أما بعد ، أيها الأخوة المؤمنون :
ما الإنسان بأشدِّ حاجة إلى مبدأ مناسبٌ منه إلى قائمٍ متحرك منفِّذ مطبق هذا
المبدأ . وبعبارة أخرى : المبدأ إذا كان مناسباً صحيحاً منطقياً ورَّثك قناعة ،
ولكنك إذ ترى هذا المبدأ مُطبَّقاً منفذاً من خلال مجسد له فهذا يورثك
اطمئناناً ، ولذلك أنزل الله عز وجل كتباً فيها مبادئ قويمة ، أنزل القرآن
الكريم فيه مبدأ قويم متماسكٌ منطقي ، من توجَّه إلى قراءته بإخلاص وصدق اقتنع
به ، ولكن الله عز وجل جعل مع هذا الكتاب مُجَسِّداً له نبياً رسولاً متحققاً
بما في هذا الكتاب ، وذلك من أجل أن نطمئن نحن الذين نزّل هذا الكتاب من أجلنا
وعلينا ، وجاء هذا الرسول من أجل هدايتنا ونصحنا وإنقاذنا
﴿
قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
﴾
.
منطقية الفكرة تقنعك ، رؤية الفكرة من خلال من ينفذها ويطبقها تطمئنك ، ولهذا
كان النبي وكان القرآن .
القرآن للإقناع ، وتطبيق النبي القرآن للاطمئنان ، من أجل أن تطمئن بعد الإقناع
، والله عز وجل ما أعدم الأمة من مُطبِّقين ومن خلفاء للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم ، يطبقون القرآن الكريم حتى يُورِّثوا الاطمئنان للناس ، فكان الخلفاء
الراشدون بعد النبي رضي الله عنهم ولم ينقطع الأمر بانتهاء الخلفاء الراشدين بل
تتابع ، فها هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول كما يروي الحاكم وأبو داود
: " إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها " وقد اتفق
العلماء على اختلاف فرقهم وعلى اختلاف مذاهبهم على أن المجدد الأول بعد الخلفاء
الراشدين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه .
هذا الرجل الذي أجمعت الأمة على أنموذجيته وعلى كونه قدوة وعلى كونه مجدداً ،
أحببت هذا الأسبوع أن نعيش معه ، مع كلماته ، مع فكره ، مع سلوكه ، مع ما قال
موجهاً ومعلماً رضي الله عنه وأرضاه ، وقبل أن أنقل كلماتٍ من كلماته وعباراتٍ
من عباراته أقول لكم ما قيل فيه . فقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي الله
عنه : إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن
وراء ذلك خيراً . ويروى عن محمد الباقر رحمه الله ورضي الله عنه أنه قال : إن
عمر بن العزيز يبعث يوم القيامة أمة وحده . ماذا قلت يا أيها الإمام ، يا أيها
المجدد ، يا عمر رضي الله عنك ؟
عبارات من عباراته وكلمات من كلماته . قال من جملة ما قال : " لا كتاب بعد
القرآن ، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ألا وأني ولست بقاضٍ " يا
شباب الأمة ويا حكام الأمة ويا مثقفي الأمة ويا مربي الأمة : اسمعوا وعُوا كلام
هذا المجدد إن كنتم حريصين على أن تكونوا حلقة في سلسلة المجددين : " ألا أني
لست بقاضٍ ولكني منفذ ، ولست بمبتدع ولكني متبع ، ولست بخيرٍ من أحدكم ولكني
أثقلكم حملاً ، وإن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم ، ألا لا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق " .
لما ولي الخلافة جاء الشعراء كعادتهم ليمدحوه فمكثوا شهراً لا يأذن لهم عمر بن
العزيز ، فعادوا من حيث أتوا . لا نريد نحن شعراء يمدحوننا ولا لكننا نريد
ناصحين ينصحوننا ، لا نريد من يقف على الباب ليسجل آياتِ مدحٍ ولكننا نريد من
ينصحنا فيما يعود علينا وعلى بلادنا وعلى مجتمعنا وعلى وطننا بالخير ، فالمدح
لا يُنتِجُ إذا اكتفي به وحده ، لا ينتج خيراً ، ولكن النصيحة هي الدين ،
فالنتناصح حب ومدح . أوصى سيدنا عمر بن عبد العزيز محمد بن كعب القرضي فقال : "
كن لصغير المسلمين أباً ، ولكبيرهم ابناً ، وللمثل منهم أخاً ، وعاقب الناس
بقدر ذنوبهم " يا ضباط ، يا شرطة ، يا قضاة : " وعاقب الناس بقدر ذنوبهم على
قدر أجسامهم ، ولا تضربَن لغضبك سوطاً واحداً فتكون عند الله من العادين " أي
من المعتدين . وكتب إلى واليه في البصرة عدي بن أرطأه وليسمع الناس ، وليسمع
إخواننا في كل مكان ، وليسمع المقاتلون والولاة والحكام والمقاومون كتب اليه
فقال : " إن لديك عمالاً ظهرت خيانتهم ، وتسألني أن آذن لك في عذابهم ، فإذا
جاءك كتابي هذا فإن قامت عليهم بينة واضحة كالشمس فخذهم بذلك ، وإلا لأن يلقوا
الله بخيانتهم أحب إلي من أن ألقاه بدمائهم " .
أيها المعنيون على اختلاف أطيافكم ، على اختلاف مسؤولياتكم ، هذه قاعدة من مجدد
" فإن قامت عليهم بينة واضحة كالشمس فخذهم بذلك وإلا لأن يلقوا الله بخيانتهم
أحب إلي من أن ألقاه بدمائهم " كتب إليه أي إلى عمر والي خراسان - أيها المكتوب
إليهم اسمعوا هذا - إن أهل خراسان ساءت رعيتهم وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط
، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك " – أي أن استخدم السيف والسوط لأن
أهل خراسان ما عاد يصلحهم إلا ذلك - فكتب إليه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز
: " أما بعد : بلغني كتابك ، فقد كذبت بل يصلحهم العدل والحق ، فابسط ذلك فيهم
" لا يصلحهم السيف والسوط بل العدل والحق . وكتب عمر إلى أحد ولاته – ما أجمل
هذا الكلام أيها القادة – كتب إليه فقال : " يا هذا فقد كثر شاكُوك وقل شاكروك
، فإما عدلت وإما اعتزلت " رأته زوجته فاطمة يبكي في الليل فقالت : ما يبكيك ؟
فقال لها : يا فاطمة وَيْحكِ – أيها المسئولون اسمعوا هذا الكلام - قال لها :
يا فاطمة ويحك قد وُليت من أمر هذه الأمة ما وليت ، فتذكرت الفقير الجائع ،
والمريض الضائع ، والعاري المجهود ، واليتيم المكسور ، والمظلوم المقهور ،
والأرملة الوحيدة ، والغريب والأسير ، والشيخ الكبير ، وذا العيال الكثير
والمال القليل وأشباههم في البلاد ، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة ،
وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فخشيت يا فاطمة أن لا تثبت لي حجة
عند خصومته ، فرحمت نفسي فبكيت " تذكرت الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري
المجهود واليتيم المكسور والمظلوم المقهور والأرملة الوحيدة والأسير والشيخ
الكبير وذا العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في البلاد ، هنالك غرباء ،
هنالك أسارى ، هنالك شيوخ كبار ، هنالك ذووا عيال كثير ، هنالك ذووا مال قليل ،
أين أنت من موقفك أمام الله عزوجل حين يسألك عنهم كل ذي دعوة جادة مخلصة سيتعرض
لحقد وحسد ولكلام غير صحيح ، تلك سنة الله في الكون وفي رأس القائمة سيدنا محمد
صلى الله عليه وآله وسلم وهذا هو عمر أيضاً ، هناك من يحسده ، هناك من يحقد
عليه لا لشيء إلا لأن الله رفع شأنه ، لا لشيء إلا لأن الله جعل له تأثير في
القلوب ، أرسل هؤلاء الحساد من يدس له السُّم فاكتشفه عمر ودعا هذا الرجل وقال
له : ما حملك على ما صنعت فدسست لي السم ؟ قال : ألف دينار أعطيتها يا أمير
المؤمنين . أعطاني إياها حسادك ، أعطاني إياها أعداؤك الذين يَقْفُون ماليس لهم
به علم ، ألف دينار أعطيتها . فقال : هاتها . فأخذها عمر فوضعها في بيت مال
المسلمين ثم قال لهذا المُغرَّر به : اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك لأني أخاف أن
يقتلوك . مَن يَدَّعون محبتي ، اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك .
يروي من حكى سيرة عمر - أكثر من شخص - عن رجلٍ من الشام استشهد وكان يأتي كل
جمعة جاره في المنام يزور هذا الشهيد جاره في المنام ، في الحلم ، وهذا أمر
شرعي ، فـ الرؤية الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة يراها الرجل وترى
له ، رجل من الشام استشهد وكان يأتي كل جمعة جاره في المنام فافتقده جاره في
جمعه فقال له الشهيد الشهيد الحي الذي مات ولكننا نقول عن الشهداء أحياء ،
افتقده جاره الحي حياة حقيقية افتقده في جمعة فسأله في الجمعة التالية : لم غبت
عني ؟ فقال هذا الشهيد : إنا معاشر الشهداء أمرنا أن نشهد جنازة عمر بن عبد
العزيز . نعم إننا بحاجة الى من يجدد لهذه الأمة أمر دينها . بالرغم من كل ما
يقال فتابع يا أخي يا من تريد مرضاة ربك تابع خطك مهما كان ومهما قيل ، حسبك
كما ورد عن سيدنا عمر بن عبد العزيز حسبك ربك ، علم الله فيني يكفيني ، والعاقل
من اكتفى بعلم الله فيه . أوصى أخيراً أولاده فقال : " إما أن تستغنوا وأدخل
النار وإما أن تفتقروا وأدخل الجنة ، وأرى أن تفتقروا ، قوموا عصمكم الله " ثم
كان يدعو ويقول : " اللهم إن كنت تعلم أني أخاف شيئاً دون يوم القيامة فلا
تؤمني " وكان يكرر ويقول : " لولا الاسلام ما أمنا " نعم لولا الاسلام ما أمن
مجتمعنا ، ولا أمن وطننا ، وبقدر ما نحرص على الإسلام بقدر ما نحرص على أمن
وطننا وعلى أمن مجتمعاتنا وعلى أمن كوننا وعلى أمن عالمنا وعلى أمن قارتنا وعلى
أمن إنساننا ، أعني بالإسلام إسلامنا الصحيح الموثق النقل من القرآن الكريم ،
والمحقق في معطياته وأحكامه ، والذي يقف في رأس قادته وسادته المصطفى صلى الله
عليه وآله وسلم . ولما دنت الوفاة في الأنفاس الأخيرة من حياة سيدنا عمر قال
هذه الآيات : ﴿
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت
وليّي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين
﴾
يوسف : 101
هذا كان آخر ما ختم به عمر بن عبد العزيز . لا أريد أن أعلق ، لكنني أقول :
اللهم إنا ندعوك لتجعل في أمة محمد أتباعاً كعمر بن العزيز ، ورجالاً كعمر بن
عبد العزيز ، وقادة كعمر بن عبد العزيز ، وسادة ورعاة وولاة يارب العالمين ،
نسألك يا ربنا أن تجعلنا ممن يجدد لهذه الأمة أمر دينها ، اللهم اجعلنا من
هؤلاء المجددين لا يخافون فيك لومة لائم ، يدعونك على بصيرة ويدعون إليك على
بصيرة ، يارب العالمين كن معنا ولا تكن علينا ، أنت ولينا يا فاطر السموات
والأرض ، توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين ، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت ،
أقول هذا القول واستغفر الله .
التعليقات