تاريخ : 1996
النورس : كلنا
يعلم أن الإسلام حثَّ على طلب العلم ، بل جعله فريضة على كل فرد . فأي فروع
العلم قصد بذلك ؟ وهل هو العلم الديني فقط ، كما يتصور البعض ؟
د. عكام : العلم مقترن بالعمل ، وهو أساسه وركيزته ، وحيثما كان
الأمر بالعمل ، كان الأمر بالعلم ، وإذا كنّا مستخلَفين على الأرض إصلاحاً
ورعاية وقيوميّة ، فالعلم الذي يمكّننا من ذلك فرضٌ علينا جميعاً ، كالعمل
، نتقاسمه اختصاصاً وننهض به أمراً من الله تعالى ، لا تفريق في الوجوب بين
اختصاصٍ وآخر . وليس العلم المفروض محصوراً بما يقوّم العبادات الصّرفة من
صلاة وزكاة وحج ، وإنما هو عام شامل لكل العمل الإصلاحي العام ، في مختلف
مجالات الحياة ومستوياتها وصُعدها . وعلى هذا ؛ فليس هناك علم ديني ، وآخر
غير ديني مادام الدين شاملاً تاماً كاملاً ، له إشعاعات على كل ما يمكن أن
يصدر عن الإنسان ، من أجل أن يعمر الأرض ، أو يهيئها للإنسان المنشود ،
فالعلم فريضة على كل مسلم ، حيث كانت رسالة المسلم .
النورس : هل يصيب من يحاول تفسير بعض الظواهر الطبيعية ، والحقائق
العلمية المكتشفة حديثاً ، تفسيراً دينياً اعتماداً على القرآن الكريم
والسنة النبوية ؟ وماذا لو أن نظريات جديدة دحضت النظريات السابقة ؟
د. عكام : القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد، ودستور كامل للإنسان ،
وليس كتاب فيزياء أو كيمياء أو تشريح أو أحياء بالرغم من إشارات متكررة
جاءت فيه تتعلق بهذا ، لكنها لا تعدو أن تكون أمثلة جيء بها للاستدلال على
قدرة الخالق ، وتثبيت حاكميته على المخلوق بشكل عام ، والإنسان بشكل خاص .
وعلى علماء التجريب الإفادة منها ، لتطوير ما وصلوا إليه من نظريات في
ميادين علومهم هذه . ومَثَل القرآن في هذا - ولله المثل الأعلى - مَثَل
قانون اجتمع على وضعه علماء القانون والتشريع الفاهمون ، لكنهم وهم يضعون
المواد ، احتاجوا من أجل ترسيخ القوانين ، إلى تمثيل مرئي في عالم الزراعة
مثلاً ، فاستعانوا باختصاصيين فيها ، ليكون المثال صحيحاً علمياً . وكذلك
القرآن الكريم ، اعتمد في التوجيه والمخاطبة على أمثلة مرئية ملموسة ،
قائمة ومستندة إلى سنن موضوعة من قبل الخالق ، ولا يمكن بحال من الأحوال أن
تكون مخالفة لمكتشفات العلم ، بل على العلم أن يحاول حتى يتطابق في النهاية
مع المعطيات القطعية للأمثلة العلمية في القرآن الكريم . ونريد أن نذكر هنا
احترازاً مفاده : أن من يفسر القرآن تفسيراً علمياً ينبغي ألا يطرح تفسيره
على أنه المراد حتماً من الآية القرآنية ، وإنما يقدمه على أنه محتَمل من
محتملات الآية ، وحسب ما وصل إليه فهمه ، فإن أظهر العلم خطأ تفسيره ، بقيت
الآية بمعزل عن أن ينسب الخطأ إليها ، وحاشاها ، فهي لا تقرر قطعاً إلا
الصواب ، ولكن البشر في اكتشافاتهم متقلبون .
النورس : لا يزال الكثيرون يحجمون عن استخدام بعض المخترعات الحديثة
- كالتلفزيون مثلاً - لكونهم يخلطون بين هذه الوسيلة " الاختراع " وبين تلك
المادة التي تعرض فيها ، متناسين أنها يمكن أن تكون - وينبغي أن تكون -
أداة للتعبير عنهم وعن آرائهم وأفكارهم . هل الطريقة الصحيحة للتعامل مع
الوسائل المذكورة هي مقاطعتها ؟
د. عكام : لا أعتقد أن هناك كثيرين يفعلون هذا الذي قلتَ ، بل هم في
رأيي قلة قليلة هذا أولاً . بعدها لا بد من القول بأن الإسلام كان صريحاً
جداً في التمييز بين الوسيلة والأداة بحد ذاتها ، وبين توظيفها واستخدامها
، وإن الحكم إنما يدور على الثاني ، ولا علاقة له بالأول ، لأن متعلقات
الأحكام هي أفعال المكلفين . فالشِّعر من حيث كونه أوزاناً وتقاطيع لا حكم
له ، ولكن استخدامه في الهجاء والبغاء والفساد ، هو الذي يحيله إلى فعلة
محرمة ممنوعة ، واستخدامه في الفضائل والمكارم والتوجيه إليها ، يجعله
مشجَّعاً عليه من قبل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بعد القرآن الكريم ،
فقد قال لحسان بن ثابت : " إيه وروح القدس معك " ، " لا يفضض الله فاك " .
إذاً ، الموقف الصحيح هو الدعوة إلى استخدامها في ما ينفع الإنسان ، ويساهم
في إيصاله إلى تحقيق الغاية التي وجد من أجلها : ( وما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون ) .
النورس : الحديث عن العلم يقودنا إلى الحديث عن العقل ، إذ يحاول
بعض الفقهاء أن يلغوا دور العقل ، أو يحجموه في أصغر حيز ممكن ، ظناً منهم
أنهم يُعلون بذلك من قدر الإيمان المطلق ، ما هو رأيكم في هذه القضية ؟
د. عكام : لن أسمي ذاك الذي يلغي دور العقل فقيهاً ، لأن الإسلام
قائم على مخاطبة العقل ، واعتباره مناط التكليف ، وقد دعا القرآن الكريم
الناس كافة ، والمسلمين خاصة إلى إعماله حتى أقصى درجاته ، وحضّ على حركته
، المتجلية بالنظر والتفكر والتدبر والتعلم . ويسهل على من له أدنى إلمام
بآي من الذكر الحكيم ، أن يذكر لك كثيراً من الآيات المتعلقة بهذا ، فقد
وردت كلمة " العقل " بمشتقاتها في القرآن الكريم في تسعة وأربعين موضوعاً .
ووردت مادة " الفكر " في ثماني عشرة آية . ووردت مادة " العلم " في نحو
ستمائة آية . وكلمة " التدبر " و " الرشد " في ثلاث وعشرين آية . وكلمة "
القلب " و " الفؤاد " وهما بمعنى العقل ، في ست وأربعين آية . والرسول صلى
الله عليه وآله وسلم قال : " قد أفلح من رزق لُبَّاً " وكان كثيراً ما
يَسأل عن عقل الرجل ، من أجل أن يتعرف عليه ، أو يُعرِّف به . حتى الإيمان
، إن لم يكن عن عقل واقتناع رُفض ، ودعي المؤمن إلى الإيمان مجدداً على
أساسه : ( يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا ) . وأغتنم هذه الفرصة لأدعو
المسلمين وغيرهم إلى تأسيس الفكر من خلال العقل والوعي العمليين ، وآمل أن
نستجيب ، ونبدأ الطريق .
النورس : في عالم يتسم بالصراعات وتتسارع فيه الأحداث والتغيرات ،
هل يكتفي المسلمون أفراداً ودولاً بدور المتفرج الخاسر حتماً ، أم أن لكل
منا موقفاً ودوراً ؟ وكيف يمكن أن يكون مثل هذا الدور ؟
د. عكام : دور كلٍ منا في عالمنا اليوم مستمد من مبدئه وعقيدته ،
وإذا كنا مسلمين فالإسلام دين التطوير ، والتغيير نحو الأفضل لبني الإنسان
قاطبة . وأول ما يجب علينا فعله أن نجلِّي حقيقة الإسلام ، نظاماً وأحكاماً
، في ميادين الحياة كافة ، عبر الوسائل الإعلامية المختلفة . وأن ننتقل ،
نحن الأفراد ، من الإيمان المدّعى إلى الإيمان المحقق ، ومن السلوك البعيد
إلى السلوك القريب ، الذي يتفيأ ظلال الإسلام في نصوصه الأصلية ، ليشكّل كل
واحد منا دعوة عملية للآخرين ، فالناس أحوج ما يكونون إلى نماذج واقعية ،
منها إلى ادعاءات عريضة ، وشعارات واسعة ، ويوم نستبدل بالشعارات الفكر
البنَّاء الواقعي ، نكون قد خطونا في طريق الحياة المبتغاة الهادفة . وأما
الدول ، فدورها يكمن في البحث الجاد عن السبل التي تلم شعثها وتجمع شملها .
وعليها أن تجسِّد الدين محوراً أساسياً للالتفاف حوله ، وألا تزهد في
اعتباره العامل الأقوى في لقائها ، وديننا يختلف عن الدين المستبعَد من
المحاور اللقائية في الغرب ، لما لهذا الأخير من واقع تاريخي مرير في
علاقته مع العلم والسلطة والسياسة . والدول الإسلامية ، إن التقت على أرض
إسلامها ، أنبتت فيها حصانةً لثرواتها وطاقاتها وقدراتها الحسية والمعنوية
، وقد استُنفدت محاور اللقاء من قبل غيرنا إلا الدين . وعلينا أن نقدمه
محوراً ناجحاً ، ونقطة تمركز هامة ، وهذا يتوقف على فهمنا له ، وحسن
تقديرنا إياه ، والمهم في الأمر ، أن نفكر فيه دون أن نبحث في أثنائه عن
تبريرات لتخبطات مختلفة ، ستظهرها النهايات الزمنية على حقيقتها ، فتكون
محاولات للارتباط والتبعية لغرب أو لشرق .
النورس : تشهد بعض المجتمعات الإسلامية خلافات حادة بين أفرادها ،
تأخذ طابعاً دموياً في كثير من الأحيان ، ما هو حكم الشرع في من يكفر
المجموع ، ويشهر سلاحه في وجوههم ، فرداً كان أو جماعة ؟
د. عكام : هنالك قواعد اعتمدتها في هذا الميدان ، أودُّ ذكرها ،
فلعلها تحمل في طياتها الجواب على هذا السؤال :
1- نعتمد الظاهر في قبول الإسلام ، ونترك الباطن لعليمه .
2- لا نريد أن يُتخذ رأي عالم سابق ، أو مفكِّر لاحق ، حاكماً على بقية
الآراء والفهوم المستنبطة.
3- جميع الآراء والاستنباطات ، المستمَدة من الكتاب والسنة ، عبر وسائل
صحيحة عقلاً وشرعاً، مقبولة .
4- نحن دعاة إلى الإسلام ، ولسنا قضاة على الناس ، ولا يهمني إطلاقُ حكم
الكفر على الكافر ، وإنما الذي يعنيني أن أدعوه إلى الإسلام ، بالحكمة
والموعظة الحسنة .
5- نسعى إلى رسم المحيط الأوسع للدائرة الإسلامية ، وفق أعمِّ المعطيات
القرآنية والنبوية ، فنحن دعاة استيعاب ، ولسنا هواة استبعاد .
النورس : تصدى كثير من علماء المسلمين في العصور الأولى لمسألة
العلاقة بين الفرد والدولة ، وبينوا الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه القضية
، كالطرطوشي الذي يقول : " هرج ساعة شر من ظلم ستين سنة " لماذا لا يتصدى
الفقهاء المعاصرون لمثل هذه القضايا بشكل مركز وشامل ؟
د. عكام : لا أجد لهذا السؤال جواباً أفضل من خطبة أبي بكر الصديق ،
يوم تولى الخلافة : " أيها الناس إني قد ولّيت عليكم، ولست بخيركم ، فإن
أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف
فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه ،
أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم " . وهذا يعني
أن لكلٍّ من الدولة والأفراد واجبات حيال الآخر : فالدولة ملزمة بالاحتكام
إلى شرع الله في شؤونها، وبالتزام خط الشورى ، والعدالة، والمساواة .
والفرد ملزم بالطاعة، فإذا ما رأى انعتاقاً من قِبَل الدولة من الدين
علنياً صريحاً رفض الطاعة ودعا إلى الإسلام ، دون أن يخاف في الله لومة
لائم ، مراعياً أخلاق الإسلام في صيانة الدماء وحقنها ، وحفظ الأعراض ، فلا
إثارة ، ولا رعب ، ولا تخويف . وأعتقد أن علماءنا وإن بحثوا في هذا الأمر
إلا أن أبحاثهم لازالت غامضة إلى حد ما ، ولا زال مثل هذا الموضوع يحتاج
إلى وضع النقاط عليه بشكل أفضل .
النورس : من خلال معايشتكم لأوضاع المسلمين في مناطق مختلفة من
العالم ، كيف ترون مستقبل الإسلام والمسلمين ؟ مع الشكر الجزيل لفضيلتكم
على تكرمكم بالإجابة على الأسئلة ، وجزاكم الله كل خير .
د. عكام : المستقبل مرهونٌ بالحاضر ، يعتمد عليه ، ويُرى من خلاله ،
وحاضر المسلمين يحتاج إلى :
1- إيمان محقَّق .
2- وعمل صحيح كامل شامل .
3- ووحدة تقوم على أسس متينة مستمدة من مصادر الدين الحنيف .
وبعبارة أخرى : المستقبل للإسلام إن سعى المسلمون إلى إيجاد النموذج المقنع
على مستوى الفرد ومستوى الجماعة والإقناع ينبثق من تكامل نظري وعملي ،
ابتداءً بالمعرفة ونظامها ، مروراً بالتقنية وأخلاقها ، والحياة وفنها ،
والروح وأبعادها ، وانتهاءً بالدولة الصائنة لحقوق الأفراد ، الراعية لشؤون
الجماعة وحقوقها . وعلى المسلمين أن يجهدوا في تقديم مذكرة تفسيرية عالمية
اللغة والصلاحية ، حتى يمكن استخلاص قانون عام يحكم الإنسان في كل أحواله
.
وأهم مميزات هذا القانون : أن يعكس شخصية الإنسان زماناً ومكاناً وتطلعاتٍ
وأهدافاً وآفاقاً وغيباً . فالحياة تعاش على مستويين : معنوي ومادي ، يوجّه
الأولُ الثاني ، ومن خلال هذا يبرز الإسلام قادراً على توجيه دفة الحياة
بشكل عام .
المستقبل مرهون بالإعداد والتخطيط ، فمن فعل هذا ربح ، ومن أعرض عن هذا
خسر: ( ولقد كتـبـنـا في الزبـور من بـعد الـذكر أنّ الأرض يرثها عبادي
الصالحون ) . أي : القادرون على عمارتها مَنْ كانوا .
فهل نحن ممن نستشرف هذا ؟ آمل ، وإن كان الواقع لا يسعفني .
في النهاية : لا يسعني إلا أن أتقدم بشكري لمجلتكم " النورس " آملاً أن
تكون جسراً خيراً ، يربط بين مختلف الآراء ، لتتكامل ثقافتنا الإسلامية
العربية أمام إنساننا في عصرنا الراهن ، ومتمنياً لكل طاقمها دوام العطاء
والازدهار .
التعليقات