آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
موانع قبول الحق

موانع قبول الحق

تاريخ الإضافة: 2007/06/01 | عدد المشاهدات: 4067

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

يسأل كثير من الناس: أليس الحق أبلجاً ؟ أليس الحق واضحاً ؟ أليس الحق أحق أن يُتبع ؟ والجواب: بلى. يقولون: إذا كان الحق أبلج واضحاً أحق أن يتبع، فلمَ يعدل من يعدل عن الحق ؟ ولماذا يجانب كثير من الناس الحق ؟ ولماذا يظهر كثير من الناس بمظهر المبتعد عن الحق ؟ بكلام آخر: ما الموانع والسدود التي تقف أمام الإنسان الذي يعدل عن الحق ؟ ما الموانع التي تمنع ذاك الإنسان من أن يتابع الحق وأن يعلن الحق ؟

لعلي في هذه الخطبة أحب أن أذكر لكم موانع تقف حاجزاً وسداً ومانعاً أمام ذاك الذي تراه يعدل عن الحق ولا يُقبل عليه، أمام ذاك الإنسان الذي يرى الحق لكنه لا يعلن الإيمان به، أمام ذاك الإنسان الذي يناديه قلبه أن ها هو الحق فهيا إليه، لكنه وضع أمام نفسه سدوداً وموانع وحواجز، لم يستطع أن ينفذ من خلالها ليعلن حقيقة ما يناديه إليه قلبه.

المانع الأول من الموانع التي تمنع الإنسان أن يصل إلى الحق الجهل: ولقد قرأت عبارة في يوم من الأيام لفيلسوف الإسلام (محمد إقبال رحمه الله) يقول: "ولو أن من كفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أزال جهله بمحمد لاتَّبع محمداً وأحبه" لكن المشكلة هنالك من يجهل، وهذا الجهل إما أن يؤدي  بك إلى تعظيم من لا يستحق التعظيم، أو إلى تحقير من يستحق التعظيم، ولذلك ربما رأينا تصرفات كثيرة تنبعث وتنبثق من أبناء مجتمعنا، لا تدلل على علم، وإنما تدلل على جهل بهذا الذي يتوجهون إليه جماداً كان أو إنساناً أو شيئاً أو فعلاً، لأننا نرى من يتوجه بفعلةٍ إلى إنسان ما أو إلى شيء ما هذه الفعلة تنبئ عن جهل ذاك الإنسان، فهو يعظم أحياناً بناءً على الجهل، يعظم من لا يستحق التعظيم، وربما حقر من يستحق التعظيم، أعود إلى كلمة إقبال: "ولو أن من كفر بمحمد أزال جهله بمحمد لاتَّبع محمداً وأحبه". الجهل مانع من موانع الوصول إلى الحق وإلى إعلان الحق وإلى الاعتراف بالحق وإلى اتباع الحق، ولذلك قال ربنا عز وجل: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير﴾.

 تروي كتب السيرة أن خالد بن الوليد رضي الله عنه التقى عمرو بن العاص قبل أن يسلما، التقاه وهما في طريقهما إلى الإسلام، فقال خالد لعمرو: ما أخرك يا عمرو عن الإسلام إلى الآن ؟ فقال عمرو بن العاص: كان لنا آباء نقول بقولهم، حتى إذا ذهبوا نظرنا فإذا هذا الدين حق. كانوا جاهلين من خلال تجهيل آبائهم، الجهل مانع كبير من موانع الوصول للحق، فهل تريدون أن نبقى في الجهل نحكم بالغلط والخطأ والخطل وعدم الصواب والفساد ؟ أم تريدون أن نرقى لنكون في ساحة العلم وبالتالي إذا حكمنا كان الحكم صائباً وصحيحاً وغير مجانف لما هو واقعي بجدارة ؟

المانع الثاني من موانع الوصول إلى الحق الهوى: والهوى يعني استسلاماً للشهوات والنزوات، ولذلك قال الله عز وجل: ﴿ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله﴾ وقال الله عز وجل: ﴿فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوائهم﴾.

عدت لأهوائك عبداً                     وكم تستعبد الأهواء أربابها

شتان بين من يتبع الحق وبين من يتبع نزوات الهوى وشهوات الهوى، بل الهوى هو: نزوات وشهوات وخضوع لتلك الشهوات والنزوات، قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يروي أحمد في مسنده: (من أحب دنياه أضرَّ بأخراه، ومن أحب أخراه أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى).

يا هؤلاء لا تتبعوا الهوى، يا أيها الإنسان حيثما كنت إياك والهوى، انظر للحق وإياك أن تعدل عن الحق بدافعٍ من هوى أصاب قلبك، بدافع من نزوة خضعت لها واستسلمت لها، بدافع من شهوة كنت لها عبداً، نريد أن نجانب الهوى لأن الهوى يضلنا عن سبيل الله. فيا أيها الإنسان حيثما كنت لا تنظر إلى الناس فهؤلاء الناس هم أدرى بأنفسهم، لكنهم ليسوا أدرى بك. يقول ابن عطاء الله كلمة، وأريد أن يضعها كل منَّا في ذهنه لا سيما أولئك الذين يسمعون ثناءات من الناس، لا سيما أولئك الذين يتصدرون المحافل وتنهال عليهم كلمات المديح، قال ابن عطاء الله: "الناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذاماً لنفسك لما تعلمه عنها" ويقول ابن عطاء الله أيضاً: "العاقل لا يترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس" لكننا أصبحنا اليوم نترك يقيننا لوهم الناس، أنا أَعرفُ بنفسي، أنا أعلم بنفسي وأعلم أنني في الحد الفلاني، وفي المقام الفلاني، فإذا ما جاء إنسان وقال لي: أنت أعظم ما في الوجود، وأنت أكبر من في الوجود. فصدقته، كنت في عين الحماقة، بل كنت الأحمق، الأكثر حماقة في الدنيا، إياكم والهوى فالهوى لا يوصل إلى بناء، ولا يوصل إلى إنتاج، إنما الحق هو الذي يوصل إلى بناء وإنتاج فالهوى مانع من موانع الوصول إلى الحقيقة والحق، فهيا إلى هجرانه وتركه والعدول عنه، وبذلك نتحقق بإنسانيتنا وإسلامنا وعروبتنا، لأن الإنسانية ليس فيها هوى آت من الهوان، ولأن الإسلام ليس فيه هوى آت من الهوان، ولأن العروبة ليس فيها هوى آت من الهوان.

نون الهوان من الهوى محذوفة                  فصريع كل هوىً صريع هوان

المانع الثالث من موانع الوصول إلى الحق الاستكبار والعناد: ﴿إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين﴾ لمَ الاستكبار ؟ لمَ العناد ؟ إن المشركين إبَّان عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم استكبروا وعاندوا، استكبر فرعون وقال وهو يغرق ﴿آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل﴾ لكن الخطاب وجِّه إليه ﴿آلآن﴾ فماذا كانت النتيجة ؟ واستكبر قارون فماذا كانت النتيجة ؟ واستكبر مسيلمة الكذاب فماذا كانت النتيجة ؟

قلت في يوم من الأيام: قال رسول الله الحق وهو ينطق النازعات والعاديات والنصر، وقال مسيلمة الباطل وهو ينطق الطاحنات – لأنه ادّعى أن سورة أنزلت عليه تسمى الطاحنات – والوبر، لكن العاديات والنازعات والنصر بقيت ترتل وتُقرأ، وقل لي بربك أين ذهبت الطاحنات والوبر أسماء سور ما أنزل الله بها من سلطان، لكن مسيلمة ادعاها وهو مستكبر معاند.

هيا إلى هجر الاستكبار والعناد، فمن هجر الاستكبار والعناد وصل إلى الحق، استكبر مشركو قريش وعاندوا وطالبوا النبي معاندين فقالوا له: ﴿لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً. أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً. أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً﴾.

أتباع العناد والاستكبار يطالبوننا يقولون لنا: إذا كان الإسلام صحيحاً وإذا كان الإسلام حقاً وإذا كان الأمر كذا وكذا فلماذا لم تنتصروا على إسرائيل ؟ وكأن القضية مرهونة بأن يعلن ويدعي الإسلام من يدعي، وأن مجرد الادعاء يكفي لكي ننتصر على إسرائيل، أو لكي ننتصر على التخلف وعلى التقهقر وعلى التأخر الذي غُرس في أرضنا ولم يُنزع بعد، استكبار وعناد سيؤدي إلى باطل وفساد، لكن عدم الاستكبار وعدم المعاندة، لكن الخضوع للحق، لكن الإتيان لساحة الموضوعية سيوصلنا إلى الحقيقة نراها بأعيننا ونلمسها بأيدينا، ونعايشها بوجداننا ووجودنا.

المانع الرابع من موانع الوصول إلى الحق الخوف: الخوف مزروع فينا، إن الخوف يقضي على الإبداع، وإن الخوف يقضي على التطور، وإننا ما دمنا خائفين فلن يكون هنالك تقدم، ولن تكون هنالك رسالة إنسانية متحققة، والله عز وجل وصف عباده في القرآن الكريم فقال: ﴿يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم﴾ وقال الله عز وجل: ﴿ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله﴾ الخوف رذيلة الرذائل، الخوف على حياتك وأنا لا أقول لك بأن تخاطر في حياتك، ولكن أريد منك أن تنشط وأن تنزع الخوف من نفسك، الخوف الذي يقتل فيك الإبداع، والذي يقتل فيك قول الحق، والذي يقتل فيك الصدع بالحق والجرأة في الحق، لقد خُوِّفنا فخفنا، وأرعبنا فارتعبنا، لقد كشَّر أعداؤنا عن أنيابهم في وجوهنا وإذ بنا نندحر خوفاً وجبناً، لقد استعاذ النبي عليه وآله الصلاة والسلام من الخوف فقال: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال).

قرأت على مسامعكم أكثر من مرة قصة السحرة، سحرة فرعون يوم آمنوا بموسى وهددهم فرعون قائلاً لهم: ﴿آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى﴾ أجابوه ﴿لن نؤثرك على الذي جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى.

 يا أمة الإسلام، يا أمة العرب، لمَ أنتم خائفون ؟ ألم تقرؤوا سيرة الأبطال ؟ ألم تقرؤوا سيرة المؤمنين بالقدر ؟ ألم تقرؤوا سيرة الصحابة رضي الله عنهم يوم كان الإيمان بالقدر دافعاً لهم من أجل الشجاعة في الله ومن أجل الله ومن أجل كلمة الله ؟ يوم كان الإيمان بالقدر حافزاً لهم على أن يقولوا كلمة الحق بشكل أو بآخر ؟ يا أمة الإسلام لماذا تخافون وأنتم كثير إن عدلتم عن الخوف إلى الشجاعة من أجل الحق وفي سبيل الحق ؟

أنتم قليل إن كنتم خائفين حتى ولو وصل عددكم إلى المليارات ولكنكم أنتم وأنتم كثير إذا كنتم شجعاناً حتى ولو كان عددكم يصل إلى الآلاف فحسب، جاء في السنن أن سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لن يُغلب اثنا عشر ألف من قلة) ما داموا شجعانا، ما داموا يتوجهون إلى ربهم مؤمنين بالقدر قائلين له: يا ربنا لقد علمنا نبيك عندما قال: (يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشي لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).

الخوف وراء كل تخلف، ووراء كل تأخر، ووراء كل رذيلة نعيشها، يخاف هذا من ذاك فلا يعمل الذي هو خير، ويخاف ذاك من هذا فلا يقول الذي هو خير، وهكذا أصبحنا إلى حدٍ ما في عالمنا العربي والإسلامي مُدَّجَّنين ومحكومين بالخوف، فإلى متى وأنا لا أدعي أني خلعت ثوب الخوف عني فأنا واحد منكم وإننا جميعاً لابسون جلباب الخوف والجزع والجبن ؟ فإلى متى يبقى الواحد منا قوياً من أجل دنياه يغامر ويخاطر ويتزلَّف وينافق لكنه من أجل مبدئه ومن أجل دينه ومن أجل حقيقة وجوده ومن أجل إنسانيته يجبن ويتخاذل ويزعم أنه في عمله هذا يحتاط، لا ورب الكعبة، أين حيطتك في دنياك حتى تكون هذه الحيطة في دينك ومبدئك مقبولة، ما لي أراك قوياً في منافعك المادية الموهومة حتى إذا وقفت أمام منافعك المبدئية الإنسانية الواقعية الحقيقية أراك قد ابتعدت عن الشجاعة فأصبحت في نقيضها، وعن الجرأة فأصبحت في عكسها وضدها، وعن ما هو خير لتصبح آلة صماء تُشغَّل ولا تشتغل، تُفعَّل ولا تفتعل، تقوم على التحريك لا على الحراك، تقوم على العمالة لا على أن تكون صادقة في فعلها وتوجهها، فإلى متى ؟ آمُل أن نكون على مستوى الوصول إلى الحق، أقول هذا وإن كنت أعلم أن الخطاب أحياناً يستوجب كلاماً مباشراً ولكني آمُل من وراء الكلام هذا أن نصل في يوم من الأيام إلى منهاج نطرحه على أنفسنا، هذا المنهاج يزيل عن أولادنا عن أنفسنا الجهل لأن الجهل مانع من موانع الوصول إلى الحق، يزيل عن أولادنا وتلاميذنا وطلابنا وأبناء سورية الغالية الهوى لأن الهوى مانع من موانع الوصول للحق، يزيل عن أبنائنا وعن نفوس تلاميذنا العناد والاستكبار لأن الاستكبار والعناد مانع من موانع الوصول إلى الحق، يزيل عن أبنائنا الخوف لأن الخوف مانع من موانع الوصول إلى الحق، أنا لا أطلب منكم أن تقوموا الآن من هذه الخطبة أن تقوموا عالمين أصحاب حقيقة متواضعين طالبين للحق شجعانا، أنا أعلم أنه لا يمكن أن يكون التغيير بين ساعة وأخرى، لكنني أطرح على نفسي وإياكم هذا الذي طرحته من أجل أن نحول هذا الكلام إلى مناهج، فالمناهج هي التي تثمر في النهاية، أنا لا أطلب منكم الآن، صيروا أو هيا من أجل أن تكونوا أقوياء وبعيدين عن الجهل والهوى والاستكبار، لكنني ألزمكم وألزم نفسي بالبحث الجاد المنهجي الذي يوصل إلى تربية تنتج أجيالاً بعيدة عن الهوى والجهل والعناد والاستكبار والخوف، فإلى هذه التربية وإلى هذه المناهج أدعو نفسي وأدعوكم وأدعو المثقفين على اختلاف أديانهم وعلى اختلاف مذاهبهم وعلى اختلاف أعراقهم، أدعو كل المسؤولين عن سورية إلى تربية تؤدي إلى هذا الذي قلته، لأننا معنيون جميعاً لا فرق بين إنسان وإنسان ولا سيما أولئك الذين يعيشون على أرض سورية، سورية التي نريد لها أن تكون دولة متقدمة ومتطورة في سلم الإنسانية على اتساع مجالاتها واقتصاداتها أعني الإنسانية.

فاللهم وفقنا جميعاً حاكمين ومحكومين، اللهم وفقنا جميعاً مسؤولين ومسؤولين عنهم من أجل أن نكون بعيدين عن الجهل وعن الهوى وعن الاستكبار والعناد وعن الخوف، وفقنا إلى ذلك يا رب، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ: 1/6/2007

التعليقات

شاركنا بتعليق