آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
صلاح الدين والدنيا والآخرة

صلاح الدين والدنيا والآخرة

تاريخ الإضافة: 2009/11/06 | عدد المشاهدات: 5719

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

سمعت دعاءً وارداً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الدعاء معروفٌ مشهور وقد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، يقول فيه سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي) لا شك في أنكم سمعتم هذا الدعاء، ولربما يكرره بعضكم مراتٍ ومرات، سألت أخاً لي أو صديقاً، قلت له: ما الذي تفهمه أنت من هذا الحديث الذي هو دعاء (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي)  ؟  قال وما الذي تريد أن أبينه ؟ قلت له: أريد أن تبين لي أمرين: هل أكتفي بالدعاء ما دام الله هو الذي سيُصلح ؟ عندما أقول: اللهم أصلح لي ديني ودنياي وآخرتي، فما دوري في ذلك ؟ هذا أولاً، ثانياً: كيف يكون ديني صالحاً لي، وكيف تكون دنياي صالحة وكيف تكون آخرتي صالحة ؟ قال لي: حدثني أنت. قلت له: الذي خطر ببالي والذي لطالما فكرت فيه هو ما يلي:

ما أظن أن عاقلاً يكتفي بالدعاء من أجل أن يصلح دينه ودنياه وآخرته، إذن ما معنى: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي) ما معنى الدعاء اللهم أصلح ؟

المعنى: أي اللهم وفقني من أجل أن أُصلح أنا، لأنني أنا المكلَّف وأنت مَن كلَّف، اللهم وفق أبناء أمتي من أجل أن يُصلح كلٌ منهم دينه ودنياه وأخراه، هذا هو المعنى الأول للدعاء، وليس المعنى كما يتوهمه بعضنا نحن نوكل ربنا في أن يُصلح ثم بعد ذلك نقعد، لا يا إخوتي، نسأل الله أن يوفقنا كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي﴾ أي وفقني من أجل أن أقيم الصلاة، وفقني توفيقاً مباشراً وغير مباشر من أجل أن أقيم الصلاة، اللهم وفقني من أجل أن أقوم بتكليفٍ كلفتني به وهو أن أُصلح ديني ودنياي وأخراي، هذا معنى أول.

المعنى الثاني: اللهم بيِّن لي الصلاح كيف يكون، وبيِّن لي الوسيلة التي بها أُصلح،  اللهم بيِّن لي الصلاح كما يجب أن يكون عليه الدين والدنيا والأخرى، وبيِّن لي الوسيلة التي بها أُصلح، هذا عن الدعاء، هل يعني توكيلاً أم يعني أمراً آخر ؟ يعني أمراً آخر ولا يعني توكيلاً وأن يقعد الموكِّل الذي هو أنت والداعي.

عندما نأتي إلى الفقرة الثانية: ما صلاح الدين والدنيا والأخرى ؟ وما الوسيلة التي بينها ربنا عز وجل ؟ أتدرون ما صلاح الدين ؟

صلاح الدِّين يكون بالتطبيق بعد التوثيق، أن تطبق دينك فهذا يعني أن دينك صالح، وأن تطبق دينك بعد أن تتوثق من أن هذا الذي تطبقه من دينك وليس من عاداتك وليس من تقاليدك، فالمشكلة هو أننا نطبِّق أحياناً ديناً ليس بديننا ننسبه إلى ديننا زوراً وبهتاناً وما هو من ديننا، ولذلك صلاح الدين بالتطبيق بعد التوثيق: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو ردٌ) وليس من الدين. بالتطبيق بعد أن تتوثق بأنه من دينك، المشكلة اليوم أن ديننا الذي يُطبقه من يطبقه منا يطبقه على غير أساسٍ من توثيق فلا يتأكد من أن هذا الذي يفعل على أنه من الدين لا يتأكد من أنه من الدين فعلاً، فلا يسأل أهل الذكر وإنما يسأل أهل الجهل ربما، ولا يسأل أهل الذكر وإنما يسأل نفسه وعاداته وتقاليده، ولا يسأل أهل الذكر وإنما يسأل أولئك الذين يعبدون الله ولكن من غير علم، فليس العبد عالماً، وليس ذاك الذي يكثر الصلاة والصيام مع كل التقدير لصلاته وصيامه يمكن أن يكون مسؤولاً أو من أهل الذكر، صلاح دينك بالتطبيق بعد التوثيق، ضع هاتين الكلمتين في ذهنك وأخصُّ الشاب المسلم ذكراً كان أو أنثى بهذا لأننا لا نريد ديناً يقوم على العادات والتقاليد وإنما نريد ديناً يقوم على النسبة الحقة لهذا الذي جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام من عند ربنا جلت قدرته. صلاح الدين بالتطبيق بعد التوثيق.

