أن أتى بهذا الدليل ، بوركت يا حارثة . فقال يا رسول الله : ادع الله لي بالشهادة . واستشهد حارثة ، وجاءت أم حارثة تبكي وحيدها فلم يكن للأم إلا حارثة ، قالت : يا رسول الله : تعلم مكان حارثة مني ، فإن كان في الجنة صبرت ، إن كان في غير الجنة ليرين الله ما أفعل . فقال لها النبي عليه وآله الصلاة والسلام في رواية الديلمي : " أوهبلت ! أجنة هي ؟! إنها جنات ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى " .
يروي ابن إسحاق أن أنس بن النضر يدخل معركة أحد فيقول : والذي نفس أنس بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد .
الركن الثاني : أن تُنَفِّذ بسماحة وطيب نفس المعقود ، أن تنفذ ما تم بينك وبين خالقك ، والمعقود
﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتَلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به التوبة : 111 أن تنفذ بسماحة وطيب نفس ما تم عليه العقد بينك وبين المعبود .
لما تخلف أنس بن النضر عن غزوة بدر قال وعاهد ربه : لئن حَيِيت إلى – غزوة - أخرى ليرين الله ما أصنع . أن ينفذ بسماحة ما تم عليه العقد بينه وبين المعبود .
سعد بن الربيع لما استشهد وجاءه ابن عمته في الأنفاس الأخيرة وقال له : كيف تجدك يا سعد ؟ يقول سعد : أبلغ رسول الله السلام وقل له : جزاك الله خير ما يجزي نبياً عن أمته ، وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم إن خلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف .
الركن الثالث : فيحيا هذا الذي نفذ المعقود لدى خالقه حياة لا يمكن أن تحدها حدود ، حياة تتجاوز المعهود ، حياة لا يمكن أن يدركها محدود ، يحيا عند خالقه حياة لا يمكن أن يدركها محدود ﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ﴾
آل عمران : 169 . لما استشهد ابن رواحة في غزوة مؤتة كما يروي الترمذي وسواه قال عليه وآله الصلاة والسلام : " إني لأرى ابن رواحة يُرفَع على سريرٍ من ذهب في الجنة " حياة لا يمكن أن يدرك أبعادها ولذتها وحقيقتها محدود ، حياة لا أروع ولا أجمل ولا أعظم .
لما استشهد سيدنا جعفر في غزوة مؤتة أيضاً قال عليه وآله الصلاة والسلام : " إني لأرى جعفر بجناحين يطير في الجنة " ولذلك سمي جعفر بذي الجناحين لأن النبي رآه يطير في الجنة بجناحين ، حياة لا يمكن أن نتخيلها نحن الذين نعيش بمحدودية ، نعيش محدودين ، لا يمكن أن نتخيلها ، لكنها عظيمة والله ، لكنها جميلة والله ، لكنها رائعة ، لأن الله سماها حياة ﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ﴾
آل عمران : 169 .
الركن الأخير للشهادة : فأضحى شاهداً على أحقية ما من أجله بذل دمه ، فلتكن نصرة الحق دَيْدَن من خلف الشهيد ، الشهيد شاهد علينا ، شاهد على الحق الذي حمله في صدره وبذل من أجله دمه ، الشهيد شاهد على عصور ستأتي وعلى عصور مضت ، على أحقية ما من أجله بذل دمه ، فلتكن نصرة الحق دَيدَن من خلَف الشهيد ومن خلفه الشهيد . الشهادة أركان أربعة : أن تؤمن بالواعد الحق المعبود إيماناً يوصلك إلى معاينة الموعود ، وأن تُنَفِّذ بسماحة وطيب نفس ما تم عليه العقد بينك وبين المعبود لتحيا حياة لا يدركها محدود ولتكون شاهداً على أحقية ما من أجله بذلت دمك حتى يتابع بعدك نصرة الحق الذي من أجله بذلت دمك . هذه هي الشهادة ، الشهادة منظومة عظيمة في تصور من يريد أن يستقي التصور من قرآن ربنا ، الشهادة ليست كلمة فَضفاضةً مَطَّاطة تقال حيثما نريد ، لا ، الشهادة مصطلح إسلامي جاء في كتاب ربنا تحديده ، وجاء على لسان النبي عليه وآله الصلاة والسلام تأطيره ، وجاءت الرعاية الإلهبية مع العناية النبوية لترعى تحقيقه وتنفيذه . لا نريد أن نعيش بكلمات ليس لها جذور في ديننا وقرآننا وعقيدتنا وإسلامنا ، نريد أن نعيش مصطلحات ديننا ، لا نريد أن نصدر كلمات لإرضاء الناس لكننا نريد أن نعيش لإرضاء ربنا ، فمن لم يكن شهيداً بالمعنى الذي قلناه فليسأل الله عز وجل أن يمنحه الله ثواب الشهادة من خلال النية لأن الصحابة الكرام علمونا دعاء كانوا يدعونه بشكل عام : اللهم نسألك الشهادة في سبيلك . أما وأن الموت سيأتيك شئتَ أم أبيت ، إذن فلتختر الشهادة ، فلتدع الله بالشهادة ، سيأتيك الموت سواء كنت في فراشك ، أو كنت في بيتك ، أو كنت في دارك ، الموت آتٍ ، ولذلك العاقل من اختار طريقة الموت ، وسيختار طريقة الموت من خلال دعائه ربه ، الموت – كما قلت في مناسبة عاشوراء – الموتُ فَنٌّ كالحياة ، أنت تعيش ولكنك تَتفَنَّن في الحياة ، تتفنن في العيش ، تريد أرقى أنواع العيش ، تسعى من أجل ذلك ، تبذل ما لديك من قدرة لتكون حياً ، ليست الحياة العادية ، ولكنك تريد أن تحيا حياة راقية ، الموت فن كالحياة ومن سعى في حياته لرُقِيِّه فليسعَ في موته لرقيه ، قلت : الموت فَنٌّ كالحياة ، ومن لم يختر الشهادة النبيلة فسيختاره الموت الوضيع . لا ترتعد فرائصكم أيها الشباب من الشهادة لأن مضمون الشهادة الأساس وهو الموت آتيكم ، عِش ما شئت فإنك ميت . ولكن ألا يجدر بنا كما نفكر في فن الحياة أن نفكر في فن الموت ، في فن القدر المحتوم الذي لا يتخلف عنه أحد . هذه هي الشهادة .
أما الشهيد الذي بسببه تحدثنا عن الشهادة اليوم ، فالشيخ أحمد ياسين كتبتُ أسطراً في حقِّ هذا الشيخ وقلت عنه رحمه الله : الشيخ المجاهد الشهيد أحمد ياسين كان تَجرِبة حرة فأضحى قيمةً نبيلةً
رَحَل ولكنه باقٍ رغم أنف الحاقدين الآثمين الغُزَاة الباغين ، كان رمزاً للمقاومة الفلسطينية المشروعة وسيبقى كذلك .. بل ستزداد رمزّيته وتقوى ، فهو مؤسّس حَمَاسِِ الفلسطينيين في عصرنا الراهن – ولا أعني حماسَ المنظمة وإنما أقول مؤسسُ حماسِ الفلسطينيين ، فهو مؤسس حماسَ حماس ، وحماسَ الجهاد ، وحماسَ الجبهة ، وحماسَ فتح ، لأن " حماس " نعني بها حماسة ولا نعني بها اسم علم - وستكون شهادته تأسيساً لنصر قادم أكيد ، فالشهادة - كما تعلَّمنا - طريق النصر .
الشيخ الشهيد أحمد ياسين : حياته تجربةٌ غنيةٌ بالحق ، ممزوجةٌ بالعدل ، قائمة على ابتغاء وجه الله ، فيها كل مقوِّمات الجهاد الحق في سبيل الله ، وكل مقومات السعي لإعلاء كلمة الله من أجل نصرة الضعفاء والمستضعفين ، ففلسطين عاشت به وعاش بها ، والقدس والأقصى كانا همَّه الذي لا يفارقه ، وهو في كل أحواله لم يغادر ساحة الاتباع لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وها هو بعد استشهاده يتحوَّل إلى قيمةٍ نبيلة عظيمة تأخذ رقماً متقدماً في سلسلة الشهادة النورانية العادلة . لقد ترجَّل " القعيد " وتحرك " المشلول " ولم يعد الحديث من أي جهة كان عن السلام الخادع والمراوغ مقبولاً ، وعلى من يهمهم أمر فلسطين والقدس والأقصى وكل المقدسات أن يتجهوا إلى مسار المقاومة – وهنا أقول : لعل بعض الناس يقولون : لِمَ تفرض هذا الخيار على خيارات أخرى ؟ أقول وبمناسبة انعقاد مؤتمر القمة الذي سيكون في التاسع والعشرين من هذا الشهر : نحن لا نفرض خياراً ولكننا نطالب الحكام أن يأخذوا رأي شعوبهم ، نطالب الحكام العرب والمسلمين ، والحكام في العالم كله أن يأخذوا رأي شعوبهم فيما سيقررونه ، ما دامت الشعوب على حد زعمهم هي التي نَصَّبتهم ، فالوكيلُ لا يجوز أن يخالف إرادة الموكِّل ، نحن قلنا : حينما نتحدث عن خيار المقاومة فمن أجل السلام ، لأن هؤلاء لا يفهمون الحوار وها هو دليل آخر يضاف إلى الأدلة على أن هؤلاء أعداء الله لا يفهمون حواراً ولا يريدون حواراً ، لذلك إن قاومناهم فمن أجل السلام ، لا نريد المقاومة لذاتها ، ولكن نريد المقاومة للوصول إلى السلام ، السلام هو مبتغانا ، ولا نعدل عنه ، ولكن الطريقة اليوم تفرض نفسها أمام عدو آثم ، أمام صَلَف هذه الفئة الطاغية المجرمة ، تفرض نفسها ، حتى وإن كنا أقلَّ سلاحاً وأقل عدة ، هو لا يرعى هذا ، هو لا يقيم لذلك وزناً ، أعلن أنه يريد القضاء على كل أفراد المقاومة ، أفنسكت ؟! نحن لا نريد المقاومة لذاتها ، إنما نريد المقاومة من أجل السلام ، وعندما يتحقق السلام فنحن أهل السلام ، نحن الذين ندعو الناس إلى السلم والسلام ، إلى أن يدخلوا ساحة السلام ، ولكن من حمل أمامك البندقية ودعوتَه للسلام وقتل منك واحداً واثنين وثلاثة وأربعة ، ماذا تقول له ؟ عليك أن ترد عليه بمثل ما اعتدى عليك ، وإلا فأنت غير مسؤول عن كلامك أمام من يرفع في وجهك بندقية وسلاحاً وطائرة ودبابة ، لذلك أقول على كل الناس أن يتجهوا إلى مسار المقاومة التي هي تكتيتك وليس استراتيجية ، استراتيجيتنا هي السلام ، لكننا الآن فرضت علينا المقاومة فماذا نفعل ؟ أنستسلم وننادي إذ تفرض المقاومة وننادي بالسلام فهذا استسلام . - لا خيار لنا سواها ، قلنا هذا سابقاً ونؤكده اليوم ونحن نبكي الشهيد أحمد ياسين ، وما أظن أن أحداً يتمتع بقليل إسلام أو عروبة أو مروءة أو شرف يُصِرُّ على علاقة سلامٍ مع العدو الأثيم بعد هذا الذي حدث ، ووفاؤنا لقضيتنا المركزية القضية الفلسطينية يُحَفِّزُنا من أجل تحويل الدموع على الشهيد إلى غاراتٍ نارية نصبُّها على الأعداء والغُزاة وحلفائهم المختلفة ألوانهم وانتماءاتهم ومبادؤهم .
أيها الشيخ الشهيد : بَلَّغت رسالة المقاومة الحَقَّه بصدقٍ وأدَّيت أمانة الشهادة بوفاء .
طبت شهيداً شاهداً على الحق المفدَّى ، وطاب دمُك عنواناً على مقاومة المحتل حتى الإجلاء .
إن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن ، وإنا على فراقك يا شيخَنا لمحزونون .
ونذكر بالمناسبة شهداء كثيرين قضوا معك ، وقضوا قبلك ، نذكر أعلاماً في الشهادة في عصرنا الراهن ، لهم أسماء رائعة في صفحة الشهادة ، نذكر عز الدين القسام ، نذكر عباس الموسوي ، نذكر فتحي الشقاقي ، وهؤلاء كانوا قادة لجماعات مقاومة ، نذكر أبو علي مصطفى ، نذكر شهداء كثيرين ، نذكر أولئك الذين كانوا في الصف الثاني والثالث ، كانوا في الصف الثاني بحسب الظاهر ، لكنهم عند الله ربما كانوا في الصف الأول ، أو ممن يتقدم على الأول ، نذكر هؤلاء ونقول : طبتم شهداء وطاب من بعدكم مقاومين في سبيل الدفاع عن مقدساتنا وإيماننا وحريتنا وعقيدتنا ، لتكن نصرة الحق دَيْدَنُكم ، أنتم الذين تخلفون الشهيد وقد خَلَّفكم الشهيد . اللهم إنا نسألك أن توفقنا لوعي في أقوالنا ، وأن توفقنا لصحة في عملنا ، ولإخلاص في قولنا وعملنا ، وأسألك أن تحسن ختامنا وأن تختار لنا طريقة في الموت ترضاها ، يا رب العالمين ، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق