أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون :
ها نحن نعيش أشهر الحج ، وكما تعلمون
فإن أشهر الحج هي : شوال ، وذو القعدة ، والعشر الأوائل من ذي الحجة . فنحن في
أشهر الحج كما سماها القرآن الكريم
﴿
الحج أشهر معلومات ، فمن فرض فيهن
الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج
﴾
البقرة : 197
يسأل الإنسان نفسه عن غايات هذه الفريضة ، أو عن ثمار هذه الفريضة أو عن دروس
هذه الفريضة ، فلقد أنهى صيام رمضان منذ شهرين ، وقد علم أن غاية الصيام تقوى ،
وأن ثمرة الصوم تقوى ، فالله عز وجل قال
﴿
كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون
﴾
البقرة : 183
فإذا كانت غاية الصيام والصوم تقوى فما غاية الحج ؟ وما ثمرة الحج ؟ عندما يقرأ
الإنسان المسلم القرآن الكريم والأحاديث الشريفة المتعلقة بالحج ، وعندما يطلع
على حجة النبي عليه وآله الصلاة والسلام يدرك أن للحج غايات ، أي لفريضة الحج ،
وهذه الغايات كما عددتها ورأيتها سبع فوائد نجنيها من فريضة الحج ، أو سبع
ثمرات ، أو سبع غايات عليك أن تتحقق بها إذ تحج ، وإذ تنهي أعمال الحج .
أما الفائدة الأولى : فتمكين النية الخالصة لله . الحج يعلمك تمكين النية
الخالصة لله عز وجل ، يقوي فيك الإخلاص لله ، فالله عز وجل قال :
﴿
وأتموا الحج والعمرة لله
﴾
البقرة : 196
وكما نعلم فإن الحج يعني القصد إلى معظم . أي أن تتوجه إلى الله عز وجل من خلال
قيامك بالشعائر .
أما الفائدة الثانية : فتثبيت الطاعة والانقياد لله عز وجل : ألا ترى أن الحج
فرائضه غير مُعَلَّلة بمصلحة قريبة لمن يقوم بالحج . فرائضه وأركانه وسننه غير
معللة بمصلحة قريبة للحج ، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن من ثمار الحج
تثبيت الطاعة والانقياد لله عز وجل . أنت تطوف حول البيت ما المصلحة القريبة من
هذا الطواف ؟ ما المصلحة القريبة التي تعود عليك من السعي بين الصفا والمروة ؟
ما المصلحة القريبة من الوقوف في عرفات في جزء من نهار وجزء من ليل ، فما
المصلحة اللهم إلا أن تثبت انقيادك لله ، ويدعم هذا التثبيت للانقياد التلبية ،
ورد في الترمذي وابن ماجه أن النبي عليه وآله الصلاة والسلام سئل عن أفضل الحج
فقال : " العَجُّ والثَّجُّ " والعج هو التكبير ، والثج هو الذبح . يدعم تثبيت
الانقياد لله عز وجل تلبيتك ، فتقول لبيك اللهم لبيك ، لبيك لأنك الله ، لبيك
لأني عبدك ، لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك
والملك ، لا شريك لك . يدعم تثبيت الانقياد التلبية ، لبيك وسعديك ، لبيك لأنك
الله ، لأني عبدك ، لبيك لأنك الخالق ، لأني المخلوق ، لبيك لأنك القيوم الصمد
، ولأني المحتاج إليك ، لبيك لأنك الغني المطلق ، ولأني الفقير .
الفائدة الثالثة : حفظ الجوارح من الآثام والخطايا والذنوب
﴿
فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج
﴾
البقرة : 197
وها هو النبي عليه وآله الصلاة
والسلام كما جاء في صحيح الإمام مسلم وسواه يقول : " من حج فلم يرفث ولم يفسق
رجع كيوم ولدته أمه " احفظ جوارحك في الحج ، احفظ لسانك ، احفظ نفسك من المعاصي
والآثام ، لأنك تثبت انقيادك لربك ، تقول له لبيك ، فكيف تقول له بلسانك لبيك
وتخالف جوارحُك لسانَك ، وتخالف أفعالك أقوالك ، هل تريد أن تكون متناقضاً تقول
باللسان لبيك ، وإذ بأفعالك لا تعترف على لبيك لا من قريب ولا من بعيد ، أيجوز
هذا ؟!
