آخر تحديث: الجمعة 29 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
ملامح الاستقامة

ملامح الاستقامة

تاريخ الإضافة: 2009/08/07 | عدد المشاهدات: 3357

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

لعلنا حينما نتكلم عن الواقع نريد أن نُعرِّفه أولاً، وأن نتبيَّن صالحه من طالحه، فإن رأينا صالحه دعونا ربنا أن يزيدنا وأن يزيد الواقع صلاحاً، وإن رأينا واقعنا طالحاً جهدنا وعملنا بأن نحول هذا الطالح إلى صالح بعملٍ منا وبدعاءٍ وتوسُّل إلى الله العلي الكبير.

لو أني سألتكم الآن عن صفةٍ في التاجر تحبونها فيه، ولو سألتكم عن صفةٍ في المعلم تحبونها فيه، ولو سألتكم عن صفةٍ في الطالب تحبونها فيه، ولو سألتكم عن صفةٍ في الحاكم تحبونها فيه، ولو سألتكم عن صفةٍ في الطبيب، في المحامي، في القاضي، في الجندي تحبونها فيه، أعتقد - أيها الأحبة - أن الجواب الآتي سيكون بالنسبة لكم مرضياً، وجوابي لو سئلتُ عن صفةٍ أحبها في القاضي، في الحاكم، في التاجر، في المدرِّس، لقلت: الاستقامة.

مَن منا حينما يريد أن يصف إنساناً ما يعدل عن أن يصفه بالمستقيم ؟ إذا أردت أن تمتدح قاضياً، أستاذاً، حاكماً، مديراً، وزيراً فإنك تقول إنه مستقيم. وهذه الكلمة من الكلمات الفصيحة ومن الكلمات المحببة ومن الكلمات المعتمدة في العلوم الإنسانية وفي العلوم التجريبية، فكلمة مستقيم لها جَرَسٌ عظيم ولها وقعٌ محبب في كل المجالات لكن السؤال الآن: ما الاستقامة ؟ الله عز وجل قال: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا﴾ أنا أفهم الاستقامة كما يلي:

الاستقامة: (الألف والسين والتاء للطلب) أن تطلب تقويم أفعالك وأقوالك ونياتك. بمعنى آخر: أن تجعل لأفعالك ولأقوالك ولنياتك قيمة. إذا كانت أفعالك قيمة وإذا كانت أقوالك قيمة وإذا كانت نياتك قيمة فأنت مستقيم وتحقق بما طلبت، إذا كان قولك ذا قيمة عند الله - وأنت تعرف القول ذا القيمة عند الله -  وإذا كان فعلك ذا قيمة عند الله وإذا كانت نيتك ذات قيمة عند الله فأنت مستقيم.

فإذا ما كان قولك غير ذي قيمة، وإذا كان فعلك غير ذي قيمة، وإذا كانت نيتك ليست بذات قيمة فلست بمستقيم، شروط الاستقامة أن يكون قولك وأن يكون فعلك وأن تكون نيتك ذات قيمة، أن تكون لكل هذه الأمور قيمة عند الله عز وجل، إذا قيَّم الله فعلك وقولك ونيتك، أي أعطاها قيمة فأنت مستقيم شريطة أن يكون الجميع ذا قيمة، أن يكون القول منسجماً مع الفعل ذا قيمة، وأن يكون الفعل منسجماً مع القول من حيث كونه ذا قيمة، وأن تكون النية منسجمة مع القول والفعل من حيث كونها ذات قيمة، نؤكد هذا لأننا نريد من خطبة الجمعة أن تكون ورقة عملٍ معنا دائماً، لأننا لا نريد أن نخرج من هنا إلا وتستوي المعاني التي نريد تطبيقها، لأن المعنى الذي لا تستطيع تطبيقه لا يمكن أن يكون مفهوماً، والمعنى إن لم يكن مفهوماً ومحدداً فلن تستطيع تطبيقه ولن تستطيع تنفيذه لذلك نؤكد وللمرة المتكررة، أتريدون أن تتسموا بالاستقامة ؟ إذن علينا أن نبحث عن القول ذي القيمة وعن الفعل ذي القيمة عند الله وعن النية ذي القيمة، إذا تكاملت هذه الأمور وأصبحت ذات قيمة عند الله عز وجل فأنت مستقيم، إذا كان قولك ذا قيمة ولم يكن فعلك ذو قيمة فلست بمستقيم، وأنت حينها تدعى من قبل الله عز وجل: أن تطلب ﴿لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون﴾.

لو سألتك ما العلاقة التي بينك وبين المسلمين لقلت إنها الأخوة، فهذا القول ذو قيمة لأن الله أرادها كذلك، عندما تكون العلاقة بيني وبين المسلمين قائمة على الأخوة لأن الله قال: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ لكنني إذا رأيتك تفعل فعلاً لا يتناسب مع القول الذي قلته فأنت لست مستقيماً، وإذا كانت نيتك في تعاملك مع هؤلاء الإخوة لغير الله فلست بمستقيم حتى ولو كان فعلك ينبئ عن أخوة لأنك فقدت النية هنا فأصبحت غير مستقيم، لذلك يا إخوتي ضعوا علامات وملامح الاستقامة في ذهنكم وزنوا عليها، قولٌ ذو قيمة وعملٌ ذو قيمة ونية ذات قيمة. إذا اجتمعت هذه الأمور فأنت مستقيم.

