أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:
حين نمتدح إنساناً ما نُبعد عنه أن تكون نفسه ضعيفة، بل نقول إن نفسه كبيرة، ولا أعني بالكبيرة المتكبرة، وذلك حسب قول الشاعر:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
أتريدون أن نربِّي أولادنا على أن تكون نفوسهم كبيرة أو بالأحرى قوية، أم تريدون أن نتركهم أصحاب نفوس ضعيفة، تنهشهم المغريات والشهوات والنزوات ؟! أتريدون أن نترك أبناءنا وبناتنا وطلابنا من أجل أن يكونوا فريسة لفساد يقتحمهم في مختلف نواحي ومجالات الحياة، أم تريدون لهذا الجيل أن يكون أصحاب نفس قوية يواجهون الصعاب ويسعون من أجل أن يكونوا أكبر من كل فساد يريد أن يقتحمهم، وأكبر من كل شهوة تريد أن تنال منهم وأكبر من كل سوء يريد أن يتخطفهم، وأكبر من كل ظلام يريد أن يسكن إهابهم ؟ إذا كنتم حريصيين على أن يكون أبناءنا أصحاب نفوس قوية، فعلموهم وقدموا لهم ما به تصبح نفوسهم قوية، وبالتالي يكونون قادرين على أن يواجهوا الصعاب والشدائد وكل ما يريد أن يقضي على إنسانية الإنسان، علموا أبناءكم وأبناءنا وطلابكم وطلابنا علموهم مقومات النفس العظيمة القوية التي تهرب منها الصعاب والشهوات والنزوات، ولئن سألتموني عن مقومات النفس القوية القادرة على مواجهة الصعاب فإني قائل لكم ما يلي:
أولاً: الإيمان بالله عز وجل ذي الصفات المطلقة، أتريد أن تكون نفسك قوية ؟ إذن ما عليك إلا أن تتفحص إيمانك بربك ذي الصفات المطلقة العظيمة اللامتناهية، إذا كنت تؤمن بربك على أنه الفعال المطلق، على أنه الرزاق المطلق، على أنه الجبار المطلق، على أنه المعطي المطلق، على أنه المانع المطلق، على أنه على أنه... فإنك عندئذ تضع لبنة قوية في صرح هذا الذي نذكره ونسعى إليه، صرح النفس القوية. جاء رجل كما في صحيح الإمام مسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك ؟ قال : (قل آمنت بالله، ثم استقم) أتريد أن تُرزق ؟ فما عليك إلا أن تتطلع إلى الرزاق المطلق، أتريد أن تكون قوياً ؟ فما عليك إلا أن تستنجد بالقوي المطلق، أتريد أن تكون عالماً ؟ إذن هيا إلى أن تلتجئ وتلوذ بباب العليم العلام القدير الحكيم. كل ما تريد أن تصل إليه فعند الله خزائنه، عند الله مطلقه، عند الله مُستَودعه، فهيا إلى الإيمان بالله من أجل أن يكون الإيمان بالله لَبِنة في صرح النفس القوية التي ننشدها، رحم الله من قال وهو يقابل صفاته الضعيفة بصفات الله القوية حتى تغطي صفات الله صفاتنا الضعيفة وحتى تنمحي صفاتنا الضعيفة أمام صفات الله القوية لنقوى بصفات الله عز وجل:
أنا مذنب أنا مخطئ أنا عاصي هو غافرٌ هو راحمٌ هو عافي
قـابلتهـن ثلاثة بثلاثة ولتغْلِبَنْ أوصـافه أوصـافي
ثانياً: الثقة برسول الله صلى الله عليه وسلم، أيها الإنسان أينما كنت، في داخلك حاجة إلى إنسان رائع من أجل أن تتطلع إليه حتى يكون قدوتك وأسوتك وأنموذجك، هذه حاجة مُستَودعة فيك، في كل إنسان منا لا يمكن إنكارها، حاجة إلى إنسان قوي عظيم تحقق بما نريد أن أتحقق به من رفعة ومجد وعبودية، ومن شجاعة وكرم وأخلاق، وما عليك إلا أن تثق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يساعدك على أن تضع اللبنة الثانية في بناء صرح النفس القوية، أتريد إنساناً من أجل تلبية تلك الحاجة المستقرة في داخلك والتي تعني تطلعاً إلى أنموذج، أتريد إنساناً أعظم من هذا الذي قدمه القرآن الكريم لك: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾، ﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً﴾ أنت رسولنا يا محمد إلى كل الناس على الإطلاق منذ أن بُعثت إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، (أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب والعاقب الذي ليس بعده نبي)، (أنا نبي الملحمة أنا نبي المرحمة) هكذا قال سيدي رسول الله عن نفسه صلى الله عليه وسلم، (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب).