فائدة رابعة : رؤية التيسير وتجليته ، الدين هذا دين يسر ، والرسول عليه وآله
الصلاة والسلام دعانا إلى أن نكون ميسرين : " يسروا ولا تعسروا ، بشروا ولا
تنفروا " ديننا دين يسر ، إنما بعث رسول الله ليتمم مكارم الأخلاق ، ومن أعظم
مكارم الأخلاق التيسير على الناس ، وفي الحج تجلية لتيسير ويسر هذا الدين ، فقد
ورد في البخاري أن النبي عليه وآله الصلاة والسلام ما كان يسأل عن أمر إلا
ويقول : " افعل ولا حرج " ولكن أريد أن أحترز فأفرق بيت التيسير وبين الجهل ،
هنالك فرق كبير بين أن تفعل من غير علم وتقول : افعل ولا حرج ، وبين أن تفعل
وقد سألتَ أهل الذكر عن علم وبينة ، التيسير رخصة من فقيه ، أما أن تحج معتقداً
أو ظاناً أن التيسير انفلات وانفلاش وابتعاد وعمل لما هو يسير لا يستند إلى ذكر
وعلم واطلاع فهذا ليس بتيسير .
الفائدة الخامسة : تعميق الأخوة مع المسلمين . ستلقى أجناساً مختلفة عن جنسك
هناك ، ستلقى مسلماً آتياً من الشرق ، وآخر آتياً من الشمال ، وثالثاً آتياً من
الجنوب ، ورابعاً آتياً من الغرب كلهم إخوتك
﴿إنما
المؤمنون إخوة﴾
الحجرات : 10
يقول عليه وآله الصلاة والسلام : " المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يُسلِمه
ولا يحقره " هؤلاء الملايين إخوتك ، فاشعر بهذا واستشعر بهذا ، كلهم إخوتك ،
عَقَد الأخوة ربك الذي قصدته في حجك ، هذا أخوك ، ولأخيك حقوق عليك ، ولأخيك
علاقة وطيدة لك ، انصحه ، أحبه ، اسعَ من أجل أن تتكاتف معه ، وأن تكون معه ولو
كان سيبعد عنك " كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضاً "
﴿
إنما المؤمنون إخوة
﴾
الحجرات : 10
تعميق الأخوة بينك وبين المسلمين .
الفائدة السادسة : تقوية الارتباط بسيدنا وحبيبنا محمد عليه وآله الصلاة
والسلام ، وما أحوجنا إلى تقوية ارتباط المقود بالقائد ، ارتباط المسود بالسيد
، ارتباط المتبوع بالتابع ، ارتباط التابع بالمتبوع ، ارتباط الأتباع بسيدهم
وقرة عيونهم محمد عليه وآله الصلاة والسلام . ففي الحج تقف حول الكعبة فتتذكر
أن نبيك المصطفى وقف هنا ، وفي الحج تطوف وتسعى وتتذكر أن النبي عليه وآله
الصلاة والسلام سعى ، وفي الحج تقف في عرفات فتذكر التاريخ العظيم ، تذكر تاريخ
سيد الكائنات لترى في هذا التاريخ ضياءً انبثق من هناك ، من تحت أقدام هذا
النبي الكريم ، من تحت أقدام هذا السيد العظيم ، من الذي وقف على جبل الرحمة
وازدلف إلى المزدلفة ، من الذي رمى الشيطان بالحجارة ، من الذي وقف وطاف حول
البيت ، من هذا الذي ثوى في النهاية في المدينة المنورة ، في روض لا أشرف ولا
أعظم من تلك البقعة التي ضمت هذا الجسد الطاهر ، وهذا الجسم الوضيئ المشرق ، في
الحج تقوية ارتباط بهذا النبي إبَّان أفعال الحج وعند الزيارة ، عندما تقف أمام
روضه الشريف فتقول : الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله ، الصلاة
والسلام عليك يا خير خلق الله ، بلغت الرسالة ، أديت الأمانة ، نصحت الأمة
﴿
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله
تواباً رحيماً ﴾
النساء : 64
يا خيـر من دفنت فيا القاع
أعظمه فطـابت من طيبهن القاع والأكمُ
نفـسي الفـداء لقبـر أنت ساكنه فيـه العفـاف وفيه الجود والكرمُ
قوُّوا ارتباطكم بنبيكم ، أعلنوا ذلك
في الحج ، وبعد الحج وقبل الحج ، صلوا على نبيكم ، أكثروا من الصلاة عليه ،
علموا أولادكم الصلوات الإبراهيمية ، علموا أولادكم الإكثار من الصلاة على
الحبيب محمد ، حتى يعايش أبناؤكم وطلابكم وتلامذتكم نبيكم عليه وآله الصلاة
والسلام .
الفائدة السابعة : الدعاء . في الحج تدعو ، في الطواف تدعو ، عند السعي تدعو ،
في عرفا ت تدعو ، في المزدلفة تدعو ، في كل مكان هناك ، عند الإحرام تدعو ، عند
خلع الإحرام تدعو ، في كل لحظة ، الدعاء لا يفارق لسانك ، ولا يفارق خلدك .
تعويد على الدعاء ، ونحن بحاجة إلى الدعاء دائماً وأبداً . قال لي البارحة رجل
: أليس الله قد قال : ( ادعوني أستجب لكم ) فلماذا ونحن ندعوه فلم يستجب ربنا
لنا فينصرنا ؟ قلت له : إن أسباب النصر أو من جملة أسباب النصر الدعاء ، فأنا
لا أريد أن أتحدث عن عدم قبول الدعاء ، سأفترض أن الدعاء مقبول ، ولكن الدعاء
ركن من أركان استدعاء النصر ، من أركان استدعاء الشبع ، ركن من أركان استدعاء
الخير المرجو وليس كل الأركان . لن أفترض بأن الدعاء غير مقبول ، أنت تريد أن
تقوم بصنع طعام مؤلف من عدس وبرغل وسواه ، لكن عنصراً من هذا الطعام لا يكفي
وحده من أجل الحصول على هذا الطعام . دعونا والدعاء مقبول ، لكن من أجل النصر
هنالك دعاء وهنالك إعداد وهنالك عمل ، هنالك أركان أخرى ولا يتحقق الكل بتحقق
الجزء ، ولا يتحقق المجموع بتحقق بعض الأفراد ، لذلك نحن نلح على الدعاء لأنه
ركن في كل عمل مطلوب ، أو ركن في كل قضية مستدعاة مطلوبة ، لكن الدعاء ليس كل
الأمور ، ومن هنا لا أريد أن نهمل الدعاء ، فإننا إذ أهملناه ، ونحن نرى أن
الأمر الذي ندعوه أو ندعو من أجله لا يتحقق لا يعني هذا أن الأمر الذي ندعو
إليه لم يتحقق ولم يأخذ طريقه ، وإنما حصلنا من هذا الأمر ركناً من أركانه ولا
أريد أن نهمل هذا الركن أو نعدل عنه ، ولكن أريد أن نضم إلى هذا الركن الأركان
الأخرى ، أن نضم إلى الدعاء الإعداد من أجل النصر ، الطعام من أجل الشبع ،
الماء من أجل الري ، وهكذا دواليك . الحج يعلمنا تعويد الدعاء والاستمرار لأنك
ستقضي فترة هناك ، ستقضي هذه الفترة وجل أوقاتك وقد ملئ دعاء ، في الليل ، في
النهار ، في عرفة ، في المزدلفة ، عند الرمي ، عند الإحرام ، عند الطواف ، عند
السعي ، في كل ركن ، في كل سنة ، في كل واجب تدعو ربك عز وجل .
إذا تحققت هذه الغايات حصل القبول ، إذا تحققت بهذه الغايات حصل القبول وجاء
الجواب من الله عز وجل كما جاء في الحديث : " أفيضوا عبادي مغفوراً لكم " لا
تنس أيها الحاج أن تحاسب نفسك على هذه الغايات والثمار ، هل حصلتها ، هل تحققت
بها ؟ هل مكنت الإخلاص ، هل قويت وثبت الانقياد لله ، هل حفظت جوارحك ، هل كنت
على تيسير أو داعي تيسير ويسر في الحج ، هل قويت ارتباطك بالنبي عليه وآله
الصلاة والسلام ، هل كنت أيها الحاج من الداعين لله عز وجل ؟ إذا كنت كذلك
فاعلم أيها الحاج بأن الله سيغفر لك ذنبك وسيسجلك في عداد المقبولين ، ومن
قُبِل حجه رجع كيوم ولدته أمه ، هكذا قال الصادق المصدوق . اللهم إنا نسألك
حجاً لا رياء فيه ولا سمعة ، نسألك حجاً يحقق ثمراته ، نسألك حجاً يحصد الحاج
من حجه دروسه ويتقن دروسه ، نسألك يا ربنا حجاً مقبولاً ، وسعياً مشكوراً ،
ونسألك لمن لم يحج أن تجعله في عداد المقبولين ، في كل وقت يحتاج ويسعى ويسألك
فيه ، اللهم أيدنا لذلك ، نعم من يسأل أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول
وأستغفر الله .
التعليقات