أما بعد ، أيها الاخوة
المؤمنون :
مَن كان منكم عازماً على أداء فريضة الحج ، أو من لم يُيَسِّر الله عز وجل له
الأداء ، أريد أن أبدأ من حيث قد ينتهي بعضهم ، بالخلاصة ، ثم بعد ذلك ، ربما
فَصَّلتُ بعض الشيء . لو تساءلنا عن خلاصة الحج ؟ أيها لحاج ، أيها المسلم : ما
الذي يجب أن تحققه حين تؤدي هذه الفريضة ؟ إن المتتبع لما جاء عن الله عز وجل ،
وعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يخص هذه الفريضة يرى أن خلاصة هذه
الفريضة تتمحور في محورين :
الأول : تعميق الإخلاص لله في أدائنا أعمالنا ( تقوية الإخلاص لله ) .
الثاني : تدعيم الولاء والطاعة لله عز وجل حتى ولو لم نفهم حكمة الأمر الذي
جاءنا من الله .
تدعيم الإخلاص لله : يقولون في تعريف الحج بأنه القصد إلى مُعَظَّم . وأنت
حينما تذهب أو تريد الحج ، تبغي الذهاب إلى الكعبة ، والكعبة معظمة ، لأنها بيت
الله عز وجل الحرام ، ولأنها أول بيت وضع للناس ، ولأن الأنبياء الكرام عليهم
الصلاة والسلام بنوها ، فأنت تتوجه إلى معظم عظَّمه الله وأعطاه قيمة روحية
معنوية ، فأنت حينما تحج تتوجه إلى ما عظَّمه الله . إلى البيت الحرام مريداً
أن يكون هذا التوجه خالصاً لله عز وجل ، فتقول إذ تحج أو تعتمر : اللهم إني
أريد الحج فيسِّره لي وتقبله مني ، وتقول بعد إذ ترتدي لباس الإحرام وأنت تبغي
الحج : نويت الحج أو العمرة وأخلصت به لله رب العالمين . الحج يُقوِّي نيتك أو
يمنحك الإخلاص في النية ، ونحن نحتاج إلى أن نكون مخلصين في كل أعمالنا ، في
بيعنا وشرائنا وسياستنا وثقافتنا ، وأخشى ما نخشاه على أنفسنا من فساد النية لا
سمح الله ، لأن سيدنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يقول كما في البخاري
ومسلم : " إنما الأعمال بالنيات " فإن ذهبت النية أو فسدت فسد العمل لا شك في
ذلك ولا ريب . والله عز وجل حينما يرى عبده ينوي إلى غير الله عز وجل يكله إلى
من نواه " أنا أغنى الشركاء عن الشرك " هكذا يقول الله في الحديث القدسي الذي
يرويه الترمذي ومسلم وغيرهما .
تدعيم الولاء والطاعة لله : فعلى الإنسان أن يطيع ، وهنالك مصطلح اسمه الطاعة
والولاء والانقياد والاستسلام والإسلام والإذعان والقنوت والسمع . والسؤال الذي
نطرحه على أنفسنا من حيث الدراسة الأنثروبولوجية ( الإناسية ) من تطيع ومن
توالي ؟ لمن تنقاد وتستسلم وتذعن وتنصاع وتستمع وتصيخ ؟ سؤال يطرحه الإنسان على
نفسه حتى ولو لم يكن مسلماً . لو أنك تخيلت كما يتخيل بعضهم في " حي ابن يقظان
" أو في " حي ابن الطفيل " لو تخيلت إنساناً وُجِد ولم يلتق أحداً سيسأل نفسه
حين يبلغ سن الرشد من أنا ؟ لمن أطيع وأستسلم وأذعن ؟ ولقد حدث هذا في مقولة
منتشرة جداً حينما وجد أعرابي نفسه وجهاً لوجه أمام وحدة ( غربة ) نظر في الكون
الجامد ولكنه متحرك إن حركتَه أنت ، فقال : البعرة تدلّ على البعير ، والقدم
يدلّ على المسير ، سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج أفلا تدلان على اللطيف الخبير
؟! هنالك لطيف خبير مطلق . هو الذي أواليه وأسمع له وأذعن له . وأقول له كما
يقول الحاج - وهنا موطن الشاهد - : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ،
إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك . لله المطلق الخالق أنقاد له وأستسلم
. لأنه : ( لا يُسأَل عما يفعل وهم يُسأَلون ) . ورحم الله من قال :
يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي |
إنَّا بغير محمد لا نقتدي |
ومحمد هو رسول الله ، لا
نقتدي به لأنه محمد ، بل لأنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنه
المنقاد الأول والطائع الأول بين بني الإنسان لرب الإنسان اللطيف الخبير .
خلاصة الحج انقياد وولاء وطاعة لله رب العالمين . فما بالنا ، وما بال مثقفينا
- وأنا لا أريد بهذا شتماً وحاشا - ما بال سِياسيِّينا يقولون لغير الله لبيك ،
لبيك وسعديك ، والخير كله في يديك ! لماذا أيها الإنسان ؟! عَتَبي عليك أيها
المثقف أن تسمع مني دعوة إلى الله ثم تتهمني بأني أدعوك إلى تقهقر . أن تسمع
مني أيها السياسي دعوة إلى الله ثم تتهمني بأني أدعو إلى تأخر . هل الدعوة إلى
الحقيقة المطلقة دعوة إلى تأخر وتقهقر ؟! ما هذا المنطق المقلوب ، والكلام الذي
يتعارض آخره مع أوله ؟!
لذلك نتوجه للإنسان كافة في كل بقاع الأرض قائلين له : أَطِعِ لله إن كنت في
أمريكا أو كنت في آسيا أو أفريقيا أو أستراليا أو أوربا ، فإن أطعته وواليته
فأنت إنسان عاقل ، وإلا فلست بإنسان ، وأقول هذا لأن الله ربي الصادق قال : (
إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل ) . نريد أن نتصارح فيما بيننا : لماذا لا ندعو
الناس كافة إلى الله ، وتلك دعوة صادقة إنسانية ثقافية ؟ لماذا إذا جاء الأمر
من الله فلا تفعله إلا بعد أن تبحث عن علة وحكمة ؟ ما الحكمة من الصلاة ؟ فإذا
لم تقتنع بالحكمة التي يشرحها لك هذا أو ذاك اعتبرتَ نفسك منصوراً وتركت الصلاة
! لماذا لا تتعامل مع الله كما تتعامل مع من تنقاد له من الناس والبشر أمثالك ؟
هل تطلب تعليلاً لمرسوم في دولة أو قانون ؟ ستبحث عن حكمة لهذا المرسوم أو
القانون ولكنك إذا لم تجد تعليلاً فستنصاع وتنقاد لا سيما إذا كان الذي وضع
القانون رجل كبير في نظرك ، وله مكانة على مستوى القوة الفكرية والمادية .
نحن نحج ونرفع الرأس لأننا ننصاع لله في أمر أمرنا به إياه ، حتى ولو لم نفهم
حكمته . نحن نلبس ثياب الإحرام البيضاء ولا نلبس المخيط ، وما أظن أننا بحاجة
إلى أن يقول قائل : ما الحكمة من عدم لبس المخيط ؟ وإن وجد من يقول بِحِكَم
كثيرة لهذا اللباس ، لكن يجب أن لا يكون هذا وراء انصياعنا أو سبباً لانصياعنا
، إن فهمناه أطعنا ، وإن لم نفهمه لم نطع ، بل : ( سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا
وإليك المصير ) . الله يقول لك قف في عرفات على هذا الجبل ، ثم انزل إلى
المزدلفة ، ثم ارمِ بهذه الحصاة . لا تقل ما الحكمة من أجل أن تفعل ، بل قل ما
الحكمة بعد أن تفعل لتعمِّق الأمر . وهذه مشكلة المثقفين والسياسيين والمفكرين
، أَمَا وأن الله قد قال فسمعاً وطاعة ، لأن الله يريد منا عباداً طائعين
مستسلمين ، أمرتَنا يا ربنا فوفقنا من أجل أن نطيع ، من أجل السمع والطاعة .
الله عز وجل قال لك : اذبح . فلا تُفلسف الأمور ولا تقل : أذبح ! إن الذبح -
كما يقول بعض الكاذبين - علامة إرهاب ، فأنت تُسيل دماً إذاً أنت مشتاق للدم ،
وأنت تصدق غير الله فتقول : لماذا الذبح فهو اشتياق للدم ، وهذا إرهاب . لا يا
أخي ... الله قال : فالسمع والطاعة . اجعلنا يا رب عبيداً نواليك ونطيعك .
قديماً تعلمنا في مدارسنا قول الشاعر :
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة |
فإن فساد الرأي أن تترددا |
وإني لأقول : إن من جملة
مشاكل المسلمين التردد . يسمعون كلام الأعداء الذين يتمظهرون اليوم بمظهر القوة
وهم يقولون لهم : ما الفائدة من هذا ؟ وإذا بمسلمينا يترددون بين أمر الله وبين
نهي الشيطان عن هذا الأمر الذي أمر به الله . إن أول من فلسف الأمور ، وكانت
فلسفته طريق ضلاله : الشيطان يوم أن قال : ( أأسجد لمن خلقت طيناً ؟! ) الله
قال له : اسجد ، وإذا بالشيطان يفلسف ، ودافعه الكبر والحسد فقال : ( خلقتني من
نار وخلقته من طين ) والنار أعلى شأناً من الطين ، فكيف يسجد من خُلق من النار
لمن خُلق من طين ؟ إني أخاف أن نكون اليوم على طريق هذا الذي فلسف الأمر وحاول
أن يأخذ الحكمة قبل الفعل ، فإذا ما اقتنع فعل ، وإذا لم يقتنع لم يفعل ، فأين
اعتقادك بأن الله الحكيم المطلق .
أيها الحاج : وأنت ذاهب إلى بيت الله العتيق ، أيها المسلم : وأنت الذي لم تحج
، إني أقول : علينا أن نعيش الحج من أجل تعميق الولاء لله ، وتدعيم الإخلاص في
النية لله . فلا ننوي غير الله . اللهم إني أريد الحج لك ، أريد الدراسة من
أجلك ، أريد التجارة والصلاة من أجلك ، من أجل الله ، كل أعمالنا من أجل الله .
ابحث عن هذا الجذر الضروري في داخلك قبل أي عمل .
لقد سمعت تعريفاً للصدق منذ أربعة أيام في ندوة ، وهذا التعريف مأخوذ عن كتب
السادة الصوفية الفاهمين ، فقد قالوا : " الصدق هو أن تصدق في موقف لا يُنجيك
فيه إلا الكذب " . عند ذلك يكون الصدق لله . نويت أن أحج لله ، نويت أن أخطب
لله ، من تكلم أمام الناس يريد غير الله أفسد الله عليه أمره ، من تكلم يريد
شَدَّ الناس إليه بكلامه وغاب عنه الله ، كان كلامه تِرَةً عليه وعلى أهله .
حقق النية لله في كل أعمالك ، ثم بعد ذلك قل : اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك
توكلت ، وعمِّق في داخلك هذا الذي أردده في بعض الخطب باستمرار : لئن لجأ غيري
إلى غيرك فأنا الذي لا ألجأ إلا إليك ، ولئن اعتمد غيري على غيرك فأنا الذي لا
أعتمد إلا عليك ، ولئن لاذ غيري بغيرك فأنا الذي لا ألوذ إلا بك .
أيها الحاج : وأنت تنطلق من بيتك تريد الإحرام ، فلا تلتفت إلى أحد سوى الله ،
فإني أريد منك حين تحج أن يكون الحج دورةً تدريبية على تعميق الإخلاص لله ،
وتعميق الطاعة الولاء لله .
أيها الإخوة : إن أهل الباطل قد وضعوا جانباً أهل الحق في تفكيرهم ، فما بال
أهل الحق يضعون أهل الباطل أصناماً أمام أعينهم ؟! لسان حالهم يختلف عن لسان
حال موسى عليه السلام الذي قال : ( وعجلت إليك ربي لترضى ) ، أما لسان حالنا :
وعجلت إليك ربي ليرضى عنا فلان أو فلان ، فإن لم يرضَ فلن أعجل إليك ربي .
أيها الناس كما قال سيد الناس صلى الله عليه وآله وسلم : " إن دماءكم وأموالكم
وأعراضكم حرام عليكم " اقرؤوا خطبة حجة الوداع لتشاهدوها قطعة دستورية ندعو
كلَّ العالم من أجل أن يتبناها .
أيها الناس من غير المسلمين : نريد بإسلامنا لكم الخير ، ولكنكم عن حسن نية أو
سوء نية حينما تدعون إلى غير الإسلام فلا تريدون بنا الخير . فيا أمة الإنسان
حيث كان : إلى الإسلام ، والإسلام إخلاص النية لله عز وجل ، والانقياد والطاعة
والولاء لله ولله وحده . فيا ربنا قوِّ فينا إخلاصنا لك ، وقوّ فينا الولاء
لحضرتك ، والطاعة لك ، وخير ما تقوله في مثل هذه الأيام أن تردد كما قال صلى
الله عليه وآله وسلم كما في الترمذي وأبو داود : " الحج هو العجُّ والثج "
والعج هو التلبية ، وأنت الذي لم تحج قل إن ذهبت إلى عملك لبيك اللهم لبيك ،
لبيك لا شريك لك ، لا شريك لك في كل المجالات ، لا شريك لك من قريب أو بعيد ،
لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك . اللهم حققنا بالإخلاص في
نياتنا ، وبالإخلاص والطاعة لك في أعمالنا ، أنت حسيبنا وأنت مقصودنا ، نعم من
يسأل أنت ، ونعم النصير أنت . أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات