أما بعد ، أيها الإخوة
المؤمنون :
ها نحن ندخل العشر الأواخر من رمضان ، وهذه الأيام كما سماها رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم عشر العتق من النار ، وتعلمون أننا مررنا في الأسبوع
الماضي بذكرى بدر ، المعركة الفاصلة ، يوم الفرقان ، يوم البطشة الكبرى ، يوم
التقاء الجمعان كما سماها القرآن الكريم . خطر ببالي وأنا أقرأ وقائع هذه
الغزوة أو المعركة أو الحرب أو القتال خطر ببالي سؤال وجهته لنفسي ، قلت : لقد
تحدث القرآن عن قلة عدد المسلمين وقلة عدتهم ، وبالرغم من كل ذلك فقد انتصروا ،
وجاءت في القرآن الكريم آية تصف حال أولئك ﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة
بإذن الله ﴾ البقرة : 249
والسؤال : ما الذي
رفع من طرف أو من أحد طرفي المعادلة ، ما الذي رفع الأقلاء في العدة والعدد
ليكونوا الغالبين ، أي شيء وُضِع في كفة هؤلاء حتى رجحت على كفة أولئك الذين
كانوا أكثر عدداً وأكثر عدة ؟ الجواب على مثل هذا السؤال ذكره كثيرون وناقشه
كثيرون أيضاً ، لكني قلت في نفسي محاوراً : لعل هذه الزيادة التي أضيفت على من
هم أقل عدداً وعدة هذه الزيادة التي أضيفت فرجحت كفة أولئك الضعفاء ظاهراً
وحازوا النصر هي الاطمئنان القلبي ، أو بالأحرى العدة الداخلية القوية ،
الاستقرار في دواخلهم ، الثبات في كينونتهم . لعل الواحد منا حينما يرى شخصين –
ولنفرض هذا المثال يتقاتلان – أحدهما أكثر رباطة جأش من الآخر لكنه يمتلك عدة
أقل ، والآخر الذي يمتلك عدة أكبر وأكثر سلاحاً أمضى إلا أنه أضعف من حيث رباطة
الجأش ، لكنه أقل اطمئناناً في داخله ، لكنه مضطرب في جوّانيه ، لكنه قلق بينه
وبين نفسه ، إن سنن ربنا عز وجل تقول : هذا الذي اطمأن داخله ، هذا الذي استقر
وثبت باطنه ، هذا الذي كان جأشه قوياً بلا شك سيكون الغالب على الرغم من قلة
عدته وسلاحه لأن الجانب المعنوي لا ينكر دوره لا عند المسلمين ولا عند الملحدين
، وكلنا يعلم أن قسماً مهتماً جداً في الجيوش كلها في البلاد الإسلامية
والعربية وغير الإسلامية وغير العربية ، هذا القسم يسمى بقسم التعبئة المعنوية
، الإعداد المعنوي ، إنه رباطة الجأش ، إنه اطمئنان الداخل ، إنه استقرار القلب
، هو الذي كان عند المسلمين في بدر أقوى منه عند غير المسلمين ، عند الكفرة في
بدر ، كيف يتحصل هذا الاطمئنان ، هذا الاستقرار ، هذه التعبئة المعنوية ، هذا
الإعداد المعنوي يتحصل بأربعة أمور ، ولعل غيري يضيف على ذلك ، لكننا يجب أن
نبحث في مضمون هذا الإعداد المعنوي لأنه عدة يجب أن تتخذ ولا سيما وأننا أمام
عدو يمتلك عدة مالية تفوق كل التي نمتلكها ، وكلنا يعلم أن إسرائيل ومن ورائها
أمريكا يملكون العدة المادية بشكل يفوق عشرات الأضعاف ، بل مئات الأضعاف تلك
التي نمتلكها ، ولكن هذا لا يعني أن نستسلم ، ولكن هذا لا يعني أن ننتظر حتى
نمتلك القوة المادية التي نفوق قوتهم ، وإلا فسننتظر قروناً وسنسابق الريح
بأرجل من خشب ، وسنكون كمن يسابق الرياح القوية العتيدة بأرجل من قصب .
أربعة أمور هي مقومات العدة المعنوية :
الأمر الأول هو الإيمان بالله ذي الصفات المطلقة ﴿ وهو الغفور الودود ، ذو
العرش المجيد ، فعال لما يريد ﴾
البروج : 14 – 16
نحن نؤمن بالله ذي الصفات المطلقة . الله ﴿ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض
ولا في السماء ﴾ آل عمران : 5
نؤمن بالله العليم
الفعال لما يريد الذي لا تخفى عليه خافية ، يعلم ما توسوس به نفوسنا وهو أقرب
إلينا من حبل الوريد ، الإيمان بالله ذي الصفات المطلقة . هذا مقوم أول من
مقومات الإعداد المعنوي .
والمقوم الثاني الثقة العظيمة برسولنا عليه وآله الصلاة والسلام ، بقائدنا صلى
الله عليه وآله وسلم ، الثقة العظيمة بهذا النبي على أنه معلم ، على أنه موجه ،
على أنه قائد ليس فقط في زمنه وإنما قائدنا في كل الأزمنة ، نقف أمامه لنستلهم
منه تعاليم الحياة وكانت من خلاله واردة من الله عز وجل ، الثقة برسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ، والمشكلة تتضح عندما ننظر موقفنا اليوم من رسول الله
عليه وآله الصلاة والسلام ، هل نحن موافقون بهذا النبي على أنه قائد نستلهم منه
معالم القيادة ، على أنه معلم نستمطر منه شآبيب عطائه ، معطيات التعليم على أنه
قدوة وأسوة ، ليس في مجال محدد إنما في كل المجالات ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم
عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم ﴾
التوبة : 128
الثقة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد
المطلب " أنا قائدكم ، أنا رسولكم ، أنا رسول الشعوب المسلمة وغير المسلمة ،
أنا رسول القادة المسلمين وغير المسلمين ، أنا رسول لكل قطاعات الشعب والدولة
والحكم ، الثقة بتعاليم وبشخص رسول الله من قبل الرئيس والمرؤوس ، والقائد
والمقود ، والمعلم والمتعلم ، والأستاذ والتلميذ .
نخاطب عساكرنا ، نخاطب جيوشنا ، نقول لهم : إن من تمام العدة المعنوية أن
تكونوا دائماً على ذكر لرسول الله ، على أنه قائد ، على أنه معلم ، على أنه
هادي إلى سواء السبيل ، على أنه دليل لا ريب في أنه الدليل الصادق الذي لا
يحتمل أدنى شك في صلاحيته لقيادة الدنيا منذ كان حياً بجسده إلى أن يرث الله
الأرض ومن عليها .
المقوم الثالث للعدة المعنوية : الاطمئنان إلى المصير ، ومصير المؤمن رائع ،
ومصير المؤمن إلى خير ، ومصير المؤمن جنة عرضها السموات والأرض ﴿ إن الذين
آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً ﴾
الكهف : 107
في بدر قاتل المسلمون مطمئنين إلى المصير ، قال لهم قائدهم ورسولهم ورسولنا :
قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض . قال أحدهم – والقصة معروفة مشتهرة – يا
رسول الله : لئن قاتلت فقتلت أأدخل تلك الجنة ؟! قال : ومن يحول بينك وبينها ؟!
وكان هذا الصحابي عمير يأكل تمرات في أرض المعركة ، نظر إلى التمرات وقال : لئن
أنا حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة ، ورمى هذه التمرات وراح إلى
ساح المعركة معبئاً تعبئة معنوية ، تعبئة قلبية ، استقر قلبه ، استقر داخله ،
اطمأن إلى المصر ، إلى الجنة . لو أنني وعدتك حين تعطي ، قلت لك : أعطِ فلاناً
مائة ليرة - وأنت تثق بي – أعط فلاناً مائة ليرة وسأعطيكها ألف ليرة ، كيف
سيكون اندفاعك لدفع المائة ليرة أو مئات الليرات ؟ كيف سيكون اندفاعك لو قلت
لاثنين من يعطي منكم مائة ليرة فسأدفعها له ألف ليرة ، لو قلت هذا وكنت
مصدَّقاً لديكم سيتسابق الاثنان أيهما سيدفع قبلاً هذا أم ذاك ( وسارعوا إلى
مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض ﴾
آل عمران : 133
وهؤلاء الذين قاتلوا في بدر
سارعوا لأنهم اطمأنوا إلى المصير . ثالث المقومات للإعداد المعنوي بعد الإيمان
بعد الإيمان بالله والثقة برسول الله ، لا وربك لا يؤمنون لأنه من تمام الإيمان
الثقة برسول الله ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا
في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ﴾
النساء : 65
.
رابع المقومات التعبئة المعنوية ، توحيد جهة التأثير ، من الذي يؤثر إلا الله
، من الذي يفعل حقيقة إلا الله عز وجل وهو المؤثر المطلق ، وهذا ما علمنا إياه
رسول الله من خلال أحاديث كثيرة أهمها ، أشهرها " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على
أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك
بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف " . ألا
ترون أنني أكرر في كل أسبوع في نهاية الخطبة قوله تعالى : ( وإن يمسسك الله بضر
فلا كاشف له إلا هو ﴾ الأنعام
: 17 ألا ترون أنني
أكرر أحياناً بدلاً من هذه الآية قول الله تعالى : ( أليس الله بكاف عبده
ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾
الزمر : 36
، ( وما النصر إلا من عند
الله ﴾ الأنفال : 10
ولذلك الإعداد المعنوي والتعبئة المعنوية يجب أن نعيد النظر فيها بالنسبة
لجيوشنا ، بالنسبة لجيوش الدول الإسلامية إن كان ثمة جيوش ، ينبغي أن نعيد
النظر في التعبئة المعنوية من خلال تعميق الإيمان بالله ، من خلال تقويم الثقة
برسولنا ، من خلال زيادة وتحصين الاطمئنان بالمصير ، من خلال العمل على أن نزرع
في نفوس جيوشنا توحيد جهة التأثير ، ليس من مؤثر إلا الله وحده ، هو الذي يعطي
ويمنع ، أولستم تسمعون من بعض الخطباء في الخطبة الثانية قولهم : واعلموا أنه
لا يضر ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، ولا يفرق ولا يجمع إلا الله ، أولسنا
نسمع هذا الجواب : بلى . لكن أين أثر هذا في نفوسنا ، في حركتنا ، في جهادنا ؟
أيها الإخوة : شهر رمضان يعمل جاهداً من خلال فريضة الصيام على دعم مقومات
التعبئة المعنوية ، الإعداد المعنوي ، فالصيام يهدف إلى هذا ، والقيام يهدف إلى
هذا ، وأسأل الله أن يوفقنا إلى أن نعد أنفسنا من أجل أن نعد أنفسنا إعداداً
معنوياً ، ولا أنسى الإعداد المادي ، فالإعداد المادي عبادة ، لكنه ليس الإعداد
الوحيد ، وإنما الإعداد إعدادان : مادي . يجب أن نسعى لتقويتنا في هذا الميدان
، ومعنوي ويجب أيضاً أن نقوى في هذا المجال مادة ومعنى . ديننا واقعي ، مادة
ومعنى ، خلق واستعداد ، سيف وإيمان ، مادة وروح ، منبر وثكنة عسكرية ، مخبر
ومحراب لا فصل بينهما ، ومن فصل المادة والروح فصل بين الجسم والحياة ، بين
الجسم والروح ، فإن تمحضت المادة كان هذا المخلوق الأسمى مرتداً إلى الحيوان ،
وإن تمحضت الروح . لم يعش الإنسان على الأرض خليفة إلا بإعدادين : إعداد مادي
وآخر معنوي ، وما يتكلم عن ذلك فكلام ناقص .
يا رب بدر ، ورب الفتح انصر المسلمين على أنفسهم أولاً الآمرة بالسوء ،
الأمارة بالمنكر ، وانصرهم على أعدائهم يا رب العالمين بحق بدر والفتح انصرنا
على أعدائنا ، انصرنا على أنفسنا ، اجعل همنا أنت ، اجعلنا مؤمنين بك واثقين
برسولك ، مطمئنين إلى مصيرنا الطيب ، معلنين أنه لا يضر ولا ينفع ، ولا يعطي
زلا يمنع ، ولا يفرق ولا يجمع إلا أنت ، نعم من يسأل أنت
، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات