لكل إنسان مرابع ومغانٍ ،
وما أروع المرابع والمغاني حينما تكون داعمة للمبدأ ، وما أنبلها حين يوجدها
المبدأ ذاته ، فإنها إن عُزلت عنه كانت شواخص لا تعني شيئاً ولقد ارتبطت
مرابعنا ومغانينا بتوحيدنا ربنا ومحبتنا نبينا ، فانبثق منها تاريخ مجد وسؤدد ،
وصدرت عنه أمة موَحدة قدّمت للناس جميعهم طريقاً سوياً وصراطاً مستقيماً .
وما الحج إلا زيارة واعية لتلك المرابع والمغاني ، يستجمع فيها المسلم نفسه
ليؤكد مع الله عهده ، ويدعم مع ربه ولاءه وعبوديته ، عنوانها تلبية : " لبيك
اللهم لبيك " ومحتواها قصد مفاده : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر
بينهم )
و ( إياك
نعبد وإياك نستعين )
. وأركانها إحرام وتلبية ، وطواف وسعي ، ووقوف ورمي .
أما الإحرام والتلبية : فرَوْعَةُ العبادة تجرد وبيعة ، خلعٌ للسِّوى ووَلاءٌ
للقيوم ذي الجلال والرفعة ، فما ثَمَّ إلا الباري وما ثم إلا من عنت له الوجوه
اختياراً واضطراراً صاحب العز والمنعة . فهل نُعَمِّم الإحرام في كل حياتنا
فنخلع ما يحمل نسبةً لغير الله ، ونلبس ما رضيه الله لنا خِلعة ؟
وأما الطواف : فهو ملازمة ، والسبعة من الأشواط رمز الدوام وعلامة الاستمرار ،
ولا بد للإنسان من محور يطوف حوله ، فاختر لنفسك في الطواف مَحَجّاً وملتـزماً
تحافظ عليه ، وما أظنك إذ تصدق في طلبك ، وتُعمل قلبك بعد عقلك ، إلا طائفاً
حول الكعبة المشرفة تلك التي تستقبل مرساة الإنسان في بحر الحياة لتجعله ثابت
الجنان ، قوي الفؤاد ، زكي الفكر واللسان .
ثم السعي بعد الطواف : إعلام الدنيا شرقاً وغرباً أن قد وجدت ما وعدني ربي حقاً
، فهل وجد ذاك الذي طاف بغير البيت العتيق حقاً ؟
والوقوف بعرفة : لأن عرفات ملتقانا ، ومكان حنيننا من حنايانا ، فيها يعرف
الإنسان حجمه ويدرك حاجته ويعلم فاقته ، ومن كل ذراته تتصاعد أنسام اعتراف ،
ترتفع فلا يعرف مداها ، تنشر على الكون عبقاً يشمّه أهل الموقف وغيرهم ، أريجه
وعطره تجليات : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله )
.
والرمي : هو البراءة من الشر وأهله ، والسوء ودعاته ، والفساد ورواده ، وما
البراءة تلك التي تعني الابتعاد والاجتناب فحسب ، لكنها الابتعاد والإقصاء ،
وإذ نرمي هنا متبرئين من هذا الذي يسمّى " الشيطان " ممثل الشر والسوء والفساد
، فمن أجل متابعة الرمي والإبعاد والإقصاء في حياتنا كلها ، وحصاة الخير
بأيدينا نحملها دائماً ونرمي بها شيطاننا ومن والاه ، ونعلن ونحن نمسكها تمسكنا
بشريعة الرحمن وهديه ، ومن لم يرمِ رُمي ، فـ : " ارموا بني إسماعيل فإن أباكم
كان رامياً " .
فاللهم اجعلنا قائمين بأمرك ، داعين إلى صراطك ، واجعلنا مفاتيح للخير مغاليق
للشر . يا أرحم الراحمين.
د. محمود عكام
1/12/1422
التعليقات