نشرت صحيفة تشرين الصادرة في دمشق
بتاريخ : السبت 24 كانون الثاني 2004 ضمن زاوية مدارات مقالاً بعنوان : سبل
النهوض الإنساني .
سبل النهوض الإنساني
أودُّ بداية أن أعرب عما كان يجول في نفسي من إعجاب لبعض المحاولات الجادة في
البحث عن طريق الخلاص وسبل النهوض ، سواءً أكان عنوانها صريحاً في هذا أم لا ،
أخص بالذكر محاولة شكيب أرسلان في " لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم " ،
ومحاولة الكواكبي في " طبائع الاستبداد " ، وجهد الافغاني ، ومحمد عبده ، ورضا
، والندوي ، والمودودي ، وقطب ، وفهمي جدعان ، ومالك بن نبي (1) .
وهاأنذا أساهم بتواضع ، فلعلنا كلنا نشكل نواة انطلاقة لعلمٍ جاد يعقبه عمل
صالح ، فأنفع المعارف ما حققت للإنسان في مساره تقدما ، وشرُّها ما لوته عن
الخير المناسب ، وقطعته عن السماء ( يحسب أن ماله أخلده . كلا لينبذن في الحطمة
) الهمزة/ 3 - 4.
1- تقصٍّ لتسميات نهضوية في القرون السالفة القريبة :
لقد كانت القرون الثلاثة الأخيرة ظرف إقرارٍ من كل من سكن الكوكب الأرضي أن
الإنسان يعيش حالة انحدار بعد فترة اعتلاء ، وتختلف المسافة الزمنية ضمن القرون
المذكورة باختلاف البلاد والقارات ، والمهم أن الإحساس بالحال المتردية كان
السمة المرتسمة على الوجه الإنساني بشكل عام .
وقد طفح هذا الإحساس ليأخذ شكل البحث عن حل ، وإعادة رفع الخط البياني من القعر
إلى مستوى يتجاوز علواً ما كان عليه سالفاً ، وتجلى هذا في الدعوات الإصلاحية
العامة العالمية في مختلف البقاع والأصقاع (2) ، ومن خلال تسمياتها وشعاراتها ،
فمن التنوير إلى الإحياء ، فالنهضة ، والتحرير ، والترقي ، والبناء ، والإنقاذ
، واليقظة ، والإخاء ، والبعث ، والرفاه ، والإصلاح ، وهي بمجموعها في النهاية
تصب في معنى واحد ، هو إعادة الخط البياني الراصد لمسيرة الإنسان إلى مستوى
أفضل أو مساوٍ لما كان عليه في زمن القمة ، المختلف تحديده بحسب الأمة والدولة
والإيديولوجية وتأتي أسطري هذه مساهمة متواضعة تسعى للتأكيد ، وإسقاط بعض الضوء
على المنطلق ، وتبيان أساسيات في التحديد والتجديد .
لذا فقد عممت واختزلت ، حتى لا يكون الأمر من أجل بقعة جغرافية محدودة ، أو
جماعة مقصودة ، وإنما والهم إنساني شامل من أجل إنسان " النواة " إنسان " الجذر
" إنسان " المحور " إنسان " القطب " إنسان " المركز " في التركيبة العامة .
فإلى الإنسان من أجل إزالة سبل الغموض وإليه من أجل استبانة سبل النهوض .
لست منحازاً ، ولا أريد أن أكون ممالئاً ، فلقد أقسمت بالحق أن أبغيه ، وبالحق
ألا أعدل عنه ، وبالحق أن أخدم الإنسان ، وأجمل ما في الحياة خدمة الإنسان وان
عدا ، والسعي من أجله وإن أعرض : ( وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن
تبتغي نفقاً في الأرض أو سُلَّماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم
على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ) الأنعام/ 35.
بمهمة وأهمية دعوة الإنسان بعد الاصطفاء الإلهي له ، وإيداع سر الخلافة فيه ،
وبمهمة هداية الإنسان حين يضل بعد أن كان محلاً لنفخ الروح الإحيائية التكريمية
التقديسية ، " فالأرض تبر هذا الإنسان "(3)، كما ورد عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم لأنه منها وأضيف عليه بما ليس منها : ( فإذا سوَّيته ونفخت فيه من
روحي فقعوا له ساجدين ) الحجر/ 29 .
