فريضة الوحدة
أمَّا بعد، فَيَا أيُّها الإخوةُ المسلمونَ المؤمنون إنْ شَاءَ الله:
كثيراً ما أُسأَلُ عن حديثٍ نبوي شريف، ربما بدا للوهلة الأولى أنَّ فيه إشكالية، هذا الحديث اسمعوه، ولعلكم سترون فيه للوهلة الأولى كما بدا للكثير أن ثمة إشكالية فيه أو في فهم هذا الحديث الشريف، وهو حديثٌ صحيح يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (سألتُ رَبي ثلاثاً) ثلاث مسائل (فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألتُ ربي أن لا يُهلكَ أمتي بالسنة) أي بالقحط، بالجدب (فأعطانيها، وسألتُ ربي ألا يُهلك بالغرق فأعطانيها، وسألتُ ربي ألا يجعلَ بأسَهم بينهم فمنعنيها) الإشكال حسب الظاهر إذا كان اللهُ لم يعطِ نبيَّه الأكرم هذا الأمر أن لا يكون بأس الأمة فيما بينها شديداً، فلماذا العمل ولماذا السَّعي من أجل جمعِ كلمة الأمة، ولماذا هذه الخطب وهذه المؤتمرات وهذه اللقاءات، والله عز وجل لم يُعطِ المصطفى صلى الله عليه وسلم المسألةَ في أن لا يجعلَ بأسَهم بينهم ؟! الجوابُ: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم طَلَبَ من ربه هذه الأمور الثلاثة: ألا يُهلك الأمة بالسَّنة فأعطاه الله ذلك تَفضُّلاً، وسأله ألا يُهلِك أُمَّته بالغرق فأعطاه ذلك تَفضُّلاً، وسأله ألا يجعلَ بأسَهم بينَهم فمنعنيها، أي لم يُعطِهِ هذه المسألة تفضُّلاً، وإنما قال له بلسان الحال: يا محمد سأجعلُ هذا الأمر تكليفاً، سأكلِّف أمَّتك بهذا الأمر تكليفاً، بن يكون مني تفضلاً وإلا لما كان هنالك جَدوى للسَّعي، أنت لا تسعى من أجل ألا تغرق الأمة بالماء، ولكنَّ الله تكفَّل بذلك بشكلٍ مُباشِر وبتدخل مباشِر وبفضلٍ منه جَلَّ وعَلَا، أما ألا يجعلَ بأسَهم بينهم فهذه أعطانا الله إيَّاها تكليفاً، قال تكفلتُ لكم ألا تهلكوا بالغرق وأن لا تهلكوا بالسنة لكن كلَّفتكم أن لا يكونَ بأسكم فيما بينكم شديداً، فهيا فاسعَوا من أجل تحقيق هذا الأمر من باب التكليف، وبناءً على ذلك، بما أنَّ الاجتماعَ والوحدة والاتحاد بين المسلمين جعَله اللهُ تَكليفاً، لذلك كان الاعتصامُ بحبلِ الله جَميعاً فَرضاً، فرض اللهُ عليكم الوحدة والاتحاد والتعاون، كلَّفكم بهذا وستُحاسَبون على هذا، وسيكونُ الحسابُ عَسيراً إن قَصَّرتم في هذا الأمر الذي لم يَكُن على التَّفضيل وإنما كان على التَّشريف، فهيا، جعلتُ الوحدة فيما بينكم والاتحاد جعلته فرضاً (واعتصموا بحبل الله جميعاً)، (وتَعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تَعاونوا على الإثم والعدوان)، (إنَّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)، (إنَّ الله يُحبُّ الذين يُقاتلون في سبيله صَفاً كأنَّهم بُنيانٌ مَرصوص) الوحدة القلبية والشكلية فرضٌ عليكم، فهيا من أجل أن تتحققوا بها، والفرقة والتَّنازع حَرام، افهموها يا أيها المسلمون، الفرقة والتَّنازع حَرام، نقولُ الصلاة فرض، وترك الصلاة حرام، الزكاة