أمَّا بعد، فيا أيُّها الإخوة المسلمون المؤمنون إن شاء الله:
ها نحن أولاء نُودِّع عاماً لنستقبل عاماً جديداً، وفي هذه اللحظات يشعر ذاك الإنسان الواعي المؤمن بضرورة الوقوف مع هذا الزمن، مع هذا العمر. أتدري أيها الإنسان بأن عُمرك كتاب، سِجِلّ، دفتر، وأنَّ صفحاته معلومة محدودة معدودة بالنسبة لربك عزَّ وجَلَّ، صفحاته هي الأيام، وعليك الآن أن تنظر دفتَرك، كتابَك سِجِلَّك، كم مضى من صفحات هذا الكتاب، وأنت على علمٍ بعدد تلك الصفحات التي مضت وتلك الأيام التي مضت، أنت تعلم كم من الأيام مضى عليك، على ولادتك، على أول صفحةٍ من هذا السجل، أما الصفحات الباقية فالله هو الذي يعلم وأنت لا تعلمها، هل بقي صفحة، صفحتان، ثلاث صفحات، خمسون صفحة ؟! لا تدري: (وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت).
أيها الإخوة: هيا إلى سجلاتكم، هيا من أجل أن يقف كل واحد منا مع سِجله، انظر سِجلك، انظر صفحات دفترك، ما مضى منها، قَلِّبها، استَعِد ولو عن طريق الذَّاكرة القريبة والبعيدة، قَلِّب الصفحة وأنت تستعيد بالذاكرة الصفحة التي سبقت والتي قبلها والتي قبلها والتي قبلها، وأنت تملك الوقت الآن، وقد لا تستغرق هذه المراجعة ساعة أو ساعتين وأنت تمتلك أكثر من ذلك لا سيما في أيام العطل، لا سيما في الليل لا سيما في النهار، استَعِد من خلال ذاكرتك هذه الصفحات ماذا سجلت فيها ? استَعِد صفحة البارحة، صفحة أول البارحة، صفحة منذ يومين منذ ثلاثة أيام منذ أربعة ايام، ماذا سجلت فيها ? إما أن تكون قد سَجَّلت فيها شيئاً جميلاً وإما أن تكون - لا سمح الله - قد سجَّلتَ فيها شيئاً غير جميل، لا يليقُ بإنسانيتك، ولا يليق بعُبوديتك، ولا يليق بكونك مؤمناً ولا بكونك مُسلماً، على كل: إن وجدتَ هذه الصفحات قد مُلئت خيراً فما عليك إلا أن تحمد الله وأن تشكره، وأن تقول: الحمد لك يا رب، والشكر لك يا ربِّ أن وفَّقتني، وأن تتوجه إلى مَن كان سبباً في عملك هذا الذي رأيته وكان صالحاً، أن تتوجه له بالدعاء وبالشكر أيضاً، وإن رأيت - لا سمح الله - في هذه الصفحات أمراً غير جميل، أموراً مسيئة لإنسانيتك ولعبوديتك، فما عليك إلا أن تتوب. جدِّد التوبة، وتب إلى الله عزَّ وجلَّ، واستغفر الله عز وجل، وقل: يا ربِّ أستغفرك وأتوب إليك وأعود اليك وأنيب إليك، يا ربِّ ها أنا أعلن التوبة لأقول: إني تبت إليك، ومن تاب إليك تُبت عليه، ومن استغفرك غفرتَ له، ومَن دعاك لبَّيته. ادعُ ربَّك عز وجل واستغفره، (فأولئك يُبدِّل الله سيآتهم حسنات)، فعسى أن تُبدَّل هذه الصفحات، عسى أن تُبدَّل بالسيئات الحسنات، وهذا الذي تفعل نوعٌ من الحساب، وقد نُسِب إلى سيدنا عمر - كما جاء في كتب حياة الصحابة - أنه قال رضي الله عنه: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا"، هذا بعض حساب عليك أن تقوم به: "حاسِبوا أنفسكم قبل تُحاسَبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم، وتَزيَّنوا للعَرض الأكبر". واعلموا أنَّ مَن حاسب نفسه في الدنيا يخفُّ حسابُه في الآخرة، أما بالنسبة للصَّفحات الآتية وأنت لا تعلمُ كم هي، ما عليك إلا أن تستعين بالله عز وجل، وأن تسأله أن يجعل هذه الصفحات صفحات خير. (يا أيها الناس اعبدوا ربكم)، (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربَّكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) استعن بالله على الصفحات الباقية التي لا تعلمُ كم هي، استعن بربك من أجل أن يجعلها صفحات خير، صفحات عطاء نافع، صفحات رحمة، صفحات نعمة، صفحات تقربك إلى الله عز وجل قُربَ رِضىً، قُرب أمان، قرب عطاء، قرب رحمة. هيا فاستعن بالله عز وجل، وقد رُوي ونَسب إلى الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه كما جاء في حلية الأولياء أنه قال: "الأيام صحائف آجالكم، فخَلِّدوها بأحسن أعمالكم" ادعُ الله عز وجل أن يوفقك فيما بقي من الصفحات، أن تكون أعمالاً تُخلِّد لك ذكراً حسناً، (واجعل لي لسان صدق في الآخرين).