أنت تحب الصبر، هذا قولٌ ذو قيمة ولكنك من خلال ما تعمل لا تصبر وتضجر وربما صدرت عنك عبارات لا تمتُّ إلى إسلامك وقولك بأنك تحب الصبر أو بأنك تريد أن تتسم بالصبر، إذا صدرت عنك أفعالٌ لا تتسم بهذا فلست بمستقيم لأن قولك ذو قيمة لكن فعلك ليس بذي قيمة، وبالتالي لا يمكن أن تكون مستقيماً، وإذا صبرتَ وأنت تنوي أمراً غير الله عز وجلت لن تكون مستقيماً: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة﴾.

الاستقامة في آخر ما يمكن أن نصل إليه أن يكون فعلك ذا قيمة وان يكون قولك ذا قيمة عند الله وأن تكون نيتك ذات قيمة عند الله عز وجل عندها فأنت مستقيم، فانظر إلى كل أقوالك جملة وإلى كل أفعالك وإلى كل نياتك هل تستطيع أن تصف ما صدر عنك من أقوال ومن أفعال ومن نيات بأنها ذات قيمة ؟ عندها فأنت مستقيم وإلا فتب إلى الله عز وجل لأن الله يقول لنبيه ويوصيه بالاستقامة: ﴿فاستقم كما أمرتَ ومن تاب معك﴾ وهذه الآية هي التي قال عنها سيدي رسول الله: (شيبتني هود وأخواتها)، والله عز وجل أمرنا وأوصانا بالاستقامة فقال: ﴿فاستقيموا إليه واستغفروه﴾، وأنا أتوجه إلى نفسي وإلى كل أفراد مجتمعي على اختلاف وظائفهم واختلاف مناصبهم وتجاراتهم وصناعاتهم لأقول لهم ولنفسي: فاستقيموا، استقيمي يا أمتي، استقيموا أيها الحكام، استقيموا أيها المسؤولون، لتكن أقوالكم ذات قيمة ولتكن أفعالكم ذات قيمة عند الله ولتكن نياتكم ذات قيمة عند الله عز وجل، استقيموا يا هؤلاء جميعاً لأن الله أوصانا.

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح الإمام مسلم: قال: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، – أريد منك قولاً بليغاً كعادتك يا رسول الله – قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم).

قولوا آمنا بالله ثم استقيموا يا أيها الناس يا أيها الباحثون عن رفعة يا أيها الباحثون عن نجاح يا أيها الباحثون عن فلاح يا أيها الباحثون عن رُقِيّ، يا أيها الباحثون عن مكان رفيعٍ تحت الشمس لأنه لم يعد لنا مكانٌ تحت الشمس أصبحنا في الظلام وأصبحنا ظلاميين لأننا نقول أحياناً أقوالاً ذات قيمة لكننا لا نفعل أفعالاً ذات قيمة. لأننا قد نقول أحياناً ونفعل أفعالاً ذات قيمة لكن نياتنا ليست على تلك القيمة المبتغاة والمرجوة ليست على ذات القيمة التي طلبها الله عز وجل منا أن تكون عليها.

فيا إخوتي أتدرون في النهاية ما نتيجة الاستقامة ؟

كلنا يسمع تلك الآيات التي يكررها شيوخنا كثيراً في الصلاة وخارج الصلاة: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا﴾ تلك سنةٌ ربانية لا يمكن أن تجد فيها خللاً ولا انحياز ولا عدول - ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون﴾ هذه نتيجة الاستقامة. وفي آية أخرى: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون﴾ ما بالنا وقد حل علينا كل الخوف على أمتنا فأصبحت أمتنا أمة خائفة أمة حزينة أمة مرعوبة لأننا لم نستقم وبكل بساطة، من استقام فلا خوفٌ عليهم ولا حزن: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون﴾ هكذا قال ربي، أتصدقون ربكم ؟ إذا كنتم تصدقون ربكم فها هو ربكم يقول لكم: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون﴾ ويقول ربي أيضاً: ﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً﴾ كثيراً نافعاً طيباً، ﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً﴾ لكننا الآن لا نُسقَى الماء الغدق لأننا لم نستقم، أتريدون الدليل على أننا أمة ليست مستقيمة ؟ انظروا متاجرنا وانظروا مدارسنا وانظروا شوارعنا وانظروا مساجدنا وانظروا ثكناتنا وانظروا كل الأماكن التي نرتادها دوائرنا مديرياتنا وزاراتنا انظروا كل الأماكن التي تشكل مجتمعنا فسترون الاستقامة خالية منها وسترون هذه الأماكن خالية من الاستقامة، الاستقامة معدومة إن لم تكن أحياناً موجودة بشكلٍ قليلٍ ونادرٍ في بعض النواحي وبسبب من هذه الاستقامة المتواضعة نرى ما نرى من بوادر خيِّرة في مجتمعنا في هذا الفضاء الذي نعيش فيه.

الاستقامة الاستقامة، أوصيكم بالاستقامة: ﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً﴾، أتريدون ألا يكون عليكم خوف وألا يكون عليكم كمد وألا يكون علكم حزن يمنعكم من أن تعيشوا بهناءة وسعادة ؟ إذن ما عليكم إلا أن تعيشوا باستقامة، فيا رب العزة، يا رب المستقيم الأول والأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفقنا من أجل أن نعود إلى خط الاستقامة، وفقنا من أجل أن تكون أقوالنا ذات قيمة، وفقنا من أجل أن تكون أفعالنا ذات قيمة، ومن أجل أن تكون نياتنا ذات قيمة عندك يا رب أنت الذي تقوّمها وأنت الذي تقيمها وتعطيها القيمة، يا رب بحق نبيك أعطنا مرادنا، نعم من يسأل أنت، ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 7/8/2009

التعليقات

شاركنا بتعليق