جريدة تشرين ، تاريخ 14 / كانون الأول / 2002
أولاً : تعريف
العولمة :
العولمة: من العالم ، على وزن ( فوعلة ) أو ( فعللة ) ، وهو رباعي
مخترع . وتعولمنا : أي صرنا عالميين .
والعالمية : اتحاد شعوب العالم في جميع أمورها على نحو واحد وهيئة واحدة في
الجملة . ويغدو الانتماء للعالم كله بدلاً من الانتماء لدولة ، فهي باختصار
: إعطاء الشيء صفة العالمية من حيث النطاق والتطبيق .
وقد عُرفت العولمة بأنها : الحركة الاجتماعية التي تتضمن انكماش البُعدين
الزماني والمكاني ، مما يجعل العالم يبدو صغيراًَ يحتم على البشر التقارب
بعضهم من بعض . وهناك تعريف يقول : هي التداخل الواضح لأمور الاقتصاد
والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك ، دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية
للدول ذات السيادة ، أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ، ودون حاجة
إلى إجراءات حكومية . وهي باختصار:
هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي وانتشاره في الصميم ، مضافاً إلى انتشاره في
الظاهر . وبعبارة أخرى : هيمنة النمط الرأسمالي الأميركي ، ليتلازم معنى
العولمة في مضمار الإنتاج والتبادل المادي ، مع معنى الانتقال من المجال
الوطني أو القومي إلى المجال العالمي ، وذلك ضمن مفهوم تعيين مكاني جغرافي
وهو الفضاء الكوني برمته ، وتعيين زماني تاريخي وهو حقبة ما بعد الدولة
القومية . وإن هذا المعنى يصب في عودة الهيمنة الغربية من جديد ، ولكنها
تحمله على أجنحة المعلوماتية والعالم المفتوح ، ومدججة بالعلم والثقافة ،
حتى وإن كانت غير إنسانية ، وهكذا خرج النظام الرأسمالي من واجهة المزاحمة
والمنافسة الحرة إلى واجهة الاحتكار والهيمنة والاستعمار .
ونؤكد هنا أمراً نستعجل ذكره فنقول : إن الرأسمالية والعولمة مخالفة للفطرة
والعقلانية وسيكون مصيرها نتيجة لهذا ، مصير الشيوعية والاشتراكية نفسه
سقوطاً وزوالاً .
ثانياً : جذور العولمة الغربية :
ظهرت الليبرالية الجديدة بعد انتهاء الحرب الباردة وبعد سقوط
الشيوعية وتفكك الاشتراكية وتفسخ اليمين التقليدي ، وكان ظهورها بثوب
العولمة لتغزو كل الدول وتدعو إلى حرية انتقال رأس المال ، وإلغاء الحواجز
الجمركية ، والإطاحة بالأنظمة لتعزيز حرية المبادلات التجارية ، حيث أفرز
نوعاً من التباعد بين النشاط المالي والنشاط الاقتصادي ، فمن أصل رأسمال
قدره ألف وخمسمائة مليار دولار تدور في دوامة العمليات اليومية على الصعيد
العالمي نجد أن هناك واحداً بالمائة فقط يخصص للبحث عن ثروات جديدة ، بينما
يدور الباقي في إطار المضاربات .
ومعه تحول النظام الرأسمالي إلى نظام عالمي بقيادة أمريكا ، والسبب هو أن
أمريكا واسعة من حيث الثروات ، وديمقراطية ولو بنسبة من حيث النظام ،
وممتدة من حيث الجغرافية ، ووفيرة من حيث السكان ، وقد ابتدأت أمريكا بسلوك
اتجاه فرض هيمنتها على العالم ، مع تعاظم القوة الاقتصادية للشركات
المتعددة القوميات ، والتي مثلت سلطة هذه العولمة ، دون أن تعلن عن هويتها
أو ولاءاتها . وكلنا يعلم ويذكر المظاهرات الاحتجاجية التي نظمت في ( سياتل
) عام ألفين ، بمناسبة اجتماع وزراء الدول الأعضاء في منظمة التجارة
الدولية ، وقد استطاع المتظاهرون احتجاز الرئيس الأمريكي ( بيل كلينتون )
في الفندق أربع ساعات ونصف ، وبعد أن وصل إلى المؤتمر أشار في خطابه إلى أن
الدول يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الشعارات التي نادى بها المتظاهرون ، وقد
سمعها بنفسه وكان منها :
- الرأسمالية وحش قاتل .
- نطالب بقيم الإنسان ، وليس بقيم ملاك الشركات الكبرى .
- النظام الرأسمالي يدفع المواطنين إلى الانتحار .
وكذلك جرى في ( مالبورن ) في استراليا ، إذ قامت مظاهرة مناهضة ومنددة إبان
افتتاح ( قمة آسيا المحيط الهادي للمنتدى الاقتصادي العالمي ) ، وكان من
جملة ما رفعه المتظاهرون من شعارات : ناهضوا العولمة قبل أن يملكنا رجال
الأعمال والمال .
وفي بيان وقعته/1200/ منظمة من سبع وثمانين دولة جاء فيه : ( إن منظمة
التجارة العالمية في السنوات الخمس الأخيرة قد أسهمت بدور بارز في تركيز
الثروة في أيدي أقلية من الأثرياء ، جنباً إلى جنب مع تفشي الفقر لأغلبية
سكان الأرض ،... إن الاتفاقات التي أبرمت في الأورغواي للتجارة قد استهدفت
فتح أسواق جديدة لصالح المؤسسات متعددة الجنسيات ، وعلى حساب الاقتصاد
الوطني والعاملين الزراعيين... ) .
ثالثاً : أهداف العولمة الغربية :
إن أهم أهداف العولمة الغربية : سيادة النظام الغربي ، وهيمنة
الأفكار الغربية وثقافتها ، إذ أن جوهر وكُنه عملية العولمة يتمثل وبصورة
خاصة في تسهيل حركة الناس وانتقال المعلومات والسلع والخدمات على النطاق
العالمي . وتشمل الحركة والانتقال ، إذاً ، أموراً ستة :
أ - رأس المال . ب - السلع . ج - الأفكار . د - الأفراد . هـ - الخد مات .
و - لمعلومات والمؤسسات الاقتصادية .
وعلى هذا : فالعولمة الغربية تتجلى أكثر ما تتجلى في مجالين أساسيين هما :
المجال الاقتصادي والمجال السياسي . وقد تداخل المجالان وتبديا من خلال :
أ. الإقبال المتنامي على التكتل الاقتصادي .
ب. تعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات وتنامي أرباحها .
ت. إثارة المشكلات الاقتصادية وتدويلها : كالفقر والأمية والتلوث .
ث. تزايد دور التقنيات والتغييرات السريعة في أسلوب الإنتاج ونوعيته .
ج. شيوع ظاهرة القرية العالمية والأسرة الواحدة ، وكثرة الاحتكاك بين
الشعوب .
و تقدم وسائل الإعلام وتطورها ، وتأثيرها الكبير على حياة الإنسان ، وتشابك
الثقافات وتداخلها . ولا يخفى بعد هذا : أن العولمة أضحت تعني ( الأَمْرَكة
) والأمركة تعني السيطرة والهيمنة والتحكم والتلاعب بالسياسة والاقتصاد في
مختلف البلاد والعباد ، بل قد أخذت تمتد وتمتد لتطول ثقافات الشعوب ، وتنال
من الهويات الوطنية والقومية ، وطفقت تسعى جادة لتعميم نمط من السلوك
والأخلاق والآداب وأساليب العيش والتدبير ، والأمر في حقيقته احتلال للعقل
وللتفكير ، وتسييرهما بعد الاحتلال وفق أهداف المحتل ومصالحه الشخصية ، وقد
أشار الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش ( الأب ) إلى ذلك وأكد عليه حين قال
في أجواء الاحتفال بالنصر في حرب الخليج الثانية : ( إن القرن القادم سيشهد
انتصار القيم الأمريكية وأنماط العيش والسلوك الأمريكي ) .
رابعاً : أدوات العولمة الغربية :
1- الشركات متعددة الجنسيات : إن الشركات متعددة الجنسيات تعد
اليوم من أهم الأدوات التي تستخدمها الرأسمالية الغربية ، ولا سيما
الأمريكية ، وذلك للعوامل التالية :
أ . الشيوع الواسع والانتشار السريع ، ولقد بلغ عدد الشركات متعددة
الجنسيات ما يقرب من أربعين ألف شركة ، يطول نشاطها القارات الخمس
والمحيطات الستة .
ب . نهوض تلك الشركات بمهمة تدويل المنتجات والخدمات والتجارة والاستثمارات
، مما أدى إلى سيادة أنماط عالمية في ميدان الاستثمار والاستهلاك والتصدير
والتسويق .
ج . انسلاخ النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي عن المواقف المشرفة وعن
المشاعر والعواطف الإنسانية كلما تصادم حق الإنسانية مع حيوية الاقتصاد ،
وقد فصل عن العمل في المؤسسات الأمريكية ما يقارب خمسين مليون عامل ، في
مدة لا تتجاوز العشرين عاماً الماضية .