هذا ما يجب أن تقف عنده، وأن تكون لك هذه الوقفة في هذه الأيام، واعلموا يا إخوتي أن كل يوم من الأيام عبارة عن نهاية سنة بالنسبة لإنسانٍ ما، وأن هذا اليوم بداية سنة لإنسان آخر، والسنة التي ستذهب هذه السنة الميلادية هي سَنة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، كل يومٍ عبارة عن رأس سنة لإنسان ما، وعبارة عن بداية سنة لإنسان آخر، اليوم نهاية سنة لفلان، واليوم بداية سنة لفلان آخر، لذلك كان اليوم أهم مُفردةٍ من مُفردات الزَّمن، الزمن له مُفردات: سنة، وشهر، وأسبوع، وقَرن، ويوم، وساعة، وأهم مفردات الزمن هو اليوم، لأن اليوم هو الذي يُعَدُّ في السنة، وهو الذي يُعَدُّ في الشهر، وهو الذي يُعَدُّ في الأسبوع، وهو الذي يُعَدُّ في كل لحظة من لحظات حياتنا، وتُنسَب إليه الأحداث، نقول عن يوم المولد بأنه يوم المولد، عن اليوم بأنه اليوم العظيم، وهكذا دواليك... أعود إلى كلامي لأقول: انظر سِجلك، انظر دفترك، انظر ما ما مضى من الصَّفحات، استغفر الله، وقلت لك وأؤكد أيضاً على أمر ما: إن كانت في الصفحات الماضية مَظلَمة عندك، لأخيك، فهيا هيا إلى رَدِّ المظالم إلى أربابها، لأن الله لا يقبل توبتك إن كنتَ ظالماً ما لم تَستسمح المظلوم، ما لم تُرجع الحقَّ إلى هذا الذي سلبتَه حقاً، سواءٌ أكان الحق مادياً أو كان الحق معنوياً.
يروي أيضاً أبو نُعيم صاحب الحلية عن ابن عياض، قال هذا الرجل التابعي الجليل لرجلٍ رآه في طريقه: السَّلام عليك يا فلان. فرَدَّ عليه السلام. قال له: يا فلان كم عُمرك ? قال: ستون. قال: أنت منذ ستين سنة منذ تسير، وكِدتَ إلى الله تَصير، أصبحتَ قريباً إلى الله، منذ ستين سنة وأنت تسير، تُقلِّب الصفحة تلو الصفحة، وما بقي لك إلا اليسير حتى تصير إلى ربك، منذ ستين سنة تسيرُ وأنت إلى الله قريباً تصير. فقال هذا الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال له الفضيل رضي الله عنه: مَن عرفَ أنه لله وأنه إليه راجع عَرَفَ بأنه بين يديه موقوف، ما مِنكم من أحد الا سيقف بين يدي ربه، مَن عرف بأنه لله وأنه راجع عَرف بأنه موقوفٌ بين يدي الله، ومن عرف أنه موقوف بين يدي الله عَرف بأنه مَسؤول، ومَن عرف بأنه مسؤول، فليُعِدَّ للسُّؤال جواباً. ستُسألون عن الصغيرة والكبيرة، هذا الكتاب الذي ستحمله بين يديك وتقول: (هاؤُمُ اقرؤوا كِتابيه)، (فأما مَن أوتي كتابه بيمينه فسوف يُحاسَب حساباً يسيراً. وينقلب إلى أهله مسروراً. وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً. ويصلى سعيراً. إنه كان في أهله مسروراً.إنه ظَنَّ أن لن يحور. بلى إن ربَّه كان به بصيراً) هذا الكتاب يحوي الصَّغيرة والكبيرة، (في كتابٍ لا يُغادِرُ صَغيرةً ولا كبيرة) هذا السِّجل يحتوي على البسمة والضحكة، يحتوي على الفِعلة التي كُنتَ تستصغرها، وعلى الفعلة التي كنت تستكبرها، على القول، على مجرد الكلمة، يحوي هذا الكتاب على كل ما صدر عنك من قول وفعل وحركة سكنة وحال، فهيا أيها الإنسان، هيا إلى المراجعة، اليوم يوم المراجعة، علينا أن نراجع هذا الدفتر الذي بين أيدينا، عرفنا صفحاته التي مضت ولا نعرف صفحاته التي ستأتي كم هي، ما عددها، نسألُ الله أن يغفر لنا ما مضى إن كنا أسأنا، ونسأل الله عزَّ وجل أن يوفقنا من أجل أن نكثر من الاستغفار ومن التوبة ومن الرجوع إلى الله ومن الشكر ومن الحمد وأن يوفقنا من أجل أن نردَّ المظالم إلى أهلها، وأن نكون ممن يستسمح من الناس إن كان قد آذاهم أكان قد اغتابهم أو كان تكلَّم عنهم إن كان لهم حق عنده سواء أكان هذا الحق مادياً أو معنوياً، ونسأل الله عزَّ وجل أن يوفقنا للكتابة في الصَّفحات الباقية، للكتابة الجميلة بخطٍّ جميلٍ، بحروفٍ مضيئة، بحروف يُضيءُ جمالَها ورونَقها المصطفى صلى الله عليه وسلم من خلال اتِّباعنا له، من خلال تأسِّينا به صلى الله عليه وآله وسلم. اللهم اجعل هذا المصطفى روحاً لذاتنا من جميعِ الوجوه يا عظيم، تقبَّل منا يا ربنا ما كان صالحاً، وأصلح منا ما كان فاسداً، وأصلحنا ظاهراً وباطناً يا ربَّ العالمين، نِعمَ مَن يُسألُ أنت، ونعم النَّصيرُ أنت، أقولُ هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت في جامع السيدة نفيسة عليها السلام بحلب الجديدة بتاريخ 23/12/2022
لمشاهدة فيديو الخطبة، لطفاً اضغط هنا
ندعوكم لمتابعة صفحتنا عبر الفيس بوك بالضغط على الرابط وتسجيل المتابعة والإعجاب
https://www.facebook.com/akkamorg/
ندعوكم لمتابعة قناتنا عبر برنامج التليغرام بالضغط على الرابط وتسجيل الدخول والاشتراك.
التعليقات