وصلاح الدنيا: ما رأيك بدنيا صالحة ؟ وما الصفات التي إذا توفرت في الدنيا كانت الدنيا صالحة ؟ بكل بساطة: صلاح الدنيا بأمرين بالأمن والأمان، ومن لم تكن دنياه تتصف بالأمن والأمان فليست هذه الدنيا بصالحة، ولذلك دنيانا اليوم ليست صالحة، وديننا اليوم ليس صالحاً، لأن ديننا لا يقوم على التطبيق بعد التوثيق، ولأن دنيانا - ولا سيما هنا في بلاد المسلمين - ليس فيها أمنٌ ولا أمان، والأمن: يعني الأمن على الأرض، الأمن من الجوع الأمن من الفقر، الأمن من المرض، الأمن مما يؤذيك، الأمن يعني أن تكون آمناً على الأرض، وأما الأمان فأن أكون في مأمنٍ منك، من إيذائك، من عدوانك. الأمان أن تأمن اعتداء المعتدين، فصلاح الدنيا بالأمن والأمان بالأمن الغذائي والأمن الاقتصادي والأمن الصحي وبالأمان من الآخر، وانظروا دنياكم اليوم هل تتمتع وتتصف بالأمن والأمان ؟ ما أظن، فأنت تخاف من هذا الذي يقف بجانبك في المسجد هنا، تخاف من لسانه وكلنا لا يأمن جاره، وكلنا لا يأمن مديره ولا عامله، ولا يأمن موظفه، ولا يأمن ولده، ولا يأمن أباه، ولا يأمن المسؤول عنه، ولا يأمن من تحته، وإن حدثتموني بشيء غير هذا فإنا وإياكم لعلى صدقٍ أو لعلى كذب، وأعتقد أننا نتوافق على هذا، فدنيانا ليس فيها أمنٌ وليس فيها أمان شئتم أم أبيتم فهذا هو الواقع.

وأما صلاح الآخرة: فأمرٌ بسيطٌ جداً، صلاح الآخرة أن تكون ناجياً من النار وان تفوز بالجنة:

أن تدخلني ربي الجنة                 هذا أقصى ما أتمنى

أن تكون ناجياً من النار وأن تدخل الجنة، هذا هو صلاح الآخرة: ﴿ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار﴾ الأبرار سيدخلون الجنة ولن يكونوا في النار، ألحقنا مع الصالحين: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً﴾، صلاح الآخرة بالنجاة من النار وبالفوز بالجنة. تذكروا وانتم تدعون هذا الدعاء: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي) أن صلاح الدين بالتطبيق بعد التوثيق، يا ناس نحن مؤتمنون: ﴿اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. يصلح لكم أعمالكم﴾، لكن قولنا اليوم غير سديد، وصلاح الدنيا بالأمن والأمان، وصلاح الآخرة بالفوز بالجنة والنجاة من النار.

كيف يتم هذا الإصلاح ؟ ما الوسائل لهذا الإصلاح ؟

الوسائل لهذا الإصلاح، أمورٌ أربعة:

الوسيلة الأولى: المعرفة، نحن نفتخر ونتفاخر أمام الناس بأننا أمة اقرأ، لكننا اليوم هل يمكن أن ننتسب لأمة اقرأ ؟ من منا يقرأ حتى نقول بأننا أمة اقرأ ؟ من منا يقرأ حتى ندعي نسبتنا إلى أمة اقرأ ؟ هل تقرأ ؟ ما عدد الصفحات التي تقرؤوها في السنة، في الشهر، في الأسبوع، في اليوم ؟ كم تقضي من الوقت وأنت تقرأ ؟ حدثني بربك. المعرفة سبيل أول ووسيلة أولى من أجل الوصول إلى إصلاح الدين والدنيا والآخرة: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾، ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ أين تعلمنا وأين ارتيادنا أماكن المعرفة والتعرف والتعلم.

الوسيلة الثانية: الخلق، وقد حدثتكم مليّاً في أسابيع مضت عن الخلق الذي يجب أن يكتنف المعرفة، تتعرف وتعرِّف بخُلُق وأهم هذه الأخلاق الرحمة والرفق: ﴿فبما رحمة من الله لِنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك﴾ وسيلة إصلاح الدين والدنيا والآخرة المعرفة والخلق من رحمة ورفقٍ وقولٍ حسن: ﴿ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله﴾.

الوسيلة الثالثة: العمل الصالح، أن تعمل صالحاً لا أن تقتصر على المعرفة والخلق، عليك أن تعمل بما علمت، (من عمل بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم)، هل تعمل بما علمت أم أنك تختزن المعرفة فقط اختزاناً من غير أن تري هذه المعرفة ضوء الشمس الذي يشعّ على العمل والحركة والسلوك، أنت تعرف – على سبيل المثال – بأن الظلم حرام تعرفت على هذا، فمالي أراك تظلِم ؟ تعرفت على أن الإسراف لا يليق بإنسان فمالي أراك تُسرف ؟ تعرفت على أن احترام قواعد المرور لا يليق بالإنسان فمالي أراك تخالف القواعد ؟ مالي أراك تخالف ما تعلمت ألا تخالف ؟ هنالك فجوة معاكسة بين ما تعرف حينما تعرف وبين عملك وسلوكك، فالوسيلة عملٌ مطابقٌ للمعرفة التي تعرفتها وعرفتها.

الوسيلة الرابعة: التحقق بالنسبة النسبية الربانية، هنالك نسبية مادية، هذا أخوك لأنه يحمل نفس الذي تحمل، أنت من كنية ولقب، وكما قال محي الدين بن عربي: "أخوك في الطين"، أي في المادة، هناك أخٌ لك في الدين، فهل تعامل أخاك في الدين كما تعامل أخاك في الطين ؟ أنت لا تعامل أخاك الذي في الدين كما تعامل أخاك الذي في الطين، أنت لا تعامل أخاك الذي عقد أخوته بينكما ربك حينما قال: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ فأين تحققك بالأخوة التي عقدها ربك ؟ أنت تردد هذا شعاراً لكنك لا تطبِّق هذا على الإطلاق، عندما تكلم الآخرين في الشرق أو الغرب تقول: إنما المؤمنون إخوة ونحن إخوة. لكن هذا لا أثر له في عالم الفعل والعمل والواقع، وهل يمكن أن تقولوا أنتم أيها الإخوة غير هذا الذي قلت ؟ أين التحقق بالأخوة التي عقدها ربنا فيما بيننا ؟ أين التحقق ؟ أين من يفزع لفلان لأنه أخوه ؟ أين من يتحمل ويعامل أخاه في الدين كما يعامل أخاه في النسب المادي يتحمله ؟ قلت البارحة لطلاب لنا في كلية التربية: عندما يخطئ ولدك الذي من نسبك المادي، يخطئ ويفجر ويرتكب أشد الآثام وأفظعها تبقى تقول له: أسأل الله أن يصلحك، وتقول لأمه ادعي له في أن يصلحه الله. وهذا شيء جميل لكن أخاك أو ولدك الذي عقد أخوته أو نسبته ربنا إن فعل عشر ما فعله هذا ولدك فإنك تتبرأ منه أمام الناس بل إنك لتغتابه، ولدك وأخوك المادي لا تغتابه أمام الآخرين، تدافع عنه، أما أخوك الذي عقد أخوته ربك فأنت تغتابه لمجرد أنه خالفك لا لمجرد أنه ارتكب ذنباً أو إثماً، كان يتبع شيخاً غير الشيخ الذي تتبعه أنت فأنت تغتابه وتتبرأ منه وتتكلم عليه وتدعو عليه وتطالب الأمة في أن تدعو عليه، نعم هذا هو الواقع، ونحن لم نعد نتحمل تبعات تلك الأخوة التي عقدها ربنا بيننا وكأننا نقول بلسان حالنا: يا ربنا هذه الأخوة التي عقدتها أعرضنا عنها ولا نريدها رابطة بيننا. لعل قائلاً يقول لي وما الدليل على ذلك ؟ أقول: هذا الواقع، أين أخوتك مع هذا الذي بجانبك ؟ أين أخوتك مع هذا  المسلم الذي يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان لكنه يختلف عنك في أنه يقول بالأمر الفلاني وأنت لا تقول به، فإنك ستقيم الدنيا عليه من غير أن تقعدها لأنه خالفك وستتهمه بالمروق والردة والخروج عن الملة لأنك  تريد بذلك أن ترضي الشيطان لا أن ترضي الرحمن الذي قال لك: ﴿إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم﴾ وأنت تفسد بين أخويك.

هذا هو الصلاح وهذه هي الوسائل، وهذا هو الدعاء، ادع بعد اليوم بهذا الدعاء لكن شريطة أن تتذكروا ماذا يعني صلاح الدين والدنيا والآخرة، وما الوسائل التي يجب أن نتخذها حتى تصلح دنيانا ويصلح ديننا وتصلح أخرانا، تذكروا هذا المنظومة التي ألقيتها عليكم وثقوا بعد ذلك أننا أمة إن لم نكن على علمٍ بما نعمل وإن لم نعمل بما نعلم فسنبقى تلك الأمة المجترَّة التي تجترُّ، والتي تدَّعي، والتي تبقى في حيّز الشعارات والادِّعاءات، وهذا ما يدل عليه واقعنا اليوم، وكما قلت وأكرر: عندما يُتحدث معكم عن النظافة يقول الواحد منكم بكل كبرياء مهزوز نحن أمة النظافة، وتأتي لهذا الذي يحدثك بآيات وأحاديث لكنك لا تنظر إلى الوراء فوراءك قمامة في شكل أكوام تكاد تصل إلى شكل جبال، عندما يحدثك إنسان عن علاقة الإنسان بالإنسان تقول له: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ وأنت تحدثه بهذا ربما كنت تدبِّر مكيدة لأخٍ لك لأنه خالفك في فكرة ما أو في مذهبٍ ما أو في طريقةٍ ما، دعونا من ادّعاءات وشعارات فتلك الادعاءات والشعارات على كل المستويات جعلتنا أمة يُضحك عليها ويُضحك منها.

قبل أن نتكلم عن فلسطين ينبغي أن نتحدث عمن هم سيكونون من أهل فلسطين، فها هم أهل فلسطين يختلفون فيما بينهم، هذا يكفّر هذا، وهذا يتهم هذا، وهذا يخوّن هذا، فلسطين إذا أردتم أن تكون محررة لن تستقبلكم متفرقين، كونوا من شئتم لكنها لن تستقبلكم متفرقين، فلسطين ستستقبلكم مجتمعين: ﴿إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيانٌ مرصوص﴾ فلا تعددوا الحركات من أجل أن تتفرقوا واجعلوا الحركات حركة واحدة، وما الضير في أن تكون تلك الحركات حركة واحدة ؟ وما المانع ؟ المانع نفوسٌ أمارة بالسوء ملأت صدورنا وملأتنا وملأت إهابنا وملأت فكرنا، لا يا إخوة، ما هكذا يا سعد تورد الإبل.

أسأل الله عز وجل بنفس الدعاء الذي حدثتكم عنه، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا أخرانا التي إليها معادنا يا رب العالمين، نِعمَ من يًسأل أنت، ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 6/11/2009

التعليقات

خليل شاوي

تاريخ :2010/01/10

هذه فقاهة عالية وفهم دقيق لدعاء رسول الله ص وما أكثر الأدعية التي نرددها دون فهم بل وحتى دون احساس و هذه الخطبة نموذج رائع في فهم دعاء رسول الله ص وبعد الفهم سيولد الاحساس والاخلاص والقبول ان شاء الله فشكرا لمفكرنا الشيخ وشيخ المفكرين

شاركنا بتعليق