أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:
منذ أيام لقيت رجلاً مهتماً بما يسمى بالتخطيط، فقلت له: ما التخطيط ؟ فقال: قل لي أنت ما الذي تريده من التخطيط عندما تسأل عنه، أو بمعنى آخر: هل عندك فكرة عن التخطيط ؟ رد على سؤالي بسؤال. فقلت له: التخطيط بالنسبة لي قضية هامة ولكنه لا يعدو أن يكون، وأريدك أن تؤكد على نفسك وأنت تسمع هذه الكلمات، التخطيط: موقف جاد بنَّاء حيال الأزمنة الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل.
ما الموقف الذي يجب أن تتخذه حيال الماضي وحيال الحاضر وحيال المستقبل ؟ إذا اتخذت موقفاً بناءً جاداً حيال هذه الأزمنة الثلاثة فأنت تخطط، وتابعت حديثي وقلت له: بالمجمل، وأنا لا أحدثك عن علم التخطيط، وإنما عما يمكن أن أعبِّر عنه فيما أعلم، من خلال اطّلاعي وقراءتي وأنا أقرأ القرآن الكريم والحديث الشريف، وأحاول جاهداً أن أنهل من هذين المعينين الصافيين الراقيين الرائقين ما يمكن أن يكون هدياً لي في حياتي.
الموقف البنَّاء حيال الأزمنة الثلاثة بالمجمل: حِيال الماضي عِظة، وحيال الحاضر عمل، وحيال المستقبل أمل. وسأزيدك، الموقف البنّاء حيال الماضي عِظة وعبرة واعتبار، والموقف حيال الحاضر عمل ووعي واستحضار، والموقف حيال المستقبل أمل وتبصر واستبصار. وقبل أن أشرح هذه المواقف قلت له أيها الأخ الكريم: إن الواحد منا فيما يخص التخطيط المذكور اختلط الأمر عليه فهو حيال الماضي يقف موقف الإنسان الذي يسعى من أجل أن ينسب هذا الماضي له، فنحن حينما نتكلم عن ماضينا المجيد نتكلم عنه وكأننا نحن الذين صنعناه، أخاطب مسلماً اليوم فيقول لي: نحن فعلنا ونحن عملنا ونحن فتحنا ونحن صنعنا... أقول لهذا الذي يتكلم، عمن تتكلم أنت ؟ أنت تتكلم عن أناس مضوا ورحلوا، عن أناس عملوا، لكنك حينما تقول نحن صنعنا فأنت تحب أن تُحمد بما لم تفعل، فهل أنت الذي فتحت وعملت وصنعت واخترعت الدورة الدموية والصفر وما شابه ذلك ؟ لا، تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، عليك ألا تعيش مع الأزمنة الثلاثة عيش من اختلط الأمر عليه فراح يتكلم عن الماضي كأنه حاضر، من أجل ألا يعمل في الحاضر، ويتكلم عن الحاضر كأنما يتكلم عن مسؤولية ملقاة على عاتق غيره وليس على عاتقه، ويتكلم عن المستقبل يرسمه كما يريد من أجله ومن أجل أبنائه على المستوى القريب جداً، ومن أجل من معه من أصدقائه وأصحابه ويضع مكان التبصّر والاستبصار التمني والأمنيات.
مشكلتنا يا أخي في التخطيط، في أننا لا نعرف الأزمنة الثلاثة بأبعادها الصحيحة، لذلك دعني أتابع حديثي معك عما يجب أن نتخذه من مواقف حيال هذه الأزمنة.
