آخر تحديث: الثلاثاء 03 ديسمبر 2024      
تابعنا على :  

خطبة الجمعة

   
نفحات من الحج

نفحات من الحج

تاريخ الإضافة: 2005/02/04 | عدد المشاهدات: 3186

أما بعد ، فيا أيها الإخوة المؤمنون :
المسلمون بلا شك إذ أسلموا لله عز وجل فهم في شرف ، والمسلمون إذ آمنوا بالله عز وجل فلا شك في أنهم في رحمة ، فالحمد لله على دين الله ، والحمد لله على الإيمان بالله ، ونسأل الله عز وجل أن يثبتنا على دينه ، وأن يحيينا على كلمة التوحيد ، وعلى الشهادة بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . الحمد لله على دين الإسلام وفرائضه ، الحمد لله على هذا الدين وأركانه ، الحمد لله على الصلاة ، والحمد لله على الزكاة ، والحمد لله على الصيام ، والحمد لله على الحج ، الحمد لله أن فرض علينا الحج . الحمد لله والشكر لله أن وفقني ربي عز وجل لأداء مناسك الحج . هذا الركن العظيم من أركان ديننا ، لا أريد أن أَقُصَّ تفاصيله عليكم ، لكنني وقد عُدتُ من أداء مناسك هذا الركن العظيم أحببتُ أن أحكي لكم بعض ما سجلته بيني وبين نفسي ولا أريد أن أحدثكم بكل الذي جاش في صدري لأن الأمر سيطول ، لكنني سأقتصر على بعض ذلك .
أولاً : توجهت إلى العلي القدير هناك وقلت لمن حولي : علينا أن ندعو للمسلمين ، كل المسلمين ، وليكن الدعاء : اللهم رُدَّ المسلمين إلى دينك رداً جميلاً . ودَعَونا الله بذلك ، ثم دعونا ربنا عز وجل فقلنا : اللهم الطف بالمسلمين فيما جرت به المقادير ، واصرف عن المسلمين السوء والداء والشر وكيد الأعداء ، اللهم اجمعهم كما جمعت هؤلاء الحجاج حول بيتك العتيق ، اجمعهم على كلمة التوحيد وعلى كتابك الكريم ، وعلى اتّباع نبيك المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : كنت أدعو في مكة المكرمة لنفسي ولإخواني ولمن أحب ولمن أعرف ، ولرواد هذا المسجد ولكل المسلمين ، كنت أذكر ذلك بالاسم لمن عرفت اسمه ، وكنت أذكر هذا الدعاء بالصفة لمن عرفت وصفه ، أو بالجملة لمن عرفته بالجملة ، كنت أقول في مكة المكرمة : اللهم بِسِرِّ فاتحة الكتاب ، وبسِّر سيد ولد آدم ، وبسرِّ سيد الاستغفار ، وبسرِّ ليلة القدر ، وبسرِّ يوم عرفة ، وبسرِّ الكعبة المشرفة ، وبسرِّ شهر رمضان أعطني سؤلي ، وامنحني فضلاً لا أحتاج معه لفضل من ذي فضل سواك يا رب العالمين . وكنت أدعو في المدينة المنورة قائلاً لي ولمن عرفت جملة وتفصيلاً قائلاً سبع كلمات : اللهم اشفني وعافني وارحمني واغفر لي وأعزني وسدِّدني وثبتني يا رب العالمين ، ولكل المسلمين . ويوم صعدت عرفات سجلت هذه الكلمات التي أحببت أن أقرأها عليكم :
يا لروعة عرفات ! يومَها لا يُنسى ، وعبادتها لا يُشبع منها ، فاللهَ الله يا عرفات ، اشهدي لنا عند ربكِ إذ وَلَجنا رِحابك ودَلَفنا إلى ترابك وافترشنا صعيدك ، اشهدي لي يا عرفات على الأقلّ بأني مسلم مؤمن ، أودعتُ في أثيركِ الطاهر كلمة التوحيد وشهادة حقّة بالرسول الحق محمد في رسالته وبعثته ، وليتكِ يا عَرَفة تذكرين دعواتي لوالديّ ولذريتي ولإخواني ولأَخواتي ولكل المسلمين ، وترفعينها إلى الباري عَبْرَ أنفاسٍ طاهرة ضُخَّت في سمائك من قلوبٍ راضية مطمئنة ، فبالله يا عرفات : لا تبخلي ، واحتملي إلحاحي ، فأنت مُلتَقى القلوب , ومَهْوَى الأفئدة ، ولستُ بمجاملٍ ما دام الله يقول في يومك الأغر : " أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له " فيا رب : هذه نفحة فلا تحرمني معانيها بِسِرِّ أهل السر ، وبسر من أَودَع عندك في هذا الموقف سراً .
ويوم انتقلنا لرمي الجمرات قلت :
لرمي الجمرات معانٍ ودلالات منها : أن يرمي الإنسان عنه ما عَلِق به من سوء ، فهنالك في الحج حَجَرٌ تُقبله وهو الحجر الأسود ، وحجر ترميه وهي الحَصِيَّات التي ترمي بها هذا المكان والذي يعبر عن الشيطان .
لرمي الجمرات معانٍ ودلالات منها : أن يرمي الإنسان عنه ما علق به من سوء ليعيده إلى الشيطان الذي وسوس له بذلك السوء ، وما الحَصِيَّات إلا رمزٌ للمعاصي والآثام وكلٌ بحسبِ وضعه وحاله فيما يخص المعصية ؛ حسب قانون ( حسناتُ الأبرار سيآتُ المقربين ) فها هو الإنسان يرد على الشيطان على شكل حصى أعمالاً يرفضها ، ويعاهد ربه على أن يتخلى عنها وعن أمثالها ، فيا ربَّ الأبرار والمقربين عهداً إليك ومعك أن تكون بيني وبين الشيطان مُرَافَضة ، فلا هو مني ولا أنا منه ، ولا وَسْوَستُه بفاعلةٍ معي ، ولا ضَعفي بمُسَهِّلٍ له عندي عملاً . يا ربّ : أبعد عنا شرَّ الشيطان ، وكيدَ الشيطان ، وشر أنفسنا ، وكيدَ كلِّ ذي كيد يبغي لنا ولديننا ودنيانا سوءاً ، إنك على كل شيء قدير .
ويوم وصلنا المدينةَ المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام قلت :
المدينةُ هادئةٌ وادعة ، جمالُها مُختَلطٌ بجلالها ، وأُنسُها ممتزج بهدوئها ، من دَخَلَها استراح - إي ورب الكعبة - ومن كان في المسجد النبوي فيها انزاحَ عن صدره هَمٌّ ولو كان كَزِنَةِ الجبال ، لا تكاد تُصدّق وأنت أمام قبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنك أمام جَدَثٍ ضَمَّ الجسد الأشرفَ ذاته ، هل النبي فعلاً هنا ، لا تكاد تصدق لأنك أمام أشرف جسد على الإطلاق ، وحين تُصدّق تبكي سروراً وحباً ووداً ، ومع السرور أحزان فراق ، وآمال لقاء في قادماتِ الدهر ، فهل يجمعنا الله جل شأنه به ، بالمصطفى يوم القيامة ، وقبل ذلك في الدنيا عَبْرَ رؤيا أو حلم ! للهِ أنت يا رسول الله : ما أعظمك ، ما أرحمك ، ما أجملك ، ما أكملك ، كن لي شفيعاً عند ربك ، وفي هذه الدنيا في عالم البرزخ . لا تنسني من لحظٍ تغمرني به . طبتَ حياً ، وطبت ميتاً ، وطابت سيرتك ، وطاب كلُّ يومٍ لك فيه ذكر وثناء ، فاللهَ اللهَ يا سيدي يا رسول الله في محمودٍ وإخوانه وإخوته وكل المسلمين ، الحظنا وانظر إلينا وسلم علينا ، فالصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله .
دُعينا إلى حفل غداء في مِنى عند مَلِك المملكة العربية السعودية ، ودَخَلنا هناك وانتظرنا حتى يخرج الملك وولي العهد ليلقانا ويسلم علينا ، ونحن ننتظر خطرت ببالي كلمات سجلتها ، وهاأنذا أقرؤها عليكم ، كتبت تلك الكلمات ونحن ننتظر ظهور مِلِك من ملوك الدنيا ، قلت :
ها نحن لدى ملك من ملوك الدنيا يخيم علينا الوقار والسكينة ، ننتظر لحظة الظهور ومن ثم السلام ، وحينها فيا حَظَّنا ويا سعادتنا - هكذا كنا نعيش - فإن تكلم الملك مع واحدٍ منا حتى ولو لم يعرفنا فالفرحةُ مُضاعَفة ، فإن عرفنا بعد أن عُرِّفنا عنده فيا طوبانا ، فما بالنا يا بني قومي لا نتذكر يوماً أو ساعةً نَفِد فيها على ملك الملوك وقيُّوم السموات والأرض ورحمن الدنيا والآخرة ، ها نحن أولاء قد حَضَّرنا أنفسنا للقاءِ مَلِكٍ في الدنيا ضعيف ساعات وساعات ، بَلْهَ أياماً قبل موعد اللقاء ، فلم عَزَفنا عن الموعد والاستعداد للقاء ربِّ الملوك ومليكهم ومالكهم ، وقد يكون هذا اللقاء مع ملك الملوك قبل اللقاء مع الملك . يا ربنا يا مولانا يا ملك الملوك اعفُ عنا ، فقد قَصَّرنا وأَسَأْنا ، ووفقنا لنستعد بما يرضيك لمقابلتك ، وأنا لا أشك في أنك ستتلقانا برحمة قَصرت عنها رحمات البشر قاطبة ، وهل رحمات البشر كلها إلا جزء صغيرٌ صَغير صَغيرٌ من رحمتك التي تَعظُم عن أن نصفها بالكبيرة ، فقد وَسِعَتْ كل شيء والسموات والأرض ، فيا رحمن ، يا رحيم ارضَ عنا ، وكن لنا قبل أن نلقاك ، وإذ نلقاك فأنت مليكنا الحق ، وأنت ربنا الذي لا ربَّ لنا سواك ، وأنت إلهنا الذي لا نعبدُ إلا إياه ، أتيناك في الدنيا فقراء فأغنِنا بك ، وجئناك في الآخرة أذلاء فأعزنا بالنظر إلى وجهك الكريم ، وأذقنا الحلاوة التي ما بعدها حلاوة ، ونحن نتلقى تجليات الرِّضى منك علينا ، يا ربنا - عاهدت ربي وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً لهذا - يا ربنا لن أستعين حين أستعين إلا بك فأعِني ، ولن أسأل إذ أسأل إلا إياك فأعطني ، ولن أستغيثُ إلا بك فأغثني ، آمنتُ بك رباً ، وبمحمد عبدك نبياً ورسولاً ، وبالإسلام ديناً ، وبالقرآن الكريم كتاباً مُنزَّلاً من عندك ، أحيني على هذا عزيزاً ، وأمتني على ذلك شهيداً حميداً ، واحشرني يوم الحشر وأنا بين الصديقين والشهداء والصالحين ، وأنا معهم وحسن أولئك رفيقاً ، وآخر كلامي ثناءٌ وتسبيح وتهليل وحَمْدٌ لك من كل ذرة ، وحمد لك ملء كل ذرة خلقتها وأبدعتها يا أكرم الأكرمين .
يا إخوتي : لا عِزَّ وجل إلا بالله ، ولا عبودية إلا لله ، فلنَعِش العبودية في كل لحظاتنا ، ولنعش الصِّلة مع ربنا أيها الإخوة إذ نَحُجّ وإذ لا نحج ، ولنتذكر أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأننا سنُسأَل عما جنينا ، وأن الله سيسألنا عن كل صغيرة وكبيرة ، كل واحد منا سيقف بين يدي ربه ، فما من أحد إلا سيلقى ربه ليس بينه وبينه ترجمان ، إلا سيسأله ربه عن صغيرة فَعَلها أو قالها ، وعن كبيرة فعلها أو قالها ، أو وسوست بها نفسه ، لا أريد أن أقطع بينكم وبين ربي صِلةَ الرحمة لكني أقول : ما من أحد إلا سيلقى ربه ، ولكنا سنلقاه فقراء ، وسيمنحنا رحمة وعطفاً ولطفاً ، ورضىً وهداية ، ومِنَّة وكَرماً ، وسيدخلنا بفضله وكرمه جنة عرضها السموات والأرض ، لأن الإنسان إذ يسأل ربه أن يميته وأن يُحْيِه على الإسلام ما دام يسأل ربه صادقاً مخلصاً ، فيا ربنا لا تُحِجْنَا إلا إليك ، ولا تجعل اعتمادنا إلا عليك ، وفقنا من أجل أن ننصر دينك ، وفقنا من أجل أن نتبع رسولك ، كن معنا من أجل أن نتخذ القرآن الكريم منهاجاً في حياتنا ، يا رب العباد يا إلهنا يا رجانا كن معنا ونحن نصلي حتى نصلي لك ، كن معنا ونحن نزكي حتى نزكي من أجلك ولمرضاتك ، كن معنا ونحن نصوم حتى لا نصوم إلا من أجل أن نبتغي وجهك الكريم ، كن معنا ونحن نقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى تكون شهادتنا خالصة لوجهك الكريم ، يا رب :

إن المشركين قد بَغَوا علينا
إذا أرادوا فتنةً أبينا
وقد تداعى جَمعُهم علينا
طِبْقَ الأحاديث التي روينا
فاردُدْهم اللهم خاسرينا

اجمع كلمة المسلمين ، وحد المسلمين ، يا ربنا وفق المسلمين في أن يكونوا صفاً واحداً ، كلمة واحدة ، وفِّق المسلمين من أجل أن يكونَ شبابهم شباباً طاهراً ، شباباً نظيفاً ، شباباً يسعى لمرضاتك ، وفق حكام المسلمين من أجل أن يكونوا على العدل قائمين ، ولكتابك ملتزمين ، وفق نساء المسلمين من أجل أن يكن طاهرات عفيفات ملتزمات بالإسلام يا رب العالمين ، وفق المسلمين في أن يلتزموا هذا الدين الحنيف ، ففي التزامهم لدينك الحنيف رفعتهم ، مجدهم ، عزهم ، سؤددهم ، يا رب أنت الذي اخترت لنا الإسلام ، فوفقنا لاختيار ما اخترته لنا ، لقد قلت يا ربنا : ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً المائدة : 3 اللهم اجعل الإسلام منتهى رضانا ، وغاية ما نصبو أن نفعله في دنيانا لنلقاك يا رب وأنت راضٍ عنا .
أكرر ما كنت أكرره في خطب سابقة في الدعاء : لئن لجأ غيري إلى غيرك فأنا الذي لا ألجأ إلا إليك فحققني بذلك ، ولئن اعتمد غيرك على غيرك فأنا الذي لا أعتمد إلا عليك فحققني بذلك ، ولئن لاذَ غيري بغيرك فأنا الذي لا ألود إلا بك فحققني بذلك يا رب العالمين .
جزاكم الله خيراً أيها الإخوة ووَفَّقكم أنتم خاصة لكل ما يحب ويرضى وجعلني وإياكم من عباده المصطفَيْن ، ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، نعم من يسأل ربنا ، ونعم النصير إلهنا ، أقول هذا القول وأستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق