آخر تحديث: السبت 20 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
موقفنا حيال الزمن

موقفنا حيال الزمن

تاريخ الإضافة: 2010/12/31 | عدد المشاهدات: 3033

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

أيها الإنسان:

عمرك يتكون من سنوات وشهور وأسابيع وأيام وساعات ودقائق وثواني، فاليوم الذي يمر هو بعض عمرك، والأسبوع الذي يمر هو بعض عمرك أيضاً والشهر والسنة وهكذا دواليك، هذا العمر الذي تشكله السنوات والشهور والأسابيع والأيام والساعات والدقائق والثواني، ما الذي ينبغي أن تقفه حياله ؟ أنت أمام عمرك، قف أمام مرآة هذا العمر، ما الذي يجب أن يدور في خلدك وأنت تتخيل عمرك وأنت تتخيل سنواتك وأنت تتخيل شهورك التي هي أبعاض ومكونات عمرك ؟

عليك أن ترعى أمرين اثنين وأنت تقف أمام مرآة عمرك:

الأمر الأول: أن تستشعر المسؤولية عن عمرك هذا، أنت مسؤولٌ عن عمرك، أنت مسؤولٌ عن سنواتك عن شهرك عن أسابيعك عن أيامك عن ساعاتك عن دقائقك عن ثوانيك، استشعر المسؤولية وليخطر على بالك وبإلحاح وبقوة هذا الحديث الشريف المعروف الذي يرويه الترمذي: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن جسده فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعمَّا عمل فيما علم) عن عمره فيما أفناه، ستسأل عن سنواتك وشهورك التي تكوّن عمرك، ستسأل من قبل ربك الذي ستخلو به ليس بينك وبينه ترجمان: ماذا فعلت يا عبدي في عمرك الذي وهبتك إياه ؟ ما الآثار التي خلّفتها ؟ ما حصيلة عمرك ؟ اسأل نفسك قبل أن تُسأل، فإذا سئلت هناك فلا مجال للتلافي لأن القضية قد حُسمت هناك، أما الآن فثمة مجال للتلافي وللتدارك، ضيعت سنتك التي ولّت وها نحن أولاء نعيش اليوم الأخير من سنة نعدُّها، فما الذي فعلته في سنتك هذه التي مرت ؟ استشعر المسؤولية عن عمرك، هذا أولاً.

الأمر الثاني: سارع وتدارك ما دمت حياً وما دمت تتنفس وما دمت تعيش، سارع واغتنم لأن نبينا وحبيبنا وقائدنا يقول كما في الحاكم على شرط الشيخين: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، صحتك قبل سقمك، حياتك قبل موتك، فراغك قبل شغلك، غناك قبل فقرك) هل تغتنم ؟ هل تفكر في الاغتنام والتدارك والمسارعة: ﴿سابقوا إلى مغفرة من ربكم﴾، هل تفكر في هذا أم انك في غفلة عن هذا وأخشى أن يأتي اليوم الذي يُقال لك فيه: ﴿لقد كنت في غفلة عن هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾ عندها إن ندمت فلات ساعة مندم، عندها إن تحسّرت فلا مجال للحسرة: ﴿قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا﴾ انتهى الأمر وحسم، بُتَّ في الأمر: ﴿كلا إنها كلمة هو قائلها﴾ هذا فيما يخص عمرك بشكلٍ عام، استشعار المسؤولية والمسارعة والتدارك.

من ناحية ثانية: عمرك أيها الإنسان ثلاثة أزمنة: ماضٍ وحاضر ومستقبل، فما الذي يجب أن تكونه حيال الماضي ؟ ما الموقف الذي يجب أن تتخذه حيال الماضي ؟ الموقف العظة والاعتبار من غير تبكيت ولا حسرة: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة﴾ اعتبر من ماضيك وفي ماضيك، كان سيدنا علي رضي الله عنه يقول: "إنما ينظر المؤمن إلى الدنيا وإلى ما مضى منها بالاعتبار ويَقتات منها ببطن الاضطرار". كُل من الدنيا ما يكفي لحياتك لأن تعيش، وإياك والسَّرف والترف، موقفك مع الماضي عظة وعبرة من غير تبكيت وحسرة يقول سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في مسلم: (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك) هذا فيما يخص موقفك نحو الماضي: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان) عظة وعبرة من غير تبكيت وحسرة حيال الماضي.

العمر ثلاثة أزمنة: ماضٍ نقف معه بالعظة والعبرة، حاضر نقف معه بالوعي والعمل: ﴿وقل اعملوا﴾ هل أنت تعمل ؟ هل تقوم بعملٍ نافع صالح، بعمل ينفع من حولك، وينفع البلاد والعباد أم أنك بكسلك مستغرق ؟ أم أنك بكسلك مستكين أم أنك منهزمٌ من العمل وراكن إلى الدّعة والكسل والخمول ؟ موقفك مع الحاضر الوعي والعمل: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ فهل يرى الله اليوم لنا عملاً ؟ وهل يرى رسوله اليوم منا عملاً ؟ وهل يرى المؤمنون منا اليوم عملاً أم أننا اثّاقلنا إلى الأرض فعشنا كسالى وتركنا على مائدة العالم اليوم كالأيتام نأكل من فضلاتها لا قيمة لنا ؟ لأننا لا نعمل وهيهات أن يتقدم كسولٌ على عامل. تلك سنة لم يردها الله عز وجل للخليقة أن يتقدم الكسول على العامل، فإن السماء كما ورد عن عمر بن الخطاب لا تمطر ذهباً ولا فضة، هيا فاعمل أيها الإنسان، جاء في البخاري عن سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يتبع الميت ثلاثة يرجع اثنان ويبقى واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، يرجع أهله وماله ويبقى عمله) فما الذي سيبقى معك إذ تودع الحياة هذه، أم أنت تعلم وقدمت ما يبقى معك حيث أنت ميت، أم أنت في غفلة عن هذا ؟ سيبقى معك عملك فهل تعرف عملك وهل قدّمت عملاً تستأنس به وأنت ميت ؟ ما تستأنس به وأنت ميت هو العمل الصالح هو عملك النافع.

أما الموقف مع المستقبل فهو التفاؤل والأمل من غير اغترار، من غير أمنيات كاذبة: ﴿ولا تهنوا ولا تحزنوا﴾ نحن نتفاءل على أساس من عظة وعبرة مع الماضي، ومن وعي وعمل مع الحاضر، إذا كنا نتعظ ونعتبر مع الماضي، ونعي ونعمل مع الحاضر، فيحق لنا أن نتفاءل وأن نكون آملين مع المستقبل: ﴿ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين﴾ يترتب موقفنا مع المستقبل على أساس موقفينا مع الماضي والحاضر، لا نريد أن نكون آملين مع المستقبل من غير أن نكون متعظين ومعتبرين مع الماضي وعاملين وواعين مع الحاضر. التفاؤل والأمل من غير اغترار، والاغترار حين تتفاءل من غير موقف صريح مع الماضي ومع الحاضر، التفاؤل: ﴿ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون﴾ لكنكم ترجون من الله ما لا يرجون، التفاؤل والأمل حيال المستقبل يقول ربنا في الحديث القدسي الذي يرويه البخاري: (أنا عند ظن عبدي بي) أيها الظَّانون بالله ظن السوء عليكم دائرة السوء، أيها الظانون بالله ظن الخير سيكون لكم الخير على أساس من موقفين متخذين حيال الماضي وحيال الحاضر وإلا فليس لكم الخير، ورد أيضاً عن رب العزة في الحديث القدسي كما في مسند الإمام أحمد فالله يريدك متفائلاً يريدك آملاً: (عبدي قم إليَّ أمشِ إليك، وامشِ إليَّ أهرول إليك) إذا كان هذا هو الرب جل وعلا فلماذا لا تكون متفائلاً ؟! ربنا يحبنا، ربنا يريد الخير لنا فلماذا لا نتفاءل ؟ نحن إن أردنا الخير لأنفسنا وعملنا لهذا فيحق لنا أن نتفاءل.

ضعوا في ذهنكم هذه الصورة: عمرك قف أمام مرآته، وعليك أن تتخذ أمرين: استشعر المسؤولية وسارع وتدارك، عمرك يتكون من ثلاثة أزمنة: من ماضٍ عليك أن تكون حيال الماضي متعظاً ومعتبراً من غير تبكيت وحسرة، زمنٌ حاضر عليك أن تكون حياله واعياً عاملاً وأن تستنفذ كل القدرة، مستقبل عليك أن تكون حياله متفائلاً من غير اغترار على أساس من اتخاذك الموقفين السابقين حيال الماضي والحاضر.

اللهم إني أسألك أن تجعلنا حيال حاضرنا من الواعين العاملين، وحيال ماضينا من المتعظين المعتبرين، وحيال مستقبلنا من المتفائلين الآملين، وحيال عمرنا كله من أولئك الذين يستشعرون المسؤولية والذين يتداركون ويسارعون إلى المغفرة، كن معنا ولا تكن علينا، نعم من يسأل ربنا ونعم النصير إلهنا، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت في الجامع الأموي الكبير بحلب بتاريخ 31/12/2010

التعليقات

فاطمة الزهراء

تاريخ :2011/01/06

فضيلة الشيخ الجليل كيف ننسى الماضي اذا كان قد قتل فيه الحاضر والمستقبل وترك أثره وجروحه التي لاتندمل والحاضر اسوا والمستقبل مجهول أدامكم الله عز وجل

فاطمة الزهراء

تاريخ :2011/01/09

أقسم لكم فضيلة الشيخ الجليل كلما قرأت لكم أشعر ان الدنيا بخير واني يجب أن أزداد ايمانا بالخالق العظيم أنتم بفضل الله عز وجل قربتم الاسلام الى قلبي منذ اكثر من عشرين عاما كم أتمنى لو كنت حفنة تراب فقط قريبة منكم وفقكم الله

شاركنا بتعليق