أما بعد ،
أيها الإخوة المؤمنون :
للإنسان كما قلنا غايات يسعى إلى تحقيقها ، والغايات هذه أصناف ، فمنها غايات عملية
، ومنها غايات عقدية ، ومنها غايات وجدانية ، ولعل أميز الغايات الوجدانية الحب ،
والإنسان في هذه الغاية ومن أجل أن يتحقق بها كاملة يسعى إلى أن يحب وإلى أن يكون
محبوباً ، ولعل سعيه من أجل أن يكون محبوباً أقوى ، لأن كون الإنسان محبوباً يحقق
غايته الوجدانية بشكل أفضل ، ولكن من قِبَل من ستكون محبوباً حتى تتحقق غايتك
الوجدانية ؟ قلت لكم : إذا أحبتك أمك تحققت هذه الغاية الوجدانية بشقها الأهم وهي
كونك محبوباً ، إذا أحبك أبوك تحققت غايتك الوجدانية بشقها الأمثل أو بشقها الأهم ،
إذا أحبك الصالحون تحققت غايتك الوجدانية وهي الحب ، ولكن إذا أحبك الله تحققت هذه
الغاية الوجدانية بشكلها الأعظم ، بشكلها الأمثل ، بالأمثل الذي ما بعده أمثل ،
بنهاية صيغة التفضيل المُعرَّفة - كما يقال - بالـ التي ليس بعدها أفضلية إذا أحبك
الله . والسؤال : كيف ومَنْ ؟ من الذين يحبهم الله ؟ ما صفاتهم حتى أعاير نفسي
عليهم فأرى إذا كان الله يحبني أم لا ؟ أو إذا كنت من المحبوبين من قبل الله . الله
عز وجل بين ذلك في كتابه الكريم ، أو ذكر الذين يحبهم فهل أنت منهم ؟ إذا كنت منهم
فقد حققت غايتك الوجدانية بصورتها الفضلى ، أو بصورتها المثلى التي ليس بعدها أفضل
وليس بعدها أمثل ، ذكرنا في الأسبوع الماضي بأن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله
صفاً ، هذا هو الