أحاول دائماً أن تكون اللطيفة القرآنية من وحي ما أقرأ من القرآن الكريم صباح يوم الجمعة، وقد كنت أقرأ صباح اليوم في الجزء الثلاثين، أعني جزء عمَّ، ووصلت إلى قوله تعالى في سورة البينة: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين الدين﴾ البينة: 5.
فقلت لنفسي: نتحدث كثيراً عن الإخلاص، فما هو الإخلاص ؟ ما تعريفه ؟
والتعريف يجب أن يكون مفهوماً قابلاً للاستقبال العقلي، حتى يقبع في ذهن الإنسان، ويكون قابلاً لأن يتمثّله الإنسان ويطبقه.
بحثت في معنى الإخلاص، وما قيل في تعريفه من قبل، وتناولت لذلك عدة كتب، فاستخرجت منها تعريفات متعددة يصب معظمها في خدمة توضيح معنى الإخلاص، ويساعد على الوصول إلى تعريف محدد له.
وجدت تعريفاً لأحد تابعي التابعين، يسمى السوسي، يقول فيه:
الإخلاص فَقْدُ رؤية الإخلاص، فإنه من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص.
الإخلاص إذن: أن أخلص دون أن أعوّل على إخلاصي، ودون أن أنظر إلى إخلاصي، ودون أن أعتمد عليه.
وجدت الشاعر العارف الرواس ينقل حديثاً، هو ضعيف جداً في عرف المحدثين، لكني أنقله على أنه شرح لكلمة السوسي التي قرأناها، يقول هذا الحديث: (من أخلص لله تعالى أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)... يتابع الرواس فيقول: ومن أخلص لتتفجر لم تتفجر.
فأخلص عملك لله... لا للإخلاص.
ويقول أبو حامد الغزالي: الإخلاص تصفيةُ العمل عن العُجب بالعمل.
أنت معجب بعملك ؟ إذن: إن في إخلاصك شكاً.
ويقول سهل التستري: الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركته لله تعالى خاصة.
ويقول أحد التابعين: الإخلاص نسيان رؤية الخَلق بدوام النظر إلى الخالق.
وقيل: هو ما استُتر عن الخلائق وصفَا عن العلائق.
وينسب إلى نبي الله عيسى عليه السلام: المخلص من يعمل لله تعالى، لا يحب أن يمدحه أحد على عمله.
المخلص لا ينتظر من أحد حمداً وثناءً: ﴿إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً﴾ الإنسان: 9.
ويقول الجنيد: الإخلاص تصفية العمل عن الكُدورات.
ويقول الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس إشراك، والإخلاص أن يعافيك الله تعالى منهما.
وقيل: هو دوام المراقبة ونسيان الحظوظ.
ويقول يعقوب المكفوف: المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ! يكتم حسناته كما يكتم سيئاته لأن مراده في النهاية الله.
ويقول معروف الكرخي: يا نفسُ أخلصي تتخلّصي.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري فقال: من خلصت نيته كفاه الله ما بينه وبين الناس.
لماذا نتكلم عن الإخلاص ؟ لأنه لا قيمة للعمل بدونه: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه).
لقد قلت مرةً في خطبة قديمة هنا: الوعي شجرة جذرها الإيمان، وساقها المعرفة، وأغصانها وأوراقها العمل، وثمارها الإخلاص.
وقد وجدت مرة قولاً منسوباً إلى الجنيد يشبه هذا القول.
لا ثمرة للعمل بدون إخلاص، ونحن بحاجة إلى مخلصين على مستوى العمل، نحن بحاجة إلى مخلصين على مستوى القيادة، نحن بحاجة إلى مخلصين على مستوى الجيش، نحن بحاجة إلى مخلصين على مستوى المسجد.... نحن بحاجة إلى مخلصين على كل مستوى وصعيد.
وهذه التعريفات التي ذكرناها للإخلاص تُوقع في دواخلنا شيئاً مما قد نريد معرفته عن الإخلاص.
وشهر رمضان قريب، وهو بوابة كبيرة للإخلاص، لأن الصوم عمل مخفي، وكل العبادات الأخرى ظاهرة، الصوم مخفي لأنه امتناع، والامتناع لا يُرى... أنت بالنسبة إليَّ صائم، ولكني لا أستطيع مراقبة صيامك لأني لا أستطيع مراقبة امتناعك... يمكنني مراقبة فعلك ولكني لا أستطيع مراقبة امتناعك.
الدرس الأول من دروس رمضان هو الإخلاص... ﴿كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾ والتقوى إخلاص.
التعليقات