2- دواعي الانحطاط والسقوط :
قلَّبت صفحات التاريخ البشري ورقة من هنا ، وأخرى من هناك ، فوصلت إلى وضع
معادلة إنسانية شاملة عامة ، في تحديد دواعي السقوط ، ورسم ملامح الرقي والنهوض
، إجمالاً.
قاطعت بين فترتين مختلفتين ، لأمتين متغايرتين ، تميزتا بالانحدار والهبوط ،
فأخذت مشترك صفاتهما المسببة آنذاك ، وكذلك فعلت بفترتين أخريين تميزتا بالرفعة
والنهوض وقوة الوجود ، وقد أخذ ذلك مني وقتاً غير قليل ، وأفنيت جهداً لا
يستهان به في التعرُّف على مجمل فترات سالف الأمم ، وكانت النتيجة في رصد
الدواعي للسقوط ، والسبل في النهوض مدعومة بمقولات علماء الاجتماع ، لأنهم
معنيون في هذا الميدان ، تحديداً لمناهج التغيير ، وتبياناً لمعايير الحركة
السالبة ، وتوضيحاً لمقاييس الحركة المقابلة الموجبة .
كما جهدت أن أرصدها في القران الكريم ، لأني أولاً وأخيراً لا أعدل عن الانتماء
إليه والارتباط به ، فهو منهل عرفاني ، وينبوع علمي وإيماني .
فأما النتيجة فهي بعبارتي التالية :
لقد سقط الإنسان وسقطت معه إنسانيته ، وهوى وهوت معه حضارته ، يوم ساد الظلم ،
وطغى الجهل ، وانتشرت الفحشاء ، وعشَّشت السفاهة .
وإنما ينهض الإنسان ، وتنهض معه مجتمعاته ، وتبرق بالنور جنباته ، يوم يستقرُّ
العدل ، وترتفع راية العلم ، وتعم الفضيلة ، وتتركز في سمع الإنسان وبصره
وبصيرته ركائز المسؤولية .
وحين نقعّد هذه العبارة ، وإذ نرتب مفاهيمها نقول : أشلاء الفوضى¬ وهي نهاية
السقوط والانحدار والانحطاط ظلم وجهل ورذيلة وسفاهة ، وهي مكامن الشر ومستودعه
.
وأما أركان النظام وهي غاية النهوض والصعود والدقة والارتقاء فهي عدلٌ وعلم
وفضيلة ومسؤولية ، ولا يتجاوز الخير مواضعها .
ولنسمع ، قبل القرآن مقولات مختصين في الاجتماع حول هذا ، فهم في ذلك راصدون ،
والقرآن من وراء فهومهم وعلومهم محيط .
يقول ابن خلدون : " الظلم آفة المجتمع " .
ويقول أفلاطون : " بالعلم يكون الإنسان ، وبالجهل لا يكون " .
ويقول فولتير : " لو لم يكن الله لوجب اختراعه ، وإلا فكيف تحيا الفضيلة ،
وتموت الرذيلة ؟! " .
ويقول أرسطو : "الفضيلة استعداد تقويه الممارسة ، والرذيلة اعتداء تموت معها
الأخلاق " .
ويقول ولسن : " وتبقى المسؤولية في الانتماء واللانتماء أساس الإنسان " .
ويقول فروم : " على الإنسان أن يفتش في داخله عن حس المسؤولية ، لان ذلك يعني
وجوده " .
وأما القرآن الكريم ، فأعظم به سفراً جامعاً لمقومات الرقي والعلو والسمو
وداعياً إليها ، وكذلك مصدراً موثقاً ، يحوي موهنات الإنسان ، ومحذره منها ،
فقد جاءت الآيات فيه رائعة قيمة ، حذرت من الظلم والجهل والرذيلة والسفاهة ،
ودعت إلى اجتنابها : قال الله تعالى : ( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من
السماء ) البقرة/ 59 .