موقفنا حيال الماضي عبرة واعتبار وعظة: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب﴾، ﴿قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين﴾، وانظروا كيف كان عاقبة المصدقين، انظروا كيف كان عاقبة الكسولين، وانظروا كيف كان عاقبة الفاعلين النشيطين، وانظروا كيف كانت نهاية الذين صدقوا وعملوا واشتغلوا واجتهدوا، وانظروا كيف كان عاقبة أولئك الذين أضاعهم اللهو ووضعوا أمام أعينهم الفراغات التي لم تُملأ إلا بما هو فارغ، زادوا الفراغ فراغاً، وكان عليهم أن يملؤوا الفراغ نشاطاً وعملاً. قرأت عبارة للإمام علي كرم الله وجهه كان يقول: "إنما ينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار، ويقتات منها ببطن الاضطرار" لا يملأ بطنه إلا عندما يُضطر إلى ذلك، لا يأكل إلا عندما يجوع، ولا ينام إلا عندما يشعر بحاجة إلى النوم، ولا يعمل أي أمر إلا عندما يرى هذا الأمر أضحى ضرورة لا بد منها، "إنما ينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار ويقتات منها ببطن الاضطرار"، صار الطعام بالنسبة لنا أمراً يجب التخطيط له، أعني الوجبات التي نأكلها وما يجب أن نخطط له نحن في عزوفٍ عن التخطيط له، صارت قضية ما يجب أن تلبسه في الحفل الفلاني يستغرق منك وقتاً طويلاً حتى تكون أمام الناس أمثولة، أمثولة من أي شيء ؟ أمثولة في شكله وما أظن أن الناس ينتبهون إلى ما تريد أن تنبههم إليه، فيا أخي الكريم إنما ينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار ويقتات منها ببطن الاضطرار، نحن نفخر بأننا أمة تنتمي لمقولة، وهذه المقولة ليست حديثاً، ولكنها مقولة ترعرعت في تاريخنا: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع"، وسمعنا مثلاً صينياً يقول: "نحن نأكل لنعيش، ولا نعيش لنأكل"، ونقول هذا المثل حكمة رائقة سائغة ويا لها من حكمة، لكن الواقع ليس، كذلك فنحن نعيش لنأكل، والواحد منا يفكر في صباحه فيما يجب أن يأكل وفيما ينبغي أن يأكل ولا يفكر أبداً فيما يجب عليه أن يفكر فيه. الموقف مع الماضي عظة واعتبار.
الموقف مع الحاضر عمل: كلنا يتحدث عن عمل مدعوٍ إليه في القرآن الكريم، كم مرة قال الله عز وجل عن العمل وحضَّ عليه، كم آية ؟ آيات كثيرة ذكرت العمل وأكثر ما نستشهد به: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ وأنا أطلب منك ما يلي: أن تعرض عملك أمام عينيك، واستشعر أن الله يرى عملك، وأن رسوله يرى عملك، وأن أصحابه الكرام والمؤمنين الفاهمين يرون عملك. أريدك أن تستشعر رقابة ربك لعملك ورقابة رسول الله لعملك ورقابة الصحابة الكرام لعملك ورقابة المؤمنين لعملك هل إذا ما استشعرت هذه الرقابة تشعر بأمان واطمئنان أم أنك تريد أن تُخبئ نفسك في عالم النسيان والإهمال: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم﴾ أين عملك الذي يراه الله عز وجل ؟ أيها الموظف، أيها المسؤول، أيها الجندي، أيها المهندس، أيها الطبيب: انظر صباحك، وانظر مساءك، وانظر ما بينهما، وانظر إنتاجك، وانظر عملك هل أنت راضٍ عن أن يرى ربك عملك، وهل أنت راضٍ عن أن يرى رسول ربك عملك وإنتاجك، وهل أنت راضٍ عن أن يرى المسلمون ما صدر عنك من قول أو فعل ؟ ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾، وهل تريدون مُعززاً أقوى من أجل العمل من هذا المُعزز ؟ وهو أن الله سيرى عملك، وأن عملك سيُعرض على ربك، وأن عملك سيراه رسول ربك، وأن عملك سيراه المؤمنون الصالحون العاملون الواعون، وهل هناك معزز أكثر من هذا ؟ عندما أقول لك على سبيل المثال ومن باب التقريب ولأننا أمة مادية لا تؤمن إلا بالحس وللأسف الشديد، لو قلت لك إن عملك هذا الذي ستقوم به سيراه رئيس الجمهورية عندها ستكون هناك نية صادقة، سيكون هنالك نشاط وسيكون هنالك إنتاج، نحن نسمع ولسنا بغرباء عن بعضنا عندما يقال لمحافظة ما بأن الرئيس سيأتي يوماً مثلاً، فإنك سترى المسؤولين عن هذه المحافظة سيعملون عملاً ما بعده عمل من حيث النشاط ومن حيث الإتقان، لماذا ؟ لأنهم وضعوا في ذهنهم بأن الرئيس سيرى عملهم، يا ناس الله يقول: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ إذا كنت تعمل بجد ونشاط بمعزز رؤية الرئيس عملك، فأين أنت من معززٍ مفاده رؤية ربك عملك، ورؤية رسول ربك عملك، ورؤية المؤمنين الصالحين عملك ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾. حديث معروف متفق عليه رواه البخاري ومسلم: (يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد) هل يرجع العمل لا، (يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله) أنت تفكر في جنازة حافلة يتبعك فيها آلاف مؤلفة، ألا يفكر الواحد فينا من أجل أبيه من أجل أخيه من أجل نفسه أن يكون أولئك الذين يتبعونه من الناس كثيرين ؟ نحن نفكر بالذين يرجعون ولا نفكر بالذي سيبقى معنا، كلنا يفكر بعدد الذين يشيعون الجنازة، ونتفاخر، خرج في جنازة فلان ألف، ألفان، ثلاثة آلاف، وخرجت سيارات فارهة، رسول الله يقول لكم : (يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله) وتهتمون بما يرجع ولا تهتمون بما يبقى ! يا ويح تلك الأمة التي تفكر بما يفنى وتفكر بما لا يبقى عندما تقابل ربها في لحظة لا بد منها، في لحظة ليس بينك وبين ربك ترجمان، ولن يكون السؤال في هذه اللحظة عن عدد أولئك الذين خرجوا في جنازتك ولا سيما في عصرنا الراهن فالمنافقة كثيرة والمداهنة كثيرة والذين يشيعونك، لا يشيعونك لأنك رجل مستقيم، ولا أتكلم عن كلهم ولكن بشكل عام يشيعونك مراءاة ومداهنة ونفاقاً، القضية معروفة وبينة وواضحة وجلية لا تحتاج إلى أن يُبرهَن عليها أو أن يُقدَّم من أجلها دليل. الموقف مع الحاضر عمل ووعي واستحضار، وإلا لا تفخروا بالماضي، وإذا ما نظر هذا الذي يسمعكم إلى حاضركم وجد حاضراً كسولاً وغياباً عن الوعي وعدم حضور، وجد غياباً في كل ما يمكن أن يصدر عنكم من إنتاج تستحقون على أساسه الانتماء الصحيح لأمة أنتجت.
الموقف مع المستقبل أمل وتبصر واستبصار: وأعني بالتبصر ما تريد من مستقبلك ؟ لأولادك، لك، لبلدك... أنت تريد لمستقبلك أن يكون مليئاً بالأمن والإيمان والسلامة والاطمئنان والرفاهية والحضارة والتقدم، وما أكثر هذه الكلمات في لغتنا العربية، وعلى ألسنة السَّاسة في المستوى الديني والسياسي والاقتصادي، فنحن شاطرون في رصف الكلمات التي تُعبِّر عن مستقبل مطموح إليه، لكن ما أريده الآن ونحن نتحدث عن موقف حيال مستقبل، هذا الموقف هو أمل وتبصر واستبصار. ما الذي تعنيه هذه الكلمات ؟ هذه الكلمات تعني أن أنظر إلى حاضري الذي أعيش فيه وهل يوصلني عملي ووعيي إلى هذا الذي أصبو إليه وأرجو أن يتحقق ؟ هل يوصلني عملي الذي أنا فيه إلى مستقبل آمن ومستقبل متطور وسعادة وسرور ورفاهية ؟ ما أظن أن هذا الذي نصدره يمكن أن يؤدي إلى هذا الذي نطمح إليه، ما أظن، فلكل أمر نتائج وغايات ولكل مسارات نهايات، وليس هذا الذي نحن فيه يؤدي إلى تلك التي نبتغيها ونرجوها ونود أنها تكون، أريد من نفسي وإخواني ومجتمعي ومن أبناء مدينتي ومن أبناء العالم الإسلامي والعربي، أريد من هؤلاء جميعاً أن ينتبهوا إلى التخطيط، إلى المستقبل، فهذا الذي نحن فيه لن يؤدي إلى النتائج التي وضعناها في أذهاننا وقلنا لعقولنا عليكم أن تقبلوها قسراً، فنحن أمة تعودت على أن تقسر الآخرين، وحتى العقول، من أجل أن تعتقد أن الغزال يطير، حتى لعقولنا أصبحنا من القاهرين، من أجل أن تقنع بما لا يمكن أن يقتنع العقل، حوّلنا العقل من حر إلى عقل مُصفَّد بالأغلال، حولنا عقولنا إلى عبدٍ مقهور، ألزمناه بقوانين لا يمكن أن تكون من قوانينه، وقلنا له إن لم تقبل هذا فأنت مجنون، وأنت غائب، فاضطر العقل بدافع القهر والذل إلى أن يقبل ذلك، وإلا أين إنتاج عقولنا ؟! فعدد سكان العالم الإسلامي يتجاوز المليار، حدّثوا عن العدد ولا حرج، أين عقول هؤلاء من أجل تخطيطٍ فاعل، من أجل اتخاذ مواقف جادة بنّاءة نحو الماضي ونحو الحاضر ونحو المستقبل. تبصّر واستبصار هذا ما يجب أن نتبناه من مواقف حيال المستقبل وإلا فالقضية ستبقى، بل ستزداد رجوعاً وتقهقراً، ولن نحصد إلا ما نحصده اليوم من ذل وقهر يُصب علينا صباً، أولادنا، آباؤنا، أمهاتنا، أطفالنا، الرّضع منا يُقتَّلون وأصبح منظر القتل لنا من قبل عدونا ومن قبلنا نحن وأنفسنا وإخواننا أمراً معتاداً عليه، ولا يؤثر على الواحد منا من أجل أن يدفعه لشيء من التفكير أو الوقوف أو الاعتبار، بل غدت القضية أمراً مُدمناً عليه، نرى القتيل هنا منا بأيدينا أو بأيدي عدونا ونقول في أحسن أحوالنا ومن شفاهنا: "حسبنا الله ونعم الوكيل" ونرفع أيدينا من أجل أن ندعو ربنا من شفاهنا فقط، نقول اللهم انصر الإسلام والمسلمين، ونظن أننا فعلنا الذي يجب أن نفعله، ويقفل الملف.
أكرر في النهاية: المعادلة واضحة التخطيط، موقف جادّ بنّاء نحو الماضي يعني العظة والعبرة والاعتبار، وموقف جاد نحو الحاضر يعني العمل والوعي والاستحضار، وموقف جاد نحو المستقبل يعني الأمل والتبصر والاستبصار.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا من أجل أن نكون من المخطّطين، ليس فقط لأنفسهم وإنما لإنسانية، هكذا نقول لإنسانية تسعد بديننا الذي نُقدِّمه، لكننا إذ نقدمه ليس كما هو وإنما نقدمه مصطبغاً بصبغة نفعية شخصية خاصة، فاللهم اجعلنا ونحن نقدم الإسلام من الصادقين المخلصين الواعين العاملين الفاهمين، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت بتاريخ: 29/2/2008
التعليقات