آخر تحديث: الجمعة 26 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
رمضان مدرسة الحرية

رمضان مدرسة الحرية

تاريخ الإضافة: 2008/09/05 | عدد المشاهدات: 2621

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

من منا لا يحب أن يوصف بالحرية، ومن منا لا يعشق الحرية، إذا كنا نحب الحرية ونعشقها ونريدها وصفاً لنا فما الحرية ؟

الحرية بكل بساطة: قدرة على الاختيار بين ممكنين.

أمامك أمر حينما تشعر بأنك تستطيع أن تختار، أن تفعل هذا الأمر أو أن لا تفعله فأنت تشعر بحرية. الحرية: قدرة على الاختيار بين ممكنين فأكثر. لكن الحرية لا تقف عند هذا الحد وإنما علينا أن ننظر إلى نتيجة الاختيار، فإن اخترت أمراً كان العقل والفكر وراءه فأنت حر فعلاً، وإن اخترت أمراً كانت الشهوة والنزوة والضغط النفسي وراءه فلست حراً حتى ولو اخترت. سأضرب مثالاً على ذلك من خلال الصوم. جاء في الحديث القدسي الصحيح أن الله عز وجل قال: (فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يفسق، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم).

المثال: يشتمك إنسان في رمضان، يصرخ في وجهك إنسان في رمضان، أنت أمام هذا أمام اختيار بين أمرين ممكنين بالنسبة لك، فإما أن ترد عليه الشتم بالشتم أو بزيادة، وإما أن تسكت وتختار طريق الصفح والإعراض عن الجاهلين. فإن اخترت الشتم مقابل الشتم فحدثني عن هذا الذي دفعك إلى اختيار هذا الطريق، طريق الشهوة والنزوة والشيطان والشر، ولذلك صحيح أنك اخترت لكنك لست حراً في اختيارك، فإن اخترت الطريق الثانية وهي الصفح والإعراض وأن تقول سلاماً فأخبرني عن الذي دفعك إلى هذا الاختيار. فإن الذي دفعك إلى هذا الاختيار لا شك هو العقل والمنطق والخلق الحميد والله والخير. عند ذلك فأنت حر لأنك لم تقع تحت سيطرة دوافعك اللا أخلاقية وغرائزك وشهواتك التي تشتغل ضدك لذلك جاء الحديث القدسي الذي يقول: (فإن سابَّه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم) فإذا قلت لمن يشتمك في رمضان وأنت صائم أو لمن يسبك في رمضان وأنت صائم إذا قلت لهذا الشاتم وهذا السابّ: "إني صائم" فأنت حر لأنك اخترت أمراً كان العقل وراء هذا الاختيار وكان المنطق والخلق الحميد وراء هذا الأمر، لذلك رمضان مدرسة الحرية.

تعالوا نتحدث عن الاختيار والحرية في رمضان.

أولاً: رمضان نفسه اختيار بين ممكنين، بين صوم مفروض وبين فطر مرفوض، من الذي فرض عليك الصيام ؟ ربك. من ربك ؟ الذي خلقك. من خلقك ؟ الرحمن الرحيم. من الرحمن الرحيم ؟ هو الذي يرحمك، هو الذي يتولاك، هو الذي يريد الخير لك، هو الذي فرض عليك الصيام. فإن اخترت الصيام المفروض من قبل ربك الرحمن الرحيم الخلاق كان ذلك تعبيراً عن حريتك، وإن اخترت الفطر المرفوض، صحيح أنك اخترت، وصحيح أنك حر إذ تختار بين ممكنين، لكن الحرية هذه هي حرية في الظاهر وفي حقيقتها عبودية لشهواتك. عندما تُغلِّب أمر شهواتك على أمر ربك، عندما تُغلِّب أمر نزواتك على أمر ربك، عندما تُغلِّب أمر هذا الذي يقبع في داخلك من شيطان يريد أن يؤزك أزاً على أمر ربك فأنت لست حراً حتى ولو كانت الحرية صفة لك في الظاهر. بين صيام مفروض وبين فطر مرفوض، إن اخترت الصيام المفروض فأنت حر، وإن اخترت الفطر المرفوض فأنت حر ظاهراً لكنك في حقيقتك رقيق شهواتك لكنك في حقيقتك عبد نزواتك ولذلك قال ربنا العليم الخبير عن أولئك الذين اختاروا الطرف الآخر الأحرار حسب الظاهر لكنهم عبيد لأهوائهم: ﴿إن يتبعون إلا أهواءهم﴾، وقال شاعرنا:

عدت لأهوائك عبداً وكم           تستعبد الأهواء أربابها

رمضان مدرسة الحرية.

ثانياً: عليك أن تمحِّص، وقد اخترت عبودية الله على عبودية غيره، أنت أمام اختيار بين ممكنين، إما أن تختار عبودية الله وإما أن تختار عبودية غيره، فإن اخترت عبودية الله كان وراء هذا الاختيار عقل ومنطق وحجة وبرهان: ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون. الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وانتم تعلمون﴾، وإن اخترت عبودية غيره فحدثني بربك عن هذا الذي دفعك إلى هذا الاختيار، صحيح أنك حسب الظاهر حر لكنك في حقيقتك رقيق وأسير لشهواتك: ﴿إن الذين تدعون من دون الله﴾ عندما تتوجه بالعبودية لغير الله ﴿لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب﴾ أنت حر.

ثالثاً: أنت أمام اختيار، إما أن تختار منهاج ربك منهاجاً لك وهو من عند الخلاق العليم الرحمن الرحيم: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ وإما أن تختار كتاباً وضعه إنسانٌ مثلك، وضعه من لا يعلم حقيقته، حقيقة نفسه فضلاً عن أن يعرف حقيقته، فهل أنت في اختيارك لمنهاج آتٍ من غير ربك حر ؟ لا، لو فحصت ومحَّصت ودرست وتمكنت لوجدت أنك حر حينما تختار منهاجاً آتياً من غير ربك، لوجدت أنك حر في الظاهر لكنك في حقيقتك لستَ حراً وإنما أنت أسير هوىً ومصالح ونزوات كانت وراء هذا الاختيار، وانظر واسأل أولئك الذين اتبعوا غير القرآن من قبل فلما آبوا إلى أنفسهم ورجعوا إلى حقيقة ما يجب أن يفكروا فيه رأوا بأعينهم أن اختيارهم لمنهاجٍ آتٍ من غير ربهم لم يكن حرية وإنما كان محض عبودية للأهواء والنزوات.

رابعاً: قل لي بربك هل تختار خدمةً لوطنك ووفاءً لوطنك أم تختار خيانة وطنك ؟ هذا الذي يخون وطنه ثم يقول أنا حر، والحرية اختيار بين ممكنين وقد اخترت أن أخون وطني نقول له: ما الذي يقبع وراء هذا الاختيار، وراء الخيانة، وراء مجابهة الوطن، وراء العمل ضد الوطن، ما الذي يقبع وراء ذلك ؟ الذي يقبع وراء ذلك المصالح الخاصة العاجلة، المصالح الشخصية، الأهواء النزوات المنافع الدرهم الذي يُلمع المرأة التي تتحلى وتتبجح داعية إياك في أن تكون أسيرها وقتيلها، هذا الذي يقبع وراء اختيار الخيانة للوطن، أما حينما تختار خدمة الوطن فأنت قد اخترت لمنطقٍ وعقلٍ وحجة وبرهان، أنت أعدت الوفاء إلى نفسك لأن خدمة الوطن تعني الوفاء، لأن خدمة الوطن تعني الأمانة، لأن خدمة الوطن تعني أنك أيها الإنسان صاحب قلب طاهر، تعني صدقاً، فمن قُتل دون أهله فهو شهيد ومن ضحى بروحه من أجل وطنه فهو شهيد، أنت أمام ممكنين لكنك ستكون حراً بالمعنى الصحيح للكلمة حينما تختار الممكن الذي يقبع وراءه العقل والفكر والمنطق والحجة والبرهان.

هل تختار ونحن نخاطب اليوم عالمنا وحكوماتنا، هل تختارون سلاماً قائماً على العدل وعلى إعطاء كل ذي حق حقه ؟ عند ذلك اختياركم يعني حرية، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فأعط كل ذي حقٍ حقه) كما جاء في البخاري، وربنا قال قبل ذلك: ﴿ولا تبخسوا الناس أشياءهم﴾ أما حينما تختارون سلاماً يُعطى الظالم فيه غير حقه فهذا ليس بسلام وهذه ليست بحرية وهذا ليس اختياراً سليماً وبالتالي لا يمكن أن نسمي الذي يختار سلاماً غير العادل حراً حتى ولو كان ظاهراً يتصف بالحرية، رمضان مدرسة الحرية.

هل تفطر حينما تفطر أنت في المساء تُفطر لأن الله أمرك أن تفطر وهو الذي أمرك أن تصوم، أم تفطر وأنت تنسى من الذي أمرك أن تصوم ومن الذي أمرك أن تفطر، أم تُفطر لأنك عودت نفسك على المنعكس الشرطي، على ردة الفعل، أُذِّن للمغرب فأنت تُفطر، ضربت المدافع فأنت تُفطر ؟ تذكر يا أخي وأنت تفطر أنك حر وأنك تُفطر لأنك اخترت الإفطار في هذه اللحظة بناءً على معطياتٍ آتية من ربك الذي أمرك بالصوم والذي فرض عليك الصوم، استشعر هذا عند الإفطار من أجل أن تكون حراً وإلا فلن يُعلمك رمضان الحرية ونحن نريد من صيامنا في رمضان أن نتعلم الحرية وأن نكون أحراراً.

أنا أدعو كل أفراد شعوبنا أن يكونوا أحراراً ومن أجل أن يدرسوا اختياراتهم، أن يدرسوا وهم يستشعرون القدرة على فعل أمرين ممكنين، أن يدرسوا عواقب اختيار كل أمر، إن اخترت هذا الأمر فما العواقب وإن اخترت ذاك الأمر فما العواقب ؟ إن هذا الأمر فما الذي ومن الذي دفعك لاختيار هذا الأمر، وإن اخترت ذاك الأمر فمن الذي دفعك لاختيار ذاك الأمر ؟ ونخاطب الدول والحكومات أنتم الذين تستطيعون أن تجعلوا من أفراد شعوبكم أحراراً حينما لا تضغطون عليهم من أجل أن يختاروا الذي يوافقكم. نحن لا نشعر بحرية حينما نقف أمام إنسان يرفع العصا أمامك ليقول لك اختر أحد أمرين، ونحن نعلم أنه يريد منك أن تختار الأمر الفلاني فستختاره لأن العصا هي التي تدفعك من أجل اختيار هذا الذي اخترته وليس العقل ولا المنطق ولا الحجة، فيا أيتها الحكومات ويا أيها الحاكمون نأمل أن تتعلموا في رمضان الحرية، أن تتعلموها لأنفسكم من خلال الصيام ومن خلال العبودية لله ومن خلال اختيار القرآن منهاجاً ومن خلال اختيار خدمة الوطن ومن خلال اختيار السلام العادل ومن خلال إفساح المجال أمام الشعوب حتى تختار، ولن ننسى ذاك الذي أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطالباً إياه بدَين، فهبَّ الصحابة، وكانت مطالبته غليظة وبفظاظة، هبَّ الصحابة من أجل أن يمنعوه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحاكم العادل الذي علَّم وربى أتباعه على الحرية (دعوه إن لصاحب الحق مقالاً)، لن ننسى هذا الصحابي الذي وقف في غزوة بدر وقال لرسول الله: يا رسول الله أهذا منزلٌ أنزلكه الله أم الرأي والمكيدة والحرب ؟ فقال: بل الرأي والمكيدة والحرب. قال الحباب: ليس بمنزل.       

أيها الحاكمون علموا شعوبكم الحرية، وأفسحوا المجال لهم من أجل أن يختاروا ويكون وراء هذا الاختيار العقل والمنطق والحجة والبرهان لا أن يكون وراء الاختيار خوف من عصا أو خوفٌ من عذاب أو خوفٌ من ترويع أو خوفٌ من... أو أن يكون وراء الاختيار ترغيب بمصالح ومنافع ومناصب، فالمناصب لا تُعطى إلا لمن يستحقها ضمن قواعد الحرية.

رمضان أيها الشهر العظيم أنت الذي تعلِّم الناس من خلال فريضة الصيام تعلم الناس الحرية لكننا اليوم نحن الذين ننتمي للإسلام لم نتعلم الحرية ولم نمارس الحرية، بل إن الشهوات حتى في رمضان هي التي تدفعنا للاختيار، من الذي يتحقق بهذا الذي ذكرناه في المستهل عندما يسبه أحدٌ أو يشتمه من الذي يقول لمن يسبه ويشتمه إني صائم ؟ من الذي يمشي في الشارع يمشي على الأرض هوناً وإذا خاطبه الجاهل قال سلاماً ؟ من الذي يُعرض عن الجاهلين ؟ من الذي يُساء إليه ويقول سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ؟ من منكم أيها الصائمون يعيش الحرية في رمضان حتى يعيشها في غير رمضان، إذا كنا في رمضان في شهر الصيام في شهر الحرية لا نعيش الحرية بيننا وبين أنفسنا فبالله عليكم كيف نعيشها في غير رمضان حينما يرحل شهر القرآن وحينما ترحل كل تلك الطقوس التي يأتي بها رمضان، فاللهم اجعلنا في رمضان من أهل الحرية، ممن يختار الأمر الذي يقبع وراءه عقل ومنطق وفكر وحجة وبرهان وخير آتٍ منك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، واجعلنا من عتقاء شهر رمضان، وأدخلنا الجنة من باب الريان بسلام، نعم من يسأل إلهنا ونعم النصير إلهنا أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ: 5/9/2008

التعليقات

شاركنا بتعليق