ثالثاً: الاطمئنان إلى المصير، ما عليك من أجل أن تبني صرح النفس القوية إلا أن تطمئن إلى المصير بعد أن آمنت بربك ذي الصفات المطلقة وبعد أن وثقت بنبينا عليه الصلاة والسلام اطمئن إلى المصير على مستوى الدنيا وعلى مستوى الأخرى، فإذا اطمأننت إلى المصير والمصير جيد فأنت صاحب نفس قوية، مصيرك ممتاز في الدنيا والآخرة: ﴿كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلي﴾ اطمئن إلى المصير، جاء في سنن البيهقي أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم عاد من إحدى الغزوات فمر بالسيدة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، نظرت إليه وبكت، ما يبكيك يا فاطمة ؟! قالت يا رسول الله أنظر إلى وجهك وقد اصفر لونك وإلى ثيابك وقد اخلولقت فأبكي فقال لها المطمئن إلى المصير والذي يريد أن يطمئن أتباعه أيضاً إلى مصير النصر والرفعة ما داموا يسعون إلى بناء نفسٍ قوية، (يا فاطمة: إن الله مانع أباك، يا فاطمة والله ما من بيتٍ من شجر أو حجر أو مدر إلا وسيدخله هذا الأمر حتى يبلغ ما بلغ الليل والنهار) اطمئن إلى المصير إذا كنت تؤمن بالله وبرسوله، واطمئنانك على مستوى الدنيا والآخرة إن الله ناصرنا، في بداية غزوة بدر وقف رسول الله مطمئناً إلى المصير إلى النصر وقال: (هنا يُقتل فلان وهنا يقتل فلان)... أبشروا النصر آتٍ إذا كنا نطمئن إلى المصير على مستوى الدنيا وسنطمئن إلى المصير على مستوى الآخرة، وإننا إن شاء الله سنكون قد وضعنا اللبنة الثالثة في صرح بناء النفس القوية التي تعني قوة في مواجهة كل ما يمكن أن يؤذي هذا الإنسان الذي يمثِّل خلافة الله عز وجل على وجه الأرض.
اللبنة الرابعة: توحيد جهة التأثير، من الذي يؤثر عليك فعلاً ؟ الله. من الذي يُعزِّك ؟ الله. من الذي يذلك ؟ الله. من الذي يعطيك ؟ الله. من الذي يمنعك ؟ الله. من الذي يرزقك ؟ الله. لذلك نكرر دائماً: واعلم أنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع ولا يفرق ولا يجمع ولا يخفض ولا يرفع إلا الله. الله هو المؤثر ونحن نكرر كل أسبوع: ﴿وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير﴾ نكرر كل أسبوع كلمات جاءت في القرآن الكريم تثبت فيك الإيمان وان المؤثر المطلق هو الله وحده لا سواه ولا يؤثر إلا الله، فهيا من أجل أن توحد جهة التأثير، (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) يجب أن نكرر هذا الحديث كثيراً أمام أبنائنا من أجل أن يتأصَّل فيهم، من أجل بناء صرح النفس القوية: ﴿ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد﴾، ﴿أليس الله بكافٍ عبده ﴾ نعم، وما ثمة من يكفِ العبد إلا هو، فيا من تسعى إلى نفس قوية وحد جهة التأثير واعلم أن الذي يميتك هو الذي أحياك، أحياك ربي ويميتك ربي، أمرضك ربي ويشفيك ربي، أعطاك ربي ويمنعك ربي، رفعك ربي ويخفضك ربي. وحّد جهة التأثير، ارفع يديك إلى ربك في دعائك وقل: يا رب لئن لجأ غيري إلى غيرك فأنا الذي لا ألجأ إلا إليك، ولئن اعتمد غيري على غيرك فأنا الذي لا أعتمد إلا عليك، ولئن لاذ غيري بغيرك فأنا الذي لا ألوذ إلا بك.
اللبنة الخامسة والأخيرة الاعتراف بواقعية الإنسان ونفي المثالية الخيالية عنه، أيها الإنسان هذا الدين الحنيف، هذا الإسلام العظيم الذي يريدك صاحب نفس قوية يعترف بك إنساناً واقعياً يأكل ويشرب ينام ويسهر يقعد ويقوم يخطئ ويصيب يذنب ويطيع، فإذا أذنبت فلا يكن اليأس مستقراً بين جنبات صدرك، الإسلام اعترف بك من أجل أن تكون نفسك قوية، اعترف بك إنساناً واقعياً يترك ويعمل فإذا اعترفت بنفسك على أنك واقعي كان هذا أدعى أن تكون واقعياً، نحن قومٌ إن مسَّنا طائف من الشيطان تذكرنا فإذا نحن مبصرون، نحن قوم لا نقول عن الإنسان أنه لا يمسه طائف من الشيطان نحن لا نقول عن الإنسان بأنه لا يذنب، لكننا نقول عنه بأنه يذنب ويتوب، قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث يرويه الإمام مسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) أيها الإنسان الخطاء لا أريدك أن تموت قبل أن تموت، ولا أريدك أن تعيش حالة يأس تقضي عليك لتقول أنَّى لي اللحاق بأولئك الذين قضوا حياتهم في عبادة وطاعة، في عمل وجهد، لا أريدك أن تصل إلى حالة يأس مثبطة، لكنني أريدك أن تكون صاحب أمل بربك، فإن ربك كما جاء في الصحيح (يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)، أتريد أملاً أكبر وأوسع من هذا الأمل الذي شرع بابه أمامك.
لا يسعني إلا أن أقول لكم: هيا إلى تربية نفس قوية وننشد القوة للنفس من أجل أن تواجه الصعاب والملذات، حدثني أيها الشاب عن شخصيتك حينما تضعف أمام منكر يريد أن يلتهمك، حدثني عن نفس لا تستطيع الصمود أمام قرش حرام من أجل أن تقول: لا، ﴿معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي﴾، اقرأ سيرة الصامدين أصحاب النفوس القوية، اقرأ سيرة إبراهيم، اقرأ سيرة يوسف، اقرأ سيرة محمد عليهم الصلاة والسلام، اقرأ سيرة أبي بكر وعمر ومعاذ ومصعب، وسائر هؤلاء الجيل الذين كانوا الأسوة والقدوة بعد الأسوة العظمى محمد صلى الله عليه وسلم.
يا أبناء هذا الوطن الوطن يُبنى بنفوس قوية، لا تعرف الكلل ولا الملل الوطن يبنى بنفوس لا تقف عند المعصية فتهوي في قاع النفس، الوطن يُبنى بنفوس تتطلع إلى عطاء غير محدود من ربك الذي هو غير محدود، من ربك الذي يمد هؤلاء وهؤلاء، الوطن يبنى بأبنائه الذين يتمتعون بنفس وصفت في تاريخنا بأنها كبيرة:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
فهل أنتم أصحاب نفوس قوية أم أننا أصحاب أجساد قوية تتعب في مراداتها النفوس، لتكون ضعيفة لا تبحث إلا عن قليل وعن فُتاتٍ، وهذا ليس من طبيعة الإنسان الذي أراده الله خليفة كما جاء في القرآن الكريم: ﴿إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون﴾.
يا ربنا بسر محمدٍ وآله، أسألك أن تجعل نفوس أبناء وطننا وأمتنا قوية من أجل أن تُنازل الصعاب ومن أجل أن تقضي على الفساد بكل صوره، قوِّها يا ربّ من أجل أن تكون أقوى من كل مكرٍ وسوء، قوِّ نفوس أبناء هذا الوطن، إنك على ما تشاء قدير، نعم من يُدعى أنت، ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت بتاريخ: 4/7/2008
التعليقات