2- إسرائيل إحدى أدوات العولمة : لأنها تفتت الوحدة المنشودة لمنطقة الشرق
الأوسط ، أو للأمة العربية ، في رأس حربة تغرز في جسم من يمكن أن يحمل لواء
عولمة مقابلة بل محبطة لعولمة الغرب . وقد سعت أمريكا منذ فترة ليست
وجيزة إلى دعم " إسرائيل " مادياً وعسكرياً وسياسياً ، وقد صرح أحد الرؤساء
الأمريكيين قائلاً : ( إن لأمريكا مصلحة خاصة ليس في إسرائيل فقط ، بل في
التعاون المشترك بين بلدينا في المنطقة ، ونحن نتفهم ونؤيد بحزم حاجة
إسرائيل إلى الاحتفاظ بالتفوق العسكري النوعي على خصومها العرب ، ويلزم
إقامة لجنة أمريكية إسرائيلية مشتركة في ميدان التقنيات وصنائع القرن
الحادي والعشرين ) .
3- الفساد الجنسي : لأنه يجلب اقتصاداً للشركات الكبرى ، وهذه الشركات لا
يهمها إلا الربح ، ولم يعد الأمر بالنسبة لها فضيلة أو سواها ، بل القضية
احتكار ربح . وتفيد أرقام منظمة الصحة العالمية أن خمسمائة ألف امرأة وصلن
إلى دول الاتحاد الأوروبي في نهاية 1995 عبر المتاجرة بهن ، وقدر المسؤولون
الأمريكيون في مؤتمر بكين الخامس عدد تلك النساء اللواتي دخلن إلى الولايات
المتحدة الأمريكية بخمسين ألف امرأة !
خامساً : سلبيات أخرى في العولمة الغربية :
1- يحكم هذا النظام قانون تضخيم الأرباح ولو على حساب أرواح جياع
ملايين من الناس
2- يحكم هذا النظام العلمانية ( التي ترفض كل الشرائع الإلهية ، ومرجعية
النظام العلماني : المنفعة الخاصة المادية ) .
3- أشاعت الفساد الأخلاقي ، فقد انتشرت المخدرات ، وجرائم القتل ، وسقطت
كرامة الإنسان ، وبدل أمنه خوفاً ، وهبطت المُثُل ، وتفوقت الماديات على
المعنويات في كل شيء .
4- انتشر الفقر وازداد سطحاً وعمقاً ، فقد دلت الدراسات على أن ثلاثة
مليارات ونصف المليار من سكان العالم لا يحصل إلا على 6% فقط من الدخل
العالمي ، فيما يحصل الملياران ونصف المليار الأخرى على 94% من الدخل
العالمي ، وفي تقرير رسمي نشر فيه : إن أربعين ألفاً يموتون يوميا جوعاً
، وإن ما يقرب من مليار إنسان يعانون من سوء التغذية ، وإن حوالي مليار
ونصف المليار من دون مياه صالحة للشرب ، وإن مليار إنسان عاطل عن العمل ،
وإن ثلاثمائة وخمسين ألف طفل يموت يوميا في أنحاء العالم ، بينما يقدر ما
تسيطر عليه شركات السلاح وأسواق المخدرات من المال بـ 90% من الاقتصاد
العالمي .
5- إن العولمة الغربية قضت على حقوق الإنسان الثقافية : فالعولمة الغربية
كالوحش الكاسر ، التي تأتي على الأخضر واليابس الذي نبت خارج إطارها ،
لتمحوه وبدون هوادة ، ومن المعلوم أن لكل مجتمع قيمه المتجذرة فيه ومثله
الراسخة في ضميره ، وهذه القيم وتلك المثل هي التي تشكل نظرته ، لكن
العولمة تقضي عليها وتحل محلها قيمها ومثلها المادية ، ولا يخفى أن
المعاهدات الدولية تؤكد على أن للإنسان الحق في التمسك بثقافته الخاصة ،
والتكلم بلغته الخاصة ، والتجاهر بدينه الخاص ، والإعلان عن مذهبه الخاص ،
لكن العولمة تبغي تعميم ثقافة واحدة على سائر أركان المعمورة ، وهل هذا إلا
افتراء ؟! وقد عرف عن أمريكا تفوقها على بقية الدول في نسبة ما تصدر من
مواد ثقافة فكرية وترفيهية تنشيطية ومسرحيات وأفلام وبرامج ، إلى حد أن
صادراتها في هذا الشأن تفوق صادراتها في المجالات الأخرى .
6- بلاء التلوث : الذي سببته الصادرات الصناعية الأكثر تلويثا للبيئة ، وقد
تكون المجتمعات المستوردة ليست ذات حاجة ، لكنها وبفعل ضغط الدعاية
العولمية والتسهيلات المادية ظاهرا تغدو في حالة شعور بحاجة إلى ذلك .
سادساً : مصير العولمة الغربية :
إن العولمة الغربية في نظر ذوي العقول السليمة لم تؤسَّس على أسس
عقلية ومنطقية ، ولا على قواعد أخلاقية ولا إنسانية . وعولمة هذه ملامحها
السقوط مالها ، كما حدث للعولمة الشرقية الشيوعية التي قامت يوم قامت على
المعايير المتخلية ذاتها عن العدالة والفضيلة ، التي تقوم عليها عولمة
الغرب اليوم .
د. محمود عكام
التعليقات