آخر تحديث: الجمعة 19 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
غايات العبادة الصرفة

غايات العبادة الصرفة

تاريخ الإضافة: 2009/03/13 | عدد المشاهدات: 4280

أما بعد، فيا أيها الإخوة المسلمون:

لا شك في أن لكل عملٍ من أعمالنا غاية، وما كان العمل في يوم من الأيام يُراد لشكله فقط وإنما هنالك غاية تقبع وراء هذا السلوك الذي تقوم به، أو وراء هذا القول الذي تقوله، وحتى لا نذهب بعيداً فإنني أريد اليوم حديثاً عن غاية صلاتك وعن غاية صيامك وعن غاية قراءتك القرآن وعن غايتك حينما تحج بيت الله العتيق وعن غايتك حينما تقوم بصلاة النوافل وعن كل هذه الغايات لكل هذه العبادات، فهل تريد أنت حينما تقوم بالصلاة والصيام والزكاة والحج وقراءة القرآن الكريم والعمرة وصيام النافلة هل تريد هذه العبادات لشكلها، لصيغتها أم أن لك غاية تريد أن تحققها من وراء ذلك كله، لا شك أننا نريد تحقيق غايات لا غاية واحدة فقط من وراء هذه العبادة التي كلفنا الله عز وجل بها. حاولت جاهداً أن أبحث عن الغايات من هذه العبادات فوصلت إلى ما يلي:

الغاية الأولى من الصلاة والصيام من الصلاة المفروضة والنافلة ومن الصيام المفروض والنافلة ومن قراءة القرآن ومن الحج ومن الزكاة ومن كل عملٍ تقوم به على أنه عبادة صرفة مباشرة، الغاية الأولى هي التحقق بالولاء لله عز وجل، أنت تريد من وراء كل العبادات أن تتحقق بصدق الولاء لربك، أن تكون بلسان حالك تقول وبلسان قلبك وبلسان عقلك تقول: "اللهم أنت أحق من عُبد، اللهم أنت أحق من ذُكر، اللهم أنت أكرم من سُئل، اللهم أنت أجود من أعطى، كل شيء هالكٌ إلا وجهك، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي وكتبت الآثار ونسخت الآجال، القلوب لك مفضية والسر عندك علانية، الحلال ما حللت والحرام ما حرمت والدين ما شرعت، ولا حول ولا قوة إلا بك". غاية العبادة التحقق بالولاء لربك الذي تعبده، هذه غاية أولى.

الغاية الثانية: ترسيخ الصلة بينك وبين ربك على أساس الحب: ﴿والذين آمنوا أشد حباً لله﴾، هذه العبادات ينبغي أن تحقق غاية هي أن تحب ربك أكثر، وأن تتوجه إلى ربك بصدق المحبة أقوى، ولعلك تسألني: وإذا أحببته ما الفائدة ؟ الفائدة يا هذا إن أحببت ربك اطمأنَّ قلبك، وإن أحببت ربك سعد قلبك، وإن أحببت ربك هان عليك الناس من حيث آثارهم غير الجيدة، إن أحببت ربك شعرت بالراحة والاستقرار، إن أحب فلانٌ إنساناً ذكراً كان أو أنثى لم يعد يسأل عن غير هذا الذي أحب، فما بالك حينما تحب ربك ؟ عند ذلك ستكون في ساح الاطمئنان مزروعاً، وستكون في ساحة الاستقرار مغروساً، ستكون بكل بساطة سعيداً، وجرّب يوم تشعر أن قلبك بكل ذراته يحب ربه ستجد السعادة التي لا يحلم فيها إنسان إلا إذا قام بهذا الذي تقوم به، وكلنا سمع يوم كان صغيراً وحين أصبح كبيراً الكلمة الواردة عن أولئك الذين سعدت قلوبهم بمحبة ربهم حين قالوا: "لو يعلم الملوك ما نحن عليه من اللذة لجالدونا عليها بالسيوف".

نحن مضطربون لأن قلوبنا غدت حيرى لمن تحب ؟ لمن تتوجه بالحب ؟ لذلك غاية عبادتك أن تحب ربك فإذا أحببت ربك فاعلم أن عبادتك حققت غايتها إذا بقي قلبك فارغاً من محبة ربك فاعلم أن عبادتك لم تحقق غايتها.

الغاية الثالثة من العبادة: تقوية تحمّل المسؤولية، ينبغي أن تحقق العبادة فيك غاية أن تقوي المسؤولية عندك، لأن العبادة بحد ذاتها مسؤولية تقوم بها تجاه ربك، وربك هذا الذي تقوم بمسؤوليتك نحوه هو ذاته جل وعلا من أمرك بمسؤوليات أخرى تتوجه بها إلى العباد، الله الذي تصلي له، الله الذي تصوم له، الله الذي تحج له، وأنت تحج وتصوم وتصلي لأنك تستشعر هذه المسؤولية نحو ربك فالله ذاته أمرك أن تقوم بمسؤولياتٍ أُلقيت على كاهلك تجاه خلقه تجاه والدك تجاه ولدك تجاه وطنك تجاه أرضك تجاه زراعتك تجاه صناعتك تجاه الفقراء تجاه أبناء بلدك تجاه العدل تجاه الخير وتجاه كل إنسان أمامك مهما كان هذا الإنسان، فالعبادة تحقق غاية تعميق المسؤولية عندك، فإن عمقت المسؤولية عندك تجاه ربك وتجاه الناس وتجاه الأرض فاعلم أن العبادة قد حققت بعض غاياتها. أنت الذي تعبد ربك وتقرأ القرآن الكريم تقرأ فيه قول الله عز وجل: ﴿وقفوهم إنهم مسؤولون﴾، أوَلست معنياً بهذا ؟ أنت معنيٌ بهذا، إذن أنت ستوقف لتُسأل، لتُسأل عن ماذا ؟ لتُسأل عن عبادتك الصرفة عن العبادة هذه ولتُسأل عن غاية العبادة هل تحققت بغاية العبادة ؟ هل قمت بمسؤولياتك نحو من أمرك الله أن تقوم بمسؤوليتك نحوهم أم أنك لا تعدو أن تكون إنساناً آلياً تصلي من غير ما تفكير في غاية تجب أن تتحقق، وتصوم صياماً آلياً من غير نظر إلى ما يجب أن تكون عليه بعد الصوم، والحالة التي يجب أن تكون عليها بعد الصوم يجب أن تكون أفضل مما كانت عليه قبل الصوم، وهكذا دواليك...

أنت يا من صليت عشر سنوات قل لي بربك ما الفرق بينك الآن وبينك قبل عشر سنوات، صليتَ كذا ألف ركعة وصمت كذا مئة يوم وقرأت القرآن الكريم مرات ومرات أريدك أنت أن تمسك دفتراً وقلماً، أن تمسك ورقة وقل أنا فلان منذ عشر سنوات وإلى الآن أصلي ما الذي قدمته لي صلاتي أنا ؟ هل أنا اليوم أفضل مما كنت عليه بالأمس من حيث الصلة بالله حباً من حيث الولاء لله عز وجل من حيث القيام بالمسؤولية نحو الله ونحو عباد الله ونحو الكون ونحو الحجر ونحو الشجر ؟ اقرأ نفسك وادرس نفسك هل أنت قبلاً كنتَ أفضل أم الآن أصبحت أفضل أم أنت في حالة لم تعد تفكر في مثل هذه القضايا ؟

الغاية الرابعة للعبادة: تربية الإنسان على النظام والترتيب، وهذا ما يجعلنا نخجل حينما نتكلم عن هذه الغاية لأن المسلمين اليوم في حالة فوضى ولا يمكن أبداً أن يكونوا قد فكروا، وأعني المسلمين اليوم في هذه الغاية، العبادات منظومة مرتبة منسقة منظمة، الصلاة على سبيل المثال فريضة منظمة لها وقت محدود لها أعمالٌ محددة لها شروط معروفة ومعلومة لها أركان ينبغي ألا تتجاوزها ألا تنقص منها لها... ونحن حينما نقول لأطفالنا صلوا نقول لهم لأن الصلاة تعلمنا النظام لكننا نقول على مستوى المجتمع الذي نعيش فيه: هل علمتنا صلاتنا نظاماً ؟ انظروا وقد قلت هذا أكثر من مرة على هذا المنبر بالذات انظروا خروجنا من مساجدنا انظروا أسواقنا انظروا مدارسنا انظروا جامعاتنا انظروا دوائرنا انظروا باصاتنا سياراتنا انظروا شوارعنا هل يمكن أن نكون هذا الذي ذكرت بعنوان النظام والترتيب والأناقة والدقة والضبط التي ما جاءت العبادات إلا من أجل أن تعلمنا هذه الأمور ومن أجل أن نقول أنها فعلت فعلتها فينا فأصبحنا متمكنين في النظام والترتيب والتنسيق، انظروا هذا المجتمع بكل تجلياته بكل صيغه بكل مستوياته انظروا إلى الحال التي هو عليها فلا يمكن أن تكون لا من قريب ولا من بعيد تشم رائحة ما يسمى بنظام بترتيب بتنسيق، انظروا ذهابنا ورواحنا وغدونا، انظروا حالنا انظروا كل شيء فينا انظروا كل شيء حولنا انظروا ومن باب الأمانة ومن باب لا نريد أن نبخس الناس أشياءهم، انظروا المجتمعات الأخرى التي لا يصلي فيها أفرادها خمس مرات ولا يصومون في السنة شهراً ولا يحجون في العمر مرة، الحج نظام، الحج طوافٌ وسعيٌ ورميٌ ووقوف وإحرام، الحج نظافة ظاهرة وباطنة ونظامٌ لكن أين اليوم هؤلاء الذين ينظمون حياتهم لأنهم عبدوا الله ؟ هؤلاء الذين لا يصلون في اليوم خمس مرات ولا يصومون في السنة شهر ولا يحجون في العمر مرة ولا يقرؤون القرآن الكريم انظر إليهم فإنك ستراهم في نظامٍ وترتيبٍ وتنسيق، وسترى شوارعهم منظمة وسترى أفنيتهم منظمة وسترى وسائلهم العامة منظمة وسترى مدارسهم منظمة ومصانعهم منظمة والأمكنة التي يكونون فيها منظمة ومطاراتهم منظمة، أما مطاراتنا فغير منظمة ومدارسنا فوضوية وجامعاتنا كذلك ومساجدنا كذلك ودوائرنا كذلك، كل واحدٍ منا قد جعل حبله على غاربه ومضى لشأنه وكأن الأمر لا يعنيه وهو بعد ذلك يصلي وهو بعد ذلك يصوم وهو بعد ذلك يقرأ القرآن الكريم وهو بعد ذلك يقول للناس ولا يرضى أن يقال عنه إلا أنه عابد بل عبد، أتريد أن تذهب هذه الأعمال التي قام بها ؟ لكننا في الحقيقة والأمور بنتائجها والأمور بمقاصدها والأمور بغاياتها أين الغاية وأين المقصد وأين النتيجة ؟ أين كل هذا ؟ انظروا حفلاتنا على سبيل المثال سواءٌ أكانت الحفلة دينية أو غير دينية نحن فوضويون في حفلاتنا في أعراسنا نحن فوضويون نبقى نسهر حتى ساعة متأخرة من الليل نزعج من حولنا ونحن نقول الأناشيد أنا أتكلم عن الذين يصبغون حفلاتهم بصبغة دينية حتى ساعة متأخرة نزعج من حولنا بأناشيدنا بأفراحنا الواهمة الموهومة بكل هذا الذي نقوم به، بصلواتنا حتى نزعج من حولنا هذا يقف على الشرفة يصلي صلاة الفجر في الصيف يرفع صوته جارك يريد أن يكون مطمئناً بجواره حينما يكون جاراً لك يريد أن يكون مطمئناً لكننا لا نقوم بهذا.

الغاية الأخيرة: العبادة تعلمك التوازن والاعتدال، ومن لم يكن متوازناً في حياته فالعبادة لم تحقق فيه غايتها ولم يتحقق بغايتها ولم تنتج العبادة فيه ثمرتها، التوازن، هؤلاء الذين جاؤوا إلى بيت النبي  - والحديث مروي في البخاري - وسألوا عن عبادته فلما سمعوا بها تقالوها، قالوا عنها قليلة كنا، نتوقع أن النبي كان يقوم الليل كله، وأن النبي كان يصوم الدهر كله، لكنهم بعد ذلك استدركوا فقالوا: رسول الله غفر له ما تقدم من ذنبه وأين نحن من رسول الله ؟ قال أحدهم أما أنا فأصوم ولا أفطر، وأما الثاني فقال وأما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، وأما الثالث فقال أما أنا فلا أتزوج النساء، جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع كلامهم غضب فقال: (أما والله إني لأتقاكم وأخشاكم لله، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي)، أي عن سنة التوازن والاعتدال، (فليس مني).

لذلك نقول أيها المتعصبون المتنطعون لستم من رسول الله، أيها المسيَبون المسيِبون لستم من رسول الله على الإطلاق، (إن لجسمك عليك حقاً) هكذا قال سيدي رسول الله لعبد الله بن عمرو بن العاص كما جاء في البخاري، (وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك – لزائرك – عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه).

أنت تصلي والصلاة لا تستغرق وقتك كله تستغرق بعضاً قليلاً من الوقت من أجل أن تترك سائر الوقت للعمل الذي وجدت لأجله والذي رُبط في عنقك من أجل أن تقدم من خلاله القوت لمن تعول والقوت لنفسك والتقدم لوطنك والازدهار لأرضك، ليس مطلوباً منك أن تقضي النهار بالصلاة، خمس مرات في اليوم لا تستغرق إلا هنيهة من الوقت تستغرق بمجموعها نصف ساعة لا أكثر ولا أقل، وسائر الساعات من أجل العمل ولولا أن الأمر المتوازن هكذا ما أمرنا الله عز وجل أن نصلي الصلوات الخمس بفروضها، إن كان عملك الآخر الذي أُسند إليك كثيراً فصلِّ الفريضة فقط ولا تدَّعي بأنك تريد صلاة السنة وأنت تعمل في معمل في مصنع، الوقت الذي يجب أن يكون لله وقت الفريضة وأما السنة فدعها إلى حيث تملك الوقت ولا تقل لصاحب ولا تستجدي منه الوقت من أجل أن تصلي السنة، صلها فيما بعد، صل النافلة في الليل حيث تملك الوقت كله أما صلاة الفريضة فهي الوقت الذي لا يساوم عليه ولا يدخل في عقد حتى ولو عقد معك صاحب المعمل عقداً على أن يكون الوقت كله له لرب العمل فإن أوقات صلاة الفريضة مستثناة حكماً وتلقائياً من هذا الوقت، ولذلك العبادات تعلمنا التوازن، ما بالك حينما تريد أن تكون في المعمل تقوم فتصلي الفريضة والسنة وما بعد السنة حتى إذا ما أتيت بيتك أضعت الساعات الطوال في أمرٍ لا طائل تحته، هناك تصلي السنة وفي البيت حيث تملك وقتك لا تصلي السنة ولا النافلة ولا تقرأ القرآن الكريم، أيجوز هذا ؟

لا أريد أن أُكثر أَكثر مما تكلمت، العبادة لها غايات انظروا غايات العبادات فيكم إن تحققت الغايات فاعلموا أن العبادات قد أنتجت وآتت أكلها وإلا فعلينا أن نعيد النظر في عبادتنا وعلينا أن نحاسب أنفسنا بعد كل عبادة نؤدِّيها وعلينا أن نكون من المحاسبين لأنفسنا فقط لا أن نحاسب غيرنا لأننا تعلمنا وما أدري من أين جاءنا هذا تعلمنا أن نحاسب الآخرين وأن ننسى أنفسنا تعلمنا أن نكون قضاة على الآخرين وأن نكون رحيمين على أنفسنا، ونحن في حقيقة الأمر كما قال من قال: نحن دعاة ولسنا قضاة. والداعي هو الذي يتحلى بالرحمة بالرفق هذا هو الداعي الذي يريد لدعوته أن تكون سارية بين الناس وأن تأخذ أبعادها الإيجابية والاستجابية من قبل الناس.

اللهم إني أسألك يا ربنا أن تجعل من صلواتنا وصيامنا وحجنا وقراءتنا القرآن وكل ما نقوم به في شكل عبادات صرفة أن تجعل كل ذلك سبباً ووسيلة صادقة للتحقق بتلك الغايات التي تريدها منا أنت يا رب العالمين، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 13/3/2009

التعليقات

شاركنا بتعليق