12/4/1997
البلاد : قام
مؤخراً فضيلة الدكتور الشيخ محمود عكام أحد أبرز الدعاة الإسلاميين في
سوريا، وصاحب أطروحات جادة في تفعيل دور المسلمين في عصرنا المتسارع، بجولة
في الولايات المتحدة الأمريكية، استغرقت ثلاثة أسابيع، قضاها محاضِراً
ومحاوراًً في ولايتي " أوهايو " و " ميتشيغان " حيث ألقى عدة محاضرات قل
مثيلها في المستوى الفكري والعلمي في قاعة منتدى " الفكر والثقافة " في
مدينة ديترويت، وفي مركز الـICI ، ومن هذه المحاضرات :
محاضرة : " جدلية الفقه والحياة " .
ومحاضرة : " قواعد قراءة النص الإسلامي " .
ومحاضرة : " الكرامة بين الإسلام وإعلان حقوق الإنسان" .
ومحاضرة : " رؤية أولية لتفعيل دور الإسلام في الغرب " .
وعلى هامش هذه المحاضرة كان لنا مع فضيلته اللقاء التالي :
البلاد : الإسلام بشكل عام في ضعف، وهو حالياً لا يملك وسيلة الخطاب
الجماعي للمجتمعات الغربية، ونقصد بذلك وسائل الإعلام، كما أشرتم إلى ذلك،
فكيف تكون البدايات للدعوة الإسلامية ؟ وكيف يبدأ الفرد المسلم بالدعوة إلى
دين الله ؟
د. عكام : إن البداية، في رأيي، تكون من خلال أولئك المسلمين الذين
يعيشون في الغرب، فعليهم أن يشكلوا نواة لمجتمعات يُدعى ويشار إليها، أي
عليهم أن يكونوا نماذج مقنعة من خلال سلوكهم ، وأن يشكلوا من خلال اجتماعهم
ولقائهم واقعاً داعماً ، حتى إذا ما رأى الغرب هذا الفرد، وهذه الجماعة،
اقتنع بجدوى الإسلام ونجاعته، إذ يبني الفرد ويبني الجماعة ، ثم بعد ذلك
يمكننا أن نقدم لهؤلاء هذا الإسلام عبر وسيلة نمتلكها، قد لا نستطيع حالياً
أن نمتلك قناة بث، ولكن يمكن أن نمتلك كتاباً نقدمه، أو شريطاً مسجلاً على
الفيديو،نقدم هذا بعد أن صممنا على تقديم أنفسنا واقعاً داعماً، فأحوالنا
تصدِّق مقولاتنا عبر الكتاب، أو عبر الشريط، أو أية وسيلة أخرى .
البلاد : كيف يمكن لنا في الغرب طرح مفاهيم التعايش تحت إطار ما
سمّاه الفقهاء : " دار الحرب " و " دار الإسلام " ؟
د. عكام : نحن الآن في غنى عن طرح مثل هذه العبارات والمصطلحات
الفقهية، فهذه المصطلحات يملك تحديدها ولي الأمر حال الحرب، أما نحن الآن
فقد أخذنا إشارة (فيزا) الدخول إلى بلد نعيش فيه، فلا أعتقد أن هناك جدوى
في البحث عن" دار الحرب " و " دار الإسلام " . على أن الأمر ليس محدداً من
قِبل الفقهاء بأن الدنيا تقسم بالضرورة إلى " دار حرب " و " دار إسلام " بل
القضية مفتوحة للاجتهاد، أنا أسمي الآن وضع من يعيش في الغرب أنه في " دار
دعوة " ، وليس في " دار حرب " ، أو " دار إسلام " ،فكما سُمِّيت الأمة التي
أسلمت " أمة الإسلام "، وبقية الأمم " أمم الدعوة " ، فإن من يعيش في الغرب
يعيش في " دار دعوة "، وعلينا أن نمارس هذه الدعوة، لأننا إن قلنا إننا في
" دار حرب " فلسنا قادرين على ممارسة الحرب، وإن قلنا إننا في دار إسلام
فمعنى ذلك أننا نرضى بكل القوانين التي تحكم هذه البلاد : التي نحن فيها!
إذن: بلاد الغرب هي " دار دعوة " إلى الخير والإسلام، " دار دعوة " إلى
الله عز وجل .
البلاد : الغربي في كثير من الأحيان يجد فجوة بين ما ندعو إليه، وهو
في حد ذاته مقنع، وبين ما هو موجود في الواقع الإسلامي، وهو في حد ذاته
منفر، فكيف نتجاوز هذا الإشكال على مستوى الحوار النظري ؟
د. عكام : يمكننا أن نقول لهذا الغربي : إنه لأمر طبيعي أن يكون
هناك فجوة بين المقول والمفعول، ولئن اتسعت هذه الفجوة، وهذا الأمر غير
طبيعي، فلأننا اليوم نعيش في عالم اتسعت الهوة فيه، بشكل عام، بين ما يُقال
وبين ما يُفعل، ونحن من ضمن هذا العالم،وبالتالي ينبغي ألا نُسقط هذا العيب
علينا فقط ، على كلٍّ : إن أول درجات الخروج من هذه الوهدة أن نقدم أنفسنا
صادقين في هذا الذي ندعو إليه، وأصحابَ إرادة من أجل أن نفعل هذا الذي
نقوله وندعو إليه، فيبتدأ الأمر بنا ثم يتسلسل إلى غيرنا، وغيرنا يعتمد
علينا، فأُسَرنا القريبة منا تعتمد علينا، إنْ كنا على المستوى فهي التي
تتأثر وتؤثر، وإلا فلا . وهكذا علينا ألا نكون في حالة حصار نستشعره في
داخلنا لأن الهوة كبيرة، ذلك أن العالم كله يعيش هذا الانزياح بين المقول
والمفعول .
البلاد : ما هي حدود المجاملة المسموحة في السياق الدعوي ؟ وهل
نستطيع أن نجوِّز صيغة مرحلية للمجاملة، ريثما نتمكن من شد الغرب نحو
الإسلام، أم أن هذه ميكيافيلية مرفوضة ؟
د. عكام : أعتقد أن تطبيق الشرع بحد ذاته يحتوي المجاملة المطلوبة،
وقد قلتُ عبارةً، ولا زلت أرددها: مراعاة الله تشمل مراعاة الناس، ولكن
مراعاة الناس لا تشمل الله ( وتخشى الناس والله أحق بأن تخشاه ) الأحزاب/37
. فالإسلام إذاً يحوي هذه المجاملة المقبولة، وهي من الأمور الإنسانية،
فأنا أعيش بقانونين : الأول : ينظمني في ذاتي . والثاني : ينظمني في علاقتي
مع الآخرين .
وهذه العلائق مع الآخرين هي التي نسميها بالمجاملة، أو الملاطفة، وقد
احتواها الإسلام، ونظّمها، و " أتكيت " الدعوة في الإسلام يحوّل المجاملة
التي نتخوف منها، إلى تشريعات نقوم بها ونحن نستشعر أننا نقوم بإرضاء الله
عز وجل، فالمجاملات من جملة التشريع وليست أمراً زائداً عليه .
البلاد : لقد عشتَ فضيلة الدكتور فترة في الغرب، والمشكلة هي ترجمة
هذه الأصول الفكرية إلى واقع نموذجي معاش . فما هو رأيك حول تحويل هذه
الأمور النظرية إلى مادة عملية مقنعة لنا وللآخرين ؟
د. عكام : عندما كنت في الغرب عشت من خلال ذاتي، وقدمت ذاتي على أني
فرد مقنع لغيري، فاقتنع كثير ممن كان معي، فقلت يوماً لبعض صحبي : لو أن
عدداً كان مثلي لأثَّرنا تأثيراً مضاعفاً، ولأصبحنا متوالية هندسية،
ولشكلنا نواة قوية تقنع وتجذب . وهذا ما عبّرت عنه بـ " التمسك والتماسك "
؛ تمسُّك بهذه الأصول الفكرية التي أشار إليها السائل الكريم، وتماسك فيما
بيننا لنشكل واقعاً داعماً لهذه الأصول التي ندعو إليها . وتَبْرزُ قيمة
التماسك في مثال قدمه أحد المفكرين المسلمين، وهو سعيد النورسي رحمه الله
حيث قال : إن أربعة واحدات - جمع واحد - إذا لم تكن متماسكة فيما بينها،
كانت قيمتها أربعة، ولكنها إن حققت التماسك فيما بينها، تحولت قيمتها إلى
ألف ومئة وإحدى عشرة . ونحن كذلك، إن كنا متفرقين غير متماسكين سهلَ على
الآخرين أن يدخلوا بيننا ليرفضونا .
البلاد : ما هي عناصر ودواعي الخمول عند الفرد المسلم، خاصة ذلك
المقيم في الغرب من ناحية مهمته الدعوية ؟
د. عكام : أهم عناصر الخمول :
أول اً: الاستكانة إلى الحياة الظاهرة : ( ولا تمدنَّ عينيك إلى ما متعنا
به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا ) طه/131 . فيسأل الواحد نفسه أسئلة
وهمية ليقول لها: هاهم الناس يأكلون ويمشون ولا يشعرون بنا، فهل من المعقول
أن يأتي يوم من أجل أن ندعوهم إلى الإسلام، وهم الآن في غنى عنا! ولو أننا
فكرنا في المرجع والمآل والنهاية، وأننا سنقف أمام الله عز وجل، وأننا
سنُسأل عن مسؤوليتنا الملقاة على عواتقنا، عن الوقت، والفكر، والعمل،
لنشطنا ولرفضنا أي خمول يمكن أن ينتابنا . كثير من أبناء جلدتنا عندما
ذهبوا إلى الغرب افتتنوا ببعض الأشياء أولاً، فوقعوا في الخمول ثانياً، ثم
تحول ذلك، للأسف، إلى ابتعاد سحيق عميق .
ثانياً : عدم معرفتنا بالإسلام : فالعلم محرِّك، والجهل مثبِّط، ويوم نعرف
ونتعلم الإسلام سيكون هذا العلم داعياً من دواعي النشاط والحركة،لأن الجهل،
وهو داعي الخمول، قد انتفى وزال، فالعلم قوة متفجرة تدعوك لنشره وتبيانه .
البلاد : لقد تغيرت الرؤى الاستشراقية المطروحة على الساحة، هناك
أطروحات تقدم للغرب الآن على أنها إسلامية محضة، يقدمها مسلمون منا، أركون
والجابري مثلاً، ولقد كانت لكم دراسة حول قراءة في فكر الجابري، وكنتم على
مقربة من الدكتور محمد أركون، إذ أشرف عليكم في مرحلة الدكتوراه . فما
رأيكم في أطروحاتهم ؟
د. عكام : أنا أفرّق بين نوعين من الطروحات :
النوع الأول: طروحات نظرية لا تقوم على جذر إيماني في داخلنا، وإنما تكون
طروحات ظاهرية، تدرس الإسلام في حركته الظاهرية، من دون أن تستند هذه
الظواهر إلى الجذور الحقيقية الإيمانية، وقد قلت هذا الكلام أكثر من مرة
لأركون . قلت : إن طروحاتنا من أجل أن تكون مقبولة عند الغرب، يجب أن تقوم
على وعي، وإذا أردنا أن نكون واعين فلا بد من أن يعني الوعي الأمور التالية
: - عمل يقوم على علم . - وعلم يقوم على إيمان .
وشرط العمل: الشمول، والتكامل، مع الرسالية التي هي التأثير والإنتاج .
وشرط العلم : التحقق والتثبّت والتوثق . وشرط الإيمان : القناعة دون تقليد،
والإخلاص لله عز وجل .
من هنا أقول : إن الإسلام اليوم يجب ألا يُقدم من خلال مستوى واحد فقط،
وإنما من خلال كل المستويات، فأنت حينما تريد أن تقدم اليوم للناس أمراً
متكاملاً، كسيارة على سبيل المثال، فلا يمكن أن تقدمها من خلال صورتها فقط،
وإنما عليك أن تقدمها من خلال محركها، ومقودها، وفرشها، وإن قدمتها من خلال
صورة واحدة لم تكن بالشكل الذي يقنع الآخرين بمهمتها، لأنها يفترض أن تقاد،
وأن تمشي، وأن تحمل، وأنت تقدم صورة واحدة لا يمكن أن تقوم بهذه الوظائف
كافة !
البلاد : ما هي الخطوات العملية الأخرى في مجال دعوة الغربي للإسلام
؟
د. عكام : يُقال: إن العلم يتجلى في السؤال أكثر مما يتجلى في
الجواب، وهناك أسئلة عامة تُعرض على الإنسان، وعلينا أن نمتلك ناصية هذه
الأسئلة : أين مبتدؤه ؟ أين منتهاه ؟ هل فكّر فيما بعد الموت ؟ إن أحسنَّا
سؤال الغربي هذه الأسئلة من خلال ثوابت الإنسان، ومن خلال أصوله وطبيعته،
فسوف يبحث عن جواب . وطبيعي جداً أن نكون حينما سألناه هذه الأسئلة قد
هيأنا الأجوبة من خلال ديننا وإسلامنا، فالإسلام يدفع الإنسان من أجل أن
يفكر، ويسأل، ثم يُقال له بعد السؤال : ها هو الجواب في القرآن الكريم، وفي
الإسلام الحنيف .
يجب علينا أن نعرف كيف نَسأل،فنحن قد نحسن الإجابة، لكننا لا نحسن السؤال،
ونحن نسأل من أجل أن نحوِّل هؤلاء الذين تولّد عندهم حب التعرف على الجواب
إلى هذا الإسلام، لأن هذه الأسئلة التي نطرحها لن تكون أجوبتها إلا في
الإسلام، والله أعلم .
البلاد : نلحظ اختلالاً في التوازن القيمي، واختلاطاً في القيم الآن
في العالم . هل تعتقدون أن المسلمين في الغرب يمكن أن يسهموا في إعادة هذا
التوازن القيمي للعالم ؟
د. عكام : طبعاً، لكن شريطة أن يتعرفوا على طبيعة القيم، وأن يفرقوا
بينها وبين العادات، فخرق هذه الأخيرة لا يؤثر ولا يضير، والقرآن الكريم
يحوي التقسيم الواقعي الصحيح بين القيم والعادات، ولا يمكن أن نجد إنساناً
في كل العالم يرفض القيم حينما تكون قيماً .
ولقد كنت في فرنسا وكنت أقول لهم : أيكم يرفض الصدق ؟ الصدق قيمة عليا لا
يمكن أن ترفض، أيكم يرفض العلم ؟ أيكم يرفض الخير؟
سألت أحد المسؤولين الكبار هناك : هل تريد أن أنسبك بعد أن تموت إلى فرعون،
أم إلى موسى؟ فقال : بالطبع إلى موسى . أقول : لأن فرعون يحمل قيماً سلبية
، أما موسى عليه السلام فيحمل قيماً إيجابيةً . فإذا ما أردنا أن نعيد
التوازن، فعلينا أن نحدد القيم الأساسية الثابتة بالنسبة إلى الإنسان ، وأن
نبين أثرها في التاريخ، من خلال وقائعه الصحيحة ، وأن نبين أثرها من خلال
رجالاته .
عند ذلك سنقدم للناس منطقاً وواقعاً، والإنسان دائماً يقتنع من خلال
المنطق، ويطمئن من خلال الواقع، وعندئذ سنكون على مستوى المسؤولية في
العالم كله
التعليقات