فرض وترك الزكاة حرام، الحج لمن استطاع إليه سبيلاً فرض وتركه لمن استطاع إليه سبيلاً حرام، الوحدةُ والاتِّحادُ والتَّعاون والأخوة فرض، والتَّفرقة والتَّنازع (ولا تَنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) حرام ولربما وقعنا في الحرام من حيث لا ندري، لأننا لم نتصور أنَّ الوحدة والاعتصام بحبل الله جميعاً فرض كفريضة الزكاة والصيام والصلاة، هيا فاجتمعوا (ولا تَنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)، (عليكم بالجماعة) هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإنَّ الشَّيطان مع الواحد) إذا كنت أنت واحداً افترقتَ عن الأمة، فإن الشيطانَ معك، (فإن الشيطانَ مع الواحد، ومن الاثنين أبعد) فإذا كنتما اثنين فالشيطان سيبتعدُ عنكما، لأنكما أصبحتما اثنين، مشيتما في طريق الجماعة (ومَن أراد بَحبوحة الجنةَ فليلزمِ الجَماعة) أرادَ بَحبوحة أو بُحبوحة وكلا اللفظين جائزان، (ومَن أراد بُحبوحة الجنة فليلزم الجماعة)، (وكونوا عبادَ الله إخواناً) فريضة، (لا تَدَابروا ولا تَحاسدوا لا تَباغضوا) نَهيٌ، حَرام، التباعد والتباغض والتشرذم حَرامٌ كحُرمة الخمر، كحرمة الزنا، كحرمة ترك الصلاة، كحرمة ترك الصيام، كحرمة الإمعان في ترك الصَّلاة والإمعان في تركِ الصيام والإمعان في ترك الزكاة، روي عن الإمام عليٍّ رضيَ الله عنه أنه قال: "عليكم بالجماعة فإنها رحمة، وإياكم والفرقة فإنها شَقاء" يا أمة الإسلام، ويقولُ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه وأرضاه، واسمعوا إلى ساداتكم، إلى ساداتنا، عَليٌّ من ساداتنا، ابن مسعود من ساداتنا، أبو بكر من ساداتنا، عمر بن الخطاب من ساداتنا، يقولون لكم اجتمعوا ولا تتفرقوا، يقول ابن مسعود: "إنَّ ما تكرهون في الجماعة خيرٌ مما تُحبُّون في الفُرقة"، ونحن نعيشُ هذه الأيام أيام الحج، يجتمع الملايين يجتمعون بحسبِ الصُّورة مُوحَّدين، لباسُ الإحرام واحد، القِبلةُ واحدة، الطَّواف واحد، السَّعيُ بين الصفا والمروة واحد، الوقوف في عرفات واحد، رمي الجمار، رمي الشيطان واحد، ترمون الشيطان وتقولون: إرضاءً للرحمن ثم بعد ذلك تكونون بعدَ الحج مع الشيطان من خلال الفرقة والتنازع والبغضاء والشنآن والتحاسد والتحاقد، الحجُّ من حِكَمه، بل من أولويات حِكمه أنه يقدم صُورة الوحدة، فما لكم يا أيها الإخوة المسلمون، يا أيها الحجاج، ويا أيها الذين لم تَحُجُّوا، لباسكم واحد، طوافكم واحد، كعبتكم واحدة، عرفاتكم واحدة، مِنى واحدة، مزدلفة واحدة، زيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم واحدة، كلكم يَزورُ هذا النبيَّ الأكرم ويصلي عليه، فماذا تقولون لربكم إن كانت كل هذه الأشكال مُوحَّدة إلا أن قلوبكم ليست واحدة، فقد أتيتم اللهَ بصورةٍ لا حقيقةَ لها، ومن أتى بالصورة لم يأتِ بشيءٍ، (إنَّ الله لا ينظرُ إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم) أين ينظر ربكم ؟ إلى قلوبكم (وإنما ينظر إلى قلوبكم) فيا أيها الحجاج، وأنتم يا أيها الذين لم يُقسَم لهم ولم يُقدَّر عليهم أن يحجوا: فلتَتَّحد قلوبُكم، وليدعُ بعضُكم لبعضٍ، أيها الحجاج حول الكعبة وأنتم تطوفون ستَدعُون، ادعُوا للمسلمين جميعاً أن يجمع الله بينهم، أن يؤلذِف اللهُ بين قلوبهم، أن يجعلهم يداً واحدة على أعدائهم، أن يجعلَهم أمةً واحدة تتحقَّق بقول الله عز وجل: (إن هذه أمتكم أمة واحدة)، لكننا اليوم لسنا أمة واحدة، وإنما أمم كثيرة، ولهذا سهُل على أعدائنا أن يأتونا فرقةً فرقة، وجماعةً جماعة، وفرداً فرداً، (ولينزعنَّ اللهُ المهابةَ منكم من قلوب أعدائكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن) قالوا: وما الوهنُ يا رسول الله ? قال: (حُبُّ الدُّنيا وكَراهيةُ الموت) أمِن قِلةٍ نحنُ يومئذٍ يا رسول الله ?! لا، المسلمون يَعدُّون الآن مليار ونصف مسلم، أَمِن قلةٍ نحنُ يومئذٍ يا رسول الله ?! (لا، إنكم يومئذٍ كثير، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاء السَّيل) لا قيمة لكم، ولن تعودَ لكم القيمة، والمكانة إلا إذا اتَّحدتم بقلوبكم وأجسادكم، وكنتم أمةً واحدة كما أرادكم القرآن الكريم.
إنها نفثة مصدور يرى أمته تَعُدُّ الكثير لكن لا يرى إنجازا يمكن أن يُنسَب إلى أقل من هذه الأمة عَدداً، نحنُ في صِراعٍ مع هذا العدو اللعين، مع هذا الكيان الغاصب، ولو أنَّ المسلمين طبَّقوا فريضة الوحدة، ثِقوا أنَّ هذا العدو لن يستمرَّ يوماً واحداً، وسيُغلَب في ساعةٍ واحدة، بل في ثانيةٍ من الزمن، بل في لحظةٍ، واللحظة يُمكن أن تكونَ أقلَّ من ثانية، أقل مما تتوقَّع،
ما بينَ طَرفةِ عَينٍ وانتِباهَتِها يُغيِّر اللهُ مِن حَالٍ إلى حالِ
أسألُ الله عز وجل أن يجمع قلوبنا على ما يُرضيه، وأن يَحولَ بيننا وبين مَعاصيه، وأن يوفقنا من أجل أن يدعو بعضُنا لبعض في ظهر الغيب، ماذا عليك أيها الإنسان المسلم لو أنك في صلاتك اليوم، في صلاة السُّنة، سجدتَ فقلتَ: اللهمَّ وفِّق هؤلاء، رُوَّاد جَامع السَّيدة نفيسة، اللهمَّ أنزل عليهم رِضاك، اللهمَّ اجعلهم في مَأمنٍ من كل مكروه، اللهم أيِّدهم، اللهم ثَبِّتهم، فَضلاً عن أن تدعو لإخوانك في فلسطين، وفي كل أصقاعِ العالم، تقول: اللهمَّ رُدَّهم إلى دِينك رداً جميلاً، اللهمَّ رُدَّنا إلى دينك رَدَّاً جَميلا، ورُدَّنا إلى الأُخُوَّة التي أمرتَنا أن نكونَ عليها، وأن تكونَ دِثارَنا وشِعارَنا، نِعْمَ مَنْ يُسأَلُ أَنت، ونِعْمَ النَّصيرُ أَنت، أقولُ هذا القولَ وأستغفِرُ الله .
ألقيت في جامع السيدة نفيسة عليها السَّلام بحلب الجديدة بتاريخ 31/5/2024
لمشاهدة فيديو الخطبة، لطفاً اضغط هنا
ندعوكم لمتابعة صفحتنا عبر الفيس بوك بالضغط على الرابط وتسجيل المتابعة والإعجاب
https://www.facebook.com/akkamorg/
لمتابعة قناتنا عبر برنامج التليغرام بالضغط على الرابط وتسجيل الدخول والاشتراك.
التعليقات