آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
رمضان شهر الحرية

رمضان شهر الحرية

تاريخ الإضافة: 2009/08/21 | عدد المشاهدات: 3079

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون المستقبلون رمضان غداً إن شاء الله:

اللهم سلِّمنا لرمضان وسلم رمضان لنا وتسلمه منا مقبولاً، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار واجعلنا من عتقاء شهر رمضان وأدخلنا الجنة من باب الريان بسلام.

أيها الإخوة: لعل الواحد منا في لحظة ضعف يظن بالصيام ظنَّ الجاهلية ويظن بالصيام ظناً غير صحيح، ربما لأنه في هذه اللحظة التي سميناها لحظة ضعف يعد الصيام فعلة تقلل أو تُضعف من أن يتصف الإنسان بالحرية، كأنه يرى في الصيام ضغطاً على الحرية ويقول بلسان عدم العرفان بلسان الجهل أحياناً لكنه في لحظة ضعف يقول: لمَ لم يكن الصيام كأصل الدين، أصل الدين كما قال الله عز وجل: ﴿فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾ فلماذا لم يكن الصيام فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر ؟ إنني أرى - هكذا يتابع - في التكاليف قسراً، وأرى في التكاليف ما يناقض الحرية الإنسانية.

أيها الأخ الإنسان، أيها الأخ المسلم:

بعد دراسة سواءٌ أكانت هذه الدراسة منك أم مني، بعد دراسة لتلك العبادات ولتلك الفرائض سيجد الإنسان أنه إذ يقوم بهذه العبادات وحين يقوم بتلك الفرائض سيجد نفسه حراً.

أنا أرى ومن وجهة نظري أن الصيام تعبيرٌ عن الحرية، ولذلك كتبت فيما مضى مقالة بعنوان: "أنا أصوم إذن أنا حر". أنا أرى في الصيام تعبيراً عن حرية منشودة وأرى في الصيام وفي الصلاة وفي الحج وفي الشهادة تعبيراً عن حرية أرى في هذه العبادات مقوياً للحرية التي تطلبها وتريدها، أرى في الصيام بشكلٍ خاص سعياً نحو الاتصاف بحرية إنسانية لا أعظم ولا أروع، والدليل على ذلك ولا أريد الآن أن أسرد كل الأدلة ولكنني سأقتصر على ما يمكن أن يتسع له هذا الذي نحن فيه.

الحرية في إحدى دلالاتها: ضبطٌ ذاتي. أنت مضبوط ذاتياً أنت حر، لم أقل أنا هذا الكلام وإنما الذي قال هذا الكلام علماء الاجتماع وعلماء الحرية، لأن الحرية غدت بحد ذاتها علماً، الحرية في إحدى دلالاتها: ضبطٌ ذاتي، وأنا أرى في الصيام ضبطاً ذاتياً لا أعظم ولا أروع ولا أجمل ولا أقوى، انظر إلى الصائم لن ترى الصيام واضحاً عليه لأن الصيام أمرٌ ذاتي، أنت الآن ممتنعٌ عن الطعام والشراب ألا يعني هذا أنك صائم، فالصيام ضبطٌ ذاتي، لذلك ورد في الحديث القدسي الصحيح: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فلا أحدٌ يعلم بأنك صائم إلا أنت بعد ربك الذي خلقك ومطلعٌ عليك ويراك ويعلم ما توسوس به نفسك وهو أقرب إليك من حبل الوريد، إذا كانت الحرية في إحدى دلالاتها القوية ضبطاً ذاتياً فإن الصوم ضبطٌ ذاتي، ولذلك يقول سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً عن رب العزة جلت قدرته كما جاء في الصحيحين: (فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل إني امرؤٌ صائم) وليضبط نفسه فإذا ما سمع من إنسانٍ سباً أو شتماً أو مقاتلة فضبط نفسه وقال: لن أنزع إلى هذا الذي نزعتَ إليه ولن ألجأ إلى هذا الذي لجأت إليه وسأضبط نفسي وذاتي فليقل: إني امرؤٌ صائم. أي إني امرؤٌ حر مضبوط بتلقائيتي مضبوطٌ لأنني أريد أن أتطبَّع، بل أريد أن أرجع وأن أعود وأن أستقرَّ مع الفطرة التي تناديني من داخلي هذا النداء فحواه أنت تضبط نفسك وأنت قادرٌ على أن تضبط نفسك فأنت حر، لذلك الصوم حرية وليس الصوم كما يمكن أن يُظنّ أمراً يتنافى مع الحرية، هذا من ناحية. الحرية وأريد أن يستقر هذا في ذهنكم، الحرية ضبطٌ ذاتي والصوم هو عين هذا الضبط.     

من ناحية ثانية: الحرية قدرة على الاختيار بين أمرين، لكن ما معيار الاختيار ؟ الحرية قدرةٌ على أن تختار هذا أو تختار ذاك، هذه هي الحرية، قدرة على الاختيار، فإذا ما كنت غير مختار وغير قادر على أن تختار هذا أو ذاك فلستَ حراً، فالحرية اقتدارٌ وقدرةٌ على أن تختار بين أمرين، السؤال: ما المعيار الذي على أساسه سأختار هذا أو ذاك ؟ هل هو الهوى، هل هو النزوة ؟ هل هو الرغبة ؟ المعيار الحقيقي في اختياري هذا أو ذاك: صالحي، ما ينفعني. إذا اخترت هذا وكان هذا ينفعني فأنا حر ومارست الحرية لأن الحرية اختيار بين ممكنات وفق معيار صالح الإنسان ذاته، إذا اخترت ما لا ينفعك فلست بحُر لأنك أصبحت أسير هوى وأسير رغبة ضرت بك وكانت عليك وبالاً وبالتالي لم تكن حراً.

عدت لأهوائك عبداً       وكم تستعبد الأهواء أربابها

الصوم من حيث هذه الدلالة حرية لأنك أمام أمرين: هل تختار الصوم المفروض من الله، والله يريد لك الخير، وقد علمنا وعرفنا ربنا بأنه ما يريد بعباده إلا الخير ولا يرضى لهم الشر ولا يرضى لهم ما يسوؤهم ويؤذيهم، أنت بين أمرين بين صيامٍ مفروضٍ من الله لصالحك وأنت تعلم هذا ولولا أن الله خلقك وهذا أكبر دليل على أنه يريد صلاحك ولو لم يرد صلاحك ما خلقك ولا أوجدك ولو لم يرد رحمتك ما أوجدك وذكرك بلطفه ورحمته فخلقك، أنت بين صيامٍ مفروضٍ من الله وفطرٍ تؤُزُّك عليه الشهوة والنزوة والهوى، وبين فطرٍ مرفوض من قبل فطرتك أنت، لأن الفطرة لا تحب التجافي عن منهج الله الحكيم الرحيم الذي خلقك فسواك فعدلك ﴿يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك﴾، ﴿ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة﴾ أنت في نعم الله تتقلب شئت أم أبيت أنت في نعم الله تتحول أيها الإنسان.

أعود فأقول وأردد وأؤكد بين صيامٍ مفروضٍ من الله الرحيم الكريم وبين فطرٍ مرفوضٍ من فطرتك ومن التجربة والعقل والتفكير والمنطق، فعندما تختار ما ينفعك في جسمك في روحك في بدنك في مجتمعك فأنت حر لأنك اخترت بين الممكنات ممكناً وفق معيار صالحك ولم تختر وفق معيار ما يضرك وما يؤذيك وما يسوؤك وما يعود عليك بالشر والضر والفساد وعدم الصلاح، لذلك الصوم حرية شئنا أم أبينا وهذا هو سيد الأحرار ومن منا لا يعتقد بان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد الأحرار ها هو سيد الأحرار ننظر إليه لنراه صائماً في رمضان بل إنه حضنا ويحضنا على الصوم، بل إن حضه إيانا على الصوم متوجٌ بالثواب والأجر، أفلا يكفيك أن تسمع من سيد الأحرار من سيد البشر من الذي ثبتت عند الجميع عظمته وصلاحيته للقيادة العامة للبشرية من خلال سنته العظيمة وسيرته المجيدة صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) والحديث صحيح يرويه الشيخان. وثمة أحاديث كثيرة أريدكم أن تقرؤوها بأنفسكم ولو أن يقرأ كل واحدٍ منكم في اليوم حديثاً واحداً مرة ومرتين وثلاث مرات فسيرى أن تلك الأحاديث الشريفة تدعوك أنت أيها الإنسان من أجل أن تثبت اختيارك للصوم وتثبت أن اختيارك هذا للصوم دليل حريتك لأنك اخترت ممكناً وفق معيار صالحك وفائدتك وما يعود عليك بالنفع والخير في اللحظة الراهنة وفي اللحظات الآتية المستقبلية.

أرأيتم إلى الصوم كيف يمكن أن يكون تعبيراً عن الحرية وقس على ذلك الصلاة والحج والزكاة والشهادة، قس على ذلك كل ما طلبه منك ربك على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وبعبارة مجملة لهذا الذي قلنا: حينما تقول أنا عبدٌ لله يعني أنا حر ولا يمكن أن يكون العبد الصادق في عبوديته لله إلا حراً، وبقدر ما تزداد عبوديتك وتتعمق عبوديتك لربك تعبِّر عن نفسك وعن حريتك. أنا عبدٌ لله أنا إنسانٌ حر اخترت العبودية لأن العبودية لله تنسجم مع روحي وعقلي وقلبي وكل ما يكونني وكل ما يؤلفني وكل ما يجمعني وكل ما يجعل مني إنساناً، لذلك يستحق هذا الرجل العظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يُسمَّى الإنسان الأكمل لأن الحرية توفرت فيه بأكثر ما يمكن أن تتوفر في إنسان وبأعظم ما يمكن أن تتوفر في إنسان فهو سيد الناس وهو سيد الأحرار وهو الحر بين البشرية جمعاء لأن العبودية فيه لربنا جلت قدرته فاقت العبودية التي كانت في كل البشر على الإطلاق، وهذا اعتقادنا فرسول الله ساد الأنبياء لأنه أكثرهم عبودية لله ولأن عبوديته أعمق من عبوديتهم جميعاً وصدق الله إذ قال: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً﴾ بعبده بنبيه بهذا الحر بهذا الرجل الذي اتسم بالحرية الإنسانية من خلال اتصافه الكامل التام بالعبودية لربه جلت قدرته ؟

أيها الإخوة: صوموا من أجل أن تكونوا أحراراً، أيها المسؤولون عن شعبنا هيا في رمضان من أجل أن تكرسوا الحرية عند أبناء بلدنا، نحن نريد منكم إشرافاً على تطبيق الحرية، أولستم تنادون بالحرية، أوليست الحرية مطلباً من مطالبكم ؟ إذن فلتسعوا من أجل أن ينفذ وان يطبِّق أبناء بلدنا وأبناء مدننا الصيام، لأنهم بذلك يتلقون دورة تدريبية لا أعظم ولا أجمل في ميدان الحرية وفي ميدان التحلي بالحرية، نحن نطالب قبل دخول شهر رمضان نطالب المسؤولين أن يمنعوا المظاهر المعبرة عن غير الحرية، نريد منهم أن يأخذوا هذا الأمر فمن جاهر بالإفطار في مكانٍ عام، ونطلب من المسؤولين عن دولتنا وعن قانوننا أن يكونوا رقباء أمينين لأنهم بذلك يعلمون الناس الحرية ولأن الحرية مطلوبة ومطلوبٌ الاتصاف بها في حياتنا كلها، أناشدكم أيها المسؤولون  من أجل أن تكونوا حريصين على حرية أبنائنا على حرية شعبنا على حرية المسلمين هنا حتى يكونوا على مستوى المواطن الصالح فالمواطن غير الحر لا يمكن أن يكون صالحاً ونحن ننشد مواطناً صالحاً يتصف أول ما يتصف بالحرية، فاللهم وفقنا جميعاً مسؤولين وغير مسؤولين من أجل أن نعيش رمضان، أن نعيش الصيام أن نعيش هذا الشهر المبارك عيشاً حميداً نصوم وفق ما يرضيك ربنا ونفطر وفق ما يرضيك ياربنا ونؤدي الصلوات وفق المنهج الذي شرعته لنا يا رب العباد.

فيا إخوتي مناشدةٌ ثانية: ناشدت الدولة وأناشدكم من أجل أن تخففوا من غلواء الإقبال على الطعام في رمضان، إني أصبحت أرى وأنتم ترون، أصبحنا نرى رمضان شهر الإقبال والمغالاة في الإقبال على الطعام ولذلك تمتلئ الأسواق وكأن هؤلاء الناس أصبحوا بدلاً من أن يكونوا أسارى ربهم أصبحوا أسارى الطعام وأسارى الشراب فهم لا يستطيعون أن يفطروا إلا على طعامٍ فيه أنواع ولا يستطيعون أن يفطروا إلا على أشربة متعددة الألوان والأطعمة. لا، يا إخوتي، أن تعطوا الصيام حقه وأن تعطوا القيام حقه وأن تكونوا في رمضان صائمين صياماً وصائمين صوماً، صائمين صياماً تمتنعون عن الطعام والشراب في نهار اليوم من الفجر وإلى المغرب وصائمين صوماً، تمتنعون عن المفطرات المعنوية من كذبٍ وغيبة ونميمة وفسقٍ وشهادة زور وفُحش إلى آخر ما يمكن أن يكون مفطراً معنوياً، أناشدكم الله، هيا إلى صلواتكم في رمضان، إلى القرآن الكريم الذي أنزله الله رمضان، هيا إلى تدبره هيا إلى فهمه، هيا إلى تلاوته، هيا إلى خلوة بينكم وبين أنفسكم، وأكرر وللمرة العشرين وللمرة المئة لا تجعلوا من رمضان كرنفالاً اجتماعياً شعبياً واجعلوا من رمضان مدرسة تربوية تتلقون في هذه المدرسة الحرية من خلال الضبط الذاتي، تتلقون في هذه المدرسة الصحة البدنية من خلال القيام بالصوم والصيام حق القيام، تتلقون في هذه المدرسة التربية الاجتماعية من خلال التعود على الصدق والأمانة وحفظ اللسان: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن المحارم ودع أذى الجار وليكن عليك سكينة ووقار).

كما بدأت الحديث أعيده: اللهم سلمنا لرمضان وسلم رمضان لنا وتسلمه منا مقبولاً، اجعلنا من عتقائك من النار واجعلنا من عتقاء شهر رمضان وأدخلنا الجنة من باب الريان بسلام نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 21/8/2009

التعليقات

علاء

تاريخ :2009/08/24

اشكركم سيدي على هذا المعنى العظيم والربط الرائع بين الحرية والصيام وسائر العبادات جزاكم الله خير الجزاء عنا وعن الأمة الأسلامية جميعها

شاركنا بتعليق