وأما ما جاء عن الجهل ، والتحذير منه ، والتنفير من عواقبه ، فقد قال الله
تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) الأعراف/ 199.
وسواها من الآيات وفير، وعن الفحشاء جاءت آيات كثيرة تحذر من فعلتها وقولتها ،
منها ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) الأنعام/151.
وقال عن السفاهة : ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) البقرة/130 .
3- سبل النهوض :
وأما ما يتعلق بمقومات النهوض وسبله ، فقد قال تعالى عن " العدل " ، الأس الأول
للنهوض ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان )النحل/ 90 .
وعن " العلم " الذي هو السبيل الثاني للنهوض قال الله تعالى : ( يرفع الله
الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) المجادلة/11.
وأما " الفضيلة والعفاف " فقد قال القرآن الكريم فيهما : ( يحسبهم الجاهل
أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً ) البقرة /173.
وأما " المسؤولية " وضرورة استثمارها ، فقد قال الله تعالى : ( فو ربك لنسألنهم
أجمعين . عما كانوا يعملون ) الحجر/ 92 - 93.
وهنالك شواهد أخرى وفيرة كثيرة على مستوى الكتاب الأصل : وهو القرآن الكريم ،
ومستوى التبيان والشرح : اعني السنة الشريفة .
4- ¬خاتمة :
ولعل هناك من يتساءل عن الإيمان بالله ، إن كان سبيلاً من سبل النهوض ، فإني
أقول : لم أذكر الإيمان بالله سبيلاً من السبل ، وإنما الإيمان في رأيي أساس
لكل السبل ، يحدد منطلقها في النية والباعث ، كما يحدد اتجاهها في الغاية
والهدف .
وإذا فُقِد فلا شك بأن سبل النهوض حينها تغدو في أحسن أحوالها محدودة ضمن أطر
المادة والمادة فقط ، وكلنا يعلم أن الإنسان ليس مادة فحسب ، كما أن مجاله
الزماني والمكاني لا يقف عند حدود هذه الدنيا زماناً ومكاناً ، بل يتجاوزها إلى
مقابلها الآخرة ، التي تعني الامتداد السليم والطبيعي للدنيا وإلا قيدنا
الإنسان الذي خلق ليبقى بالفناء ، وحكمنا عليه بالانتهاء ، وقضينا على التكليف
بالنتيجة المعاكسة لمنطق الوفاء ، والجزاء والأجر ، والثواب ، والعقاب ، والقصص
.
تلك حكاية " النهوض " مجردة عامة ، يحوطها الإيمان ويكتنفها في النهاية
والبداية " الحب " ، الذي يحمل على الصبر والتحمل ، الحب الذي لا غنى للناهض
عنه ، لان الحب سمو ورفعة في عالم الوجدان ، يرفع به الإنسان ما حوته يداه ،
وما تبناه عقله ، وما سكن قلبه في عالم الحياة .
والحمد لله رب العالمين
د. محمود عكام
المراجع
:
(1) انظر: أسس التقدم عند مفكري الإسلام
لفهمي جدعان ، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي ، وشروط
النهضة لمالك بن نبي ، وعامة مؤلفات العلماء المذكورين ، وغيرهم كالأستاذ مرتضى
مطهري ، وعلي شريعتي ، رحمهم الله جميعاً .
2) ولعلي أكون أكثر تخصصاً في ذكر تلك التي ظهرت في عالمي العربي والإسلامي دون
غيره ، لتكون البقعة هذه محل تجربة قابلة للتعميم على بقية الأماكن ، إذ
الإنسان في منطلقاته ودوافعه وغاياته خاضع لقانون الوحدة ، التي تعني الاتفاق
في الأبعاد المادية والمعنوية ، مع لحظ خلاف طفيف ، لا يؤثر في الملمح العام
والمظهر الشامل المتكامل .
(3) أخرج الطبراني في الصغير عن سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال : " تمسّحوا بالأرض فإنها بكم برة " كما في الجامع الصغير
للسيوطي ، ورمز له بالحسن .
لقراءة المقال في جريدة تشرين لطفاً اضغط على الرابط التالي :
http://www.teshreen.com/daily/_madar.asp?FileName=20040124035735
التعليقات