أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون :
روى أصحاب السنن والإمام أحمد أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " الحج عرفة " وأنا أقرأ هذا الحديث قلت
في نفسي : تُرى ما الحكمة من أن يكون الحج عرفة ؟ وأنتم تعلمون أن للحج ثلاثة
أركان : الأول الإحرام ، والثاني الوقوف بعرفة ، والثالث طواف الإفاضة . لكن
الحديث يقول : " الحج عرفة " لماذا كان هذا الركن هو الأهم من بين هذه الأركان
فَحَصَرَ الحج به وحُصِر بالحج ، فقال عليه وآله الصلاة والسلام : " الحج عرفة
" ؟ دخلت عالَمَ اللغة وأنتم تعلمون أن الحج يعني القصدَ إلى معظم ، فإذا كان
الحج في اللغة يعني القصد إلى معظم تكون المعادلة كما يلي : القصد معرفة ، عرفة
( العين والراء والفاء والتاء ) هي اشتقاقٌ من اشتقاقات العرفان والمعرفة ،
فالقصد عرفة ، القصد أن تعرف ، وإذا كان قصدك في أي شيء أن لا تعرف ، أو أن
تكون جاهلاً في هذا الذي تقصده فقصدك عند ذلك عبث لا قيمة له . أنا أقول للحاج
ولغير الحاج ، للحاج بشكل خاص : أنت حججت أي قصدت ، فما المراد من قصدك ؟
المراد من قصدك أن تعرف ، فإذا رجعت من حجك ( من قصدك ) وكنت كما كنت عليه قبل
الحج ، فحجك لا أقول عبثاً ، وإنما سقطت الفريضة لكنك لم تحصل المراد ، أما إذا
حججت فقصدت وعرفت ، فعند ذلك يكون حجك مبروراً وتندرج تحت قول النبي صلى الله
عليه وآله وسلم حين قال : " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ولكن ما الذي
تعرفه أيها الحاج ؟ ما الذي ستزداد معرفتك به ؟
الحج عرفة : ينبغي على من حج وعلى من يعايش الحج – حتى لا نخرج عن دائرة الخطاب
– أن تزداد معرفته بربه ، أن تزداد معرفته بربه وبالتالي يتقوى توحيده ربه ،
وإذا قوي توحيدك وَحَّدت جهة المؤثر فلا معطي إلا الله ، ولا ممسك إلا الله ،
ولا مميت إلا الله ، ولا شافٍ إلا الله ، ولا خافض إلا الله ، ولا رافع إلا
الله . عند ذلك يتحصل في داخلك ذوق ويقين لحديث النبي عليه وآله الصلاة والسلام
القائل : " يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك
، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت
على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن
يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف "
تزداد معرفتك بربك فيتقوى توحيدك ، وإذا تقوَّى توحيدك وحَّدت جهة التأثير ،
فلا يؤثر إلا الله ، واعلموا أنه لا يضر ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، ولا
يخفض ولا يرفع إلا الله . الحج عرفة : تتقوى وتزداد معرفتك بأخيك المسلم ، وإذا
عرفت أخاك المسلم تحققت بعنوان العلاقة بينك وبينه
﴿
إنما المؤمنون إخوة
﴾
الحجرات : 10
وإلا ما الفائدة من أن تجتمع في صعيدٍ واحد بمليوني شخص أو بثلاثة ملايين شخص ،
ما الفائدة إن لم تكن ازدياد معرفة بإخوتك إذاً لم كان هذا الاجتماع سوياً ؟ لم
كانت عرفة ، لِمَ كان الاجتماع في وقت واحد ؟ فإذا ما تقوَّت معرفتك بإخوتك
تحققت بالأخوة ، وإذا ما تحققت بالأخوة وتقوت الأخوة عندك عرفت حقوق الأخوة ،
وحقوق الأخوة قالها سيد الأنبياء والبشر محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حجة
الوداع ، في نفس الموقف ، في عرفات ، وقف أمام أكثر من مائة ألف شخص على أقل
الروايات ، هناك رواية بأنه كان واقفاً أمام مائة ألف ، ورواية أخرى أنه كان
واقفاً أمام مائة وسبعة عشر ألفاً ، ورواية تقول : كان واقفاً أمام مائة
وثلاثين ألفاً ، في هذا الموقف قال : " المسلم أخو المسلم " هل تعود من الحج
وقد تحققت بهذا وشعرت بأخوة ، تشعر من قلبك عبر نبضاته لتلامس قلب أخيك المسلم
الآخر ، أم أنك عُدتَ كما ذهبت مُحمَّلاً بشيء من الضغائن وشيء من الحقد وشيء
من الحسد وشيء من التفرقة لأن أخاك ليس على مذهبك فهو ليس أخاك هكذا تظن ، إذاً
لم تحج وإن وقفت بعرفة فقصدت من غير معرفة وبالتالي كان قصدك عبثاً " المسلم
أخو المسلم لا يظلمه ، لا يسلمه ، لا يحقره ، كل المسلم على المسلم حرام ، دمه
وماله وعرضه " يا هؤلاء ، يا أيها المسترخصون لدماء المسلمين من المسلمين - ولا
أخاطب غير المسلمين – تذكروا أن الحج عرفة ، وتذكروا أن المسلم أخو المسلم ، يا
أيها المسلمون الذين تريقون دماء المسلمين : اتقوا الله ، يا أيها المسلمون
الذين تظلمون المسلمين : اتقوا الله ، يا أيها الأغنياء الذين تظلمون الفقراء :
اتقوا الله ، يا أيها القادة الذين تظلمون الشعوب : اتقوا الله . الحج عرفة ،
يا أيها الناس ، يا أيها المسلمون : اتقوا الله ، وإلا فحجكم وإسلامكم قصد من
غير غاية نبيلة ، وبالتالي قصدكم عَينُ عبثكم ولا قيمة له " لا يظلمه ، لا
يسلمه ، لا يحقره ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " إياك وتحقير أخيك
المسلم مهما كنت ، إياك واستصغار مسلم أياً كنت ، مهما كنت . عرفة : تزداد
معرفتك بربك ، فيتقوى توحيدك ، فتوحِّد جهة التأثير ، تزداد معرفتك بإخوتك
فتتحقق بالأخوة ، وتتقوى الأخوة ، وإذ بك تعطي حق الأخوة .
الحج عرفة : تزداد معرفتك بنفسك ، من أنت ؟ وبالتالي تبحث عن انتماء يوجدك ، إن
قلت عن نفسك إنك إنسان من غير انتماء فأنت كتلة ، أنت مادة ، أنت كتلة لحمية
عظمية معدنية قيمتها في عالم المادة لا تساوي بضعة دنانير ، ولكن الإنسان
بانتمائه ، وإذا كان الإنسان بانتمائه فإلى مَنْ تنتمي ؟ تزداد معرفتك بنفسك من
أجل أن تحدد انتماءك وأن تقوي انتماءك ، لمن تنتمي ؟ أتنتمي لإنسان مثلك خاض
غمار الفساد لتكون له تابعاً ؟ أتنتمي لمبدئٍ وضعي فتسمَّى باسمه ، وهذا المبدأ
الوضعي أثبتت الأيام أنه لا قيمة له . قل في عرفة : أنا مسلم ، أنا مؤمن ، أنا
تابع أنتمي لرب العزة ، أنا عبدٌ لله ، هذا الانتماء يجب أن يتقوى في عرفات
لكنه نتيجة لازدياد معرفتك بنفسك ، ورضي الله عن الإمام الشافعي يوم أَحَسَّ
بهذا الانتماء المشرِّف ، قال :
ومما زادني شرفاً وعزاً
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرت أحمد لي نبياً
﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ﴾ فاطر : 15 هذا هو الانتماء ( قل يا عبادي ) هذا هو الانتماء
أنا عبدٌ حَجَرتُ في الحب عِتقي لو يُنادى عليَّ في الأسواقِ
وهذا أشرف انتماء وأعظم انتماء
وأَجَلُّ انتماء . عرفات : تزداد معرفتك فيها بنفسك لتحدد انتماءك ، وانتماؤك
لله ، للذي خلق السموات والأرض ، للذي بسط الأرض ، للذي رفع السماء ، للذي خلقك
من تراب ، للذي سواك رجلاً ، للذي خلقك فسواك فعدلك في أيِّ صورة ما شاء ربك ،
﴿ يا أيها الإنسان ما غَرَّك بربك الكريم ﴾ الانفطار : 6 فانتسبت لغيره ! ﴿ ما
غرك برك الكريم . الذي خلقك فسوَّاك فعدلك . في أي صورة ما شاء ركبك ﴾ الانفطار
: 6 - 8 انتمَِ لربك وَقَوِّ هذا الانتماء وقل : يا رب على انتمائي لك لا
أساوَم ، على انتمائي لك أسألك أن تحييني وأن تميتني على ذلك ، على عبوديتي لك
أسألك أن تجعلني ثابتاً وأزداد يا رب العزة ، ولذلك : الحج عرفة تزداد معرفتك
بربك فيقوى توحيدك ، فتوحد جهة التأثير ، تزداد معرفتك بإخوتك فتتحقق بالأخوة
فتعطي الأخوة حقها ، تزداد معرفتك بنفسك فتحدد انتماءك وتقوي انتماءك ، وخلاصة
تلك المعارف قولٌ صادق ينبعث من الداخل تقول فيه : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا
شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك .
هذا هو خلاصة وعصارة هذه المعرفة قول صادق ينبعث من داخلك ، من قلبك ، من
شرايينك ، من أضلعك ، من ذراتك : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن
الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك . لا نشرك في الظاهر ولا في الباطن أحداً
معك ، لبيك فنحن عبادٌ لك ، لبيك فنحن نوحِّدك ، لبيك فنحن إخوة لمن يلبونك
نفرح لفرحهم ، ونترح لترحهم ، ونُسَرُّ لسرورهم ، ونحزن لحزنهم ، ونعيش حالة
مشتركة ، نعيش الشعور الواحد ، أين ذلك الشعور ؟! لقد رُبِّينا في مدارسنا على
أن الواحد منا يتحد مع أخيه الآخر في البلد الآخر العربي والمسلم بالأمل والألم
المشترك ، فلقد تعلمنا في الصف السادس أن مقومات الوحدة العربية والإسلامية :
الآمال والآلام المشتركة ، فهل نشعر بآلام وآمال مشتركة ، هل يشعر الحاكم بآلام
وآمال شعبه ؟ هل يشعر الشعب بآلام وآمال بعضه ؟ هل يشعر الغني بآلام وآمال
الفقير ؟ هل يشعر القوي بآلام وآمال الضعيف ؟ أسأل الله أن لا نكون متفرقين
أيدي سبأ ، وأن لا نكون من الذين يتكسرون آحاداً :
تأبى الرماح إذا اجتمعن تفرقاً وإذا افترقنَ تكسَّرت آحاداً
ولذلك ، ومن هذا المنطلق نتوجه
بالتهنئة إلى إخواننا الحجاج ونقول لهم : أنتم إخوتنا فادعوا لنا الله في أن
يجمعنا على عرفة المادة ، على جبل عرفة ، وعلى عرفة المعنى ، على معرفة ربنا ،
وعلى معرفة بعضنا وعلى معرفة ربنا ، نتوجه إلى الحجاج بالتهنئة ، ونتوجه إلى
إخوتنا في لبنان بالتهنئة ، إلى إخوتنا في المقاومة الإسلامية بالتهنئة من أجل
تحرير الأسرى ، وقد سمعتم خبر ذلك أمس ، نتوجه إلى إخواننا في المقاومة
الإسلامية بالتهنئة ونقول لهم : بوركت سواعدكم ، بورك شرفكم ، بوركت أيديكم
وجهادكم ونضالكم وكفاحكم ، بوركتم . نتوجه بالتهنئة إلى لبنان ، إلى كل الشعب ،
إلى الأسرى ، إلى حزب الله ، بكل أركانه ، بكل مجاهديه ، نقول لهم : حياكم الله
، وفقكم الله ، وزادكم الله ، ونتوجه إلى كل المسؤولين في عالمنا العربي
والإسلامي من أجل أن يختطوا هذا الخط ، خط المقاومة ، في تحرير القدس ، في
تحرير فلسطين ، ونتوجه إلى كل حكام العرب من أجل أن يكونوا من الذين يرعون حق
الأخوة في عدم الظلم ، في عدم التسليم ، في عدم القهر والاحتقار ، أدخلوا
الفرحة كما دخلت على قلوب أهالي الأسارى ، أدخلوها على قلوب أناس ينتظرون مثل
هذه الفرحة ﴿
وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم
﴾
النور : 22
ولنبدأ صفحة جديدة في وطننا هذا متعاونين ، نضع أمام أعيننا توحيد ربنا ، ونضع
أمام أعيننا أخوة نعقدها فيما بيننا ، ونضع أمام أعيننا انتماء لربنا . نتوجه
بالتهنئة لتلك الثلة المؤمنة التي قامت بالعملية الاستشهادية يوم أمس ، نقول
لها : بوركت سواعدك أيضاً أيتها الفئة المؤمنة ، أيها المجاهدون في فلسطين ،
بوركتم جميعاً يا إخوتنا في فلسطين ، يا إخوتنا في لبنا ن ، يا إخوتنا في جبل
عرفة ، يا إخوتنا في كل مكان ، يا إخوتنا في أرض العراق ، وإني أقول لهم :
توجهوا إلى الله بصدق ، إلى إخوانكم بصدق ، إلى أنفسكم بصدق حتى تكون المقاومة
خالصة لوجه الله ، وحتى تصيبوا في مقاومتكم شرع الله عز وجل ، حتى لا تكونوا من
المخالفين ، وفقكم الله ، وأيدكم الله .
وأنت أيتها الصهيونية المجرمة أسأل الله عز وجل أن يُرِيَك يوماً يجتمع فيه
المسلمون ليحاسبوك حساباً عادلاً ، وأظن أن حسابك العادل هو إخراجك من فلسطين
لأن فلسطين ليست أرضك ، لأن فلسطين هي أرض العرب والمسلمين ، أسأل الله أن يجمع
شمل المسلمين على ما يرضيه يا رب العالمين ، نعم من يسال أنت ونعم النصير أنت ،
أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات