أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون :
سئل أكثر من شخص في عملية إحصائية
لأعظم وأخطر الكلمات ، فكان جواب الكثيرين في عصرنا الراهن وفي بلدنا ، كان
جواب الأكثرية بأن أثقل الكلمات وأعظم الكلمات هي كلمة المسؤولية . عندما عَرَض
علي هذا الدارس تلك النتيجة أكَّدت له ما ذكر لي وقلت له فعلاً : إن كلمة
المسؤولية إن لم تكن أعظم الكلمات وأثقل الكلمات وأصعب الكلمات فهي من أعظم
الكلمات وأثقل الكلمات وأصعب الكلمات . أن تشعر بأنك مسؤول . قلت مرة : أنا
أشعر بالمسؤولية إذاً أنا إنسان ، حين تشعر بالمسؤولية فكأنك تدلل على إنسانيتك
، وحينما ينعتق ذاك الذي يُدعَى إنساناً من مسؤوليته ولا يشعر بها أظن بل أعتقد
بأنه في نفس الوقت الذي ينعتق فيه من مسؤوليته ومن الإحساس بها ينعتق من
إنسانيته . هنالك أسئلة تتعلق بالمسؤولية من أجل تفصيلٍ لها :
السؤال الأول : أنت مسؤولٌ أمام من ؟ وأنت مسؤولٌ عن أي شيء ؟
أما الجواب على السؤال الأول أنت مسؤولٌ أمام من ؟ فأنت مسؤول أمام نفسك
﴿
بل الإنسان على نفسه بصيرة . ولو ألقى معاذيره
﴾
القيامة : 14- 15
أنت مسؤول أمام نفسك ، قلت مرة إن أفلاطون قال : قد يكون الإنسان المُتَمَكِّن
قادراً على خداع الآخرين ، لكنه لا يستطيع أبداً أن يخدع نفسه . أنت مسؤول أمام
نفسك " استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك " أنت مسؤول أمام نفسك لأنك أعلم الناس
بنفسك ، والإنسان أدرى بنفسه من غيره . ذكرت قصةً منذ أكثر من خمسة عشر عاماً
عن مسيلمة الكذاب كما ذكر صاحب العقد الفريد ، هذا الرجل الذي ادَّعى النبوة ،
وكان عمرو بن العاص أحد روَّاده قبل أن يسلم ، جاءه مرة ( أي عمرو بن العاص جاء
مسيلمة ) وقال له : هل من جديد ؟ قال له مسيلمة : نعم . لقد نزلت علي الليلة
آية . هاتِها يا مسيلمة . قال : يا وَبَرُ يا وبر ، إن أنت إلا أذنان وصدر
وسائرك حَفْرٌ نقر . ما رأيك يا عمرو بهذه الآية ؟ - وعمرو كما تعلمون داهية -
نظر عمرو وقال : أما والله إنك تعلم بأنا نعلم بأنك تكذب . أنت مسؤول أمام نفسك
وحسبنا أن نلفتك إلى نفسك لترى عظمة المسؤولية أمام هذا الكيان .
أنت مسؤول ثانياً أمام الأجيال : ستموت ، ولكن الأجيال سيذكرون مواقفك فما الذي
خلَّفته ؟ هل كنت منسجماً مع أقوالك ؟ هل كنت منسجماً مع أفعالك ؟ هل كنت
إنساناً صادقاً ؟ سيذكرك مَن بعدك ، وستُذكَر بحسب ما كنت عليه من دون ظلم لأن
الله لا يظلم مثقال حبة ، ستُذكَر ولكن بعد رحيلك ، لن تذكر بصدق في وجودك
لوجود المنافقة ، لوجود المداهنة ، لكن بعد الوفاة سيذكرك الأجيال ، فأنت مسؤول
أمام الأجيال القادمة .
ثالثاً : أنت مسؤول أولاً وأخيراً أمام الله عز وجل
﴿
وقفوهم إنهم مسؤولون
﴾
الصافات : 24
﴿
فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون
﴾
الحجر : 92
﴿
فلنسألَنَّ الذين أرسل إليهم ولنسأَلَنَّ المرسلين
﴾
الأعراف : 6
هؤلاء الذين ستسأل أمامهم .
عَمَّ تُسأل ؟ ستسأل عن أمور خمسة هكذا لخصتها ، ستسأل عن اعتقادك ، هل اعتقدت
الصحيح ؟ هل كانت لك عقيدة صحيحة ، والعقيدة الصحيحة جاء بها الإسلام ، هل آمنت
بالله رباً ، هل آمنت برسله ، بكتبه ، بملائكته ، بقدره ، باليوم الآخر ، ستسأل
عن اعتقادك . جاء في السنن : " ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه ، ليس بينه
وبينه ترجمان ، فيقول الله : عبدي : ما غرك بي " لماذا لم تؤمن بي ؟ لماذا لم
تُحَكِّمني ؟ لماذا لم تتخذني وكيلاً ؟ لماذا لم تتخذني حاكماً ؟ لماذا لم
تتخذني مُشَرِّعاً ؟ سأسأل كل أولئك الذين يتخذون غير الله حاكماً ، مشرعاً :
ما غركم بالله عز وجل ، والله يقول لكم : هذه كتبي ، وهذه أنبيائي ، أتتكم
بتشريعي الذي يناسبكم ، فأنا أعلم بكم من غيركم مهما كان .
ستسأل عن العمل . أنت في عمل دائم من صباحك إلى مسائك ، هل كان عملك صالحاً ؟
وصلاح العمل يعني موافقته لشرع الله عز وجل
﴿
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
﴾
البقرة : 277
هل كان عملك صالحاً موافقاً لأمر الله ، وهل ابتغيت بعملك وجه الله ؟ ستسأل عن
عملك أمام نفسك وأمام الأجيال وأمام الله ، هل كان عملك صالحاً ، هل كان عملك
مخلصاً ، ورسول الله يقول كما في الصحيح : " إن الله لا يقبل من العمل إلا ما
كان خالصاً وابتغي به وجهه " .
ستسأل ثالثاً عن القول ، هل كان قولك سديداً ؟ هل كان كلامك صائباً ، واجتهدتَ
في أن يكون كذلك ، أم أنك تتكلم وتجتهد في مجانبة الصواب ، أو أنك تتكلم وتهمل
الاجتهاد في أن يكون كلامك صائباً ، جاء في البخاري : " إن العبد ليتكلم
بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً "
انتبهوا لكلامكم ، ولننتبه لكلامنا
﴿
اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يصلح لكم أعمالكم
﴾
الأحزاب : 70- 71
﴿
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
﴾
ق : 18
انظر كلامَك ، هل كلامك يوافق شرع الله ؟ هل كلامك يوافق العقل ؟ هل فكرت حين
تكلمت ليكون كلامك حجة لك ، أم إنك غير مبالٍ فيما تتكلم ، وبالتالي – لا سمح
الله – يمكن أن تدخل تحت أولئك الذين أشار إليهم الحديث الذي ذكرناه : " إن
العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين
خريفاً " .
رابعاً : مسؤول عن مالك من أين اكتسبته وفيم أنفقه ، عن مصدره ، وعن مكان
إنفاقه ، جاء في الترمذي ، والحديث حسن صحيح : " لا تزول قدما عبد يوم القيامة
حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن ماله من
أين اكتسبه ، وفيما أنفقه ، وعما عمل فيما علم " فلننتبه أيها التجار ، ولننتبه
أيها المسؤولون ، ولننتبه أيها القضاة ، ولننتبه أيها الموظفون ، ولننتبه أيها
الشيوخ ، ولننتبه أيها الحكام ، فأنتم مسؤولون عن المال الذي تكسبون ، ومسؤولون
عن المال الذي تنفقون ، ولا نريد أن نتحدث عن المصادر الخبيثة ، وعن أمكنة
الإنفاق المرفوضة ، فذاك أمر تحدثنا عنه بتفصيلات كثيرة ، وربما يأتي الحديث
عنه بتفصيلات أخرى .
خامساً : ستسأل عَمَّن تعول ، عن رعيتك ، إن كنت حاكماً عن شعبك ، إن كنت رب
أسرة عن أسرتك ، إن كنت معلماً عن تلاميذك ، إن كنت قاضياً عن خصومك ، عن
الخصوم الذين يمثلون أمامك ، إن كنت محامياً عن موكلك ، إن كنت طبيباً عن مريضك
، إن كنت ضابطاً عن جنودك ، إن كنت شيخاً عن هؤلاء الذين يسمعون لك ، إن كنت
إماماً عن مقتديك ، ستُسأَل . جاء في صحيح ابن حبان : " إن الله سائلٌ كلَّ
راعٍ عما استرعاه حفظ أم ضيع " وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال : " كفى بالمرء إثماً أن يُضَيِّع من يعول " وفي رواية " أن يضيع
من يقوت " انتبهوا أيها الرجال ، أيها الآباء ، أيتها النساء ، فـ : " كلكم راع
وكلكم مسؤول عن رعيته " وانتبهوا أيها الحكام ، أيها الوزراء ، أيها المديرون ،
أيها الضباط ، يا من تمسكون بزمام قطاع أو قطاعات من المجتمع ، أنتم مسؤولون "
إن الله سائل كلَّ راع عما استرعاه حفظ أم ضيع " هذه أمور خمسة سنسأل عنها أمام
الأجيال ، أمام أنفسنا ، أمام الله عز وجل ، سنسأل عن الاعتقاد وهل كان صحيحاً
، سنسأل عن العمل وهل كان صالحاً ومخلصاً ، سنسأل عن القول وهل كان سديداً ،
سنسأل عن المال من أين جنيناه وفيما أنفقناه ، سنسأل عن الرعية كيف سُسْنَاها
وكيف قُدنَاها وكيف رعيناها ، سنُسأَل أمام ربنا عز وجل ، اللهم – هكذا قال
سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - : " اللهم من وَلِيَ من أمر المسلمين
فَرَفَقَ بهم فارفق به ، ومن وَلِيَ شيئاً من أمر المسلمين فَشَقَّ عليهم
فاشقُق عليه " انتبه أيها المسؤول مهما كان حجم مسؤوليتك ، سنسأل عن الاعتقاد
والعمل والقول والمال والرعية ، واسمحوا لي أن أقول في هذا اليوم نداءً إلى
إخواننا الذين يقاومون في العراق : ستُسأَلون عن عملكم هذا ، فأنا أرى نتائج لا
أحكم عليها بأنها غير صحيحة ولكنها تَفرِضُ عليَّ أحياناً ، في أن أحكم عليها ،
أو في أن أشرع ، أو أن أقدم مشروع حكم عليها بأنها تجانب العمل الصحيح الخالص ،
وإلا ما ذنب أولئك الذين قتلوا من إخواننا من الشعب العراقي في حادثتين يوم أمس
وقبل أمس ، ما ذنبهم ؟ نحن معكم في مقاومة المحتل الغاشم الأمريكي الفاسد ومن
حالفه ، لكن أولئك الذين يتكلمون لغتنا ويدينون بديننا ، ما ذنبهم ، ما جريرتهم
، أنا لا أحكم وأقطع بالحكم ، لكنني أنصح مستدركاً ، حتى لا تكونوا ولا نكون من
أولئك الذين قال عنهم سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في صحيح
الإمام مسلم : " من حمل السلاح علينا فليس منا " دم المسلم غالٍ يجب أن لا نفرط
فيه ، وأن لا نستهتر فيه ، وأن لا نتركه هكذا ، إنها مجرد نصيحة انطبعت في
داخلي وأنا أسمع الخبر وأقولها أيضاً من باب المشاورة مع أناس مسلمين ، وأرجو
الله أن يسدد أقوالنا ، وأن يصلح أعمالنا ، وأن يجعلها خالصة ، اللهم إني أتوجه
إليك في أن ترد المسلمين إلى رعاية وإلى الإحساس بمسؤولياتهم رداً جميلاً ، يا
رب العالمين ، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله
.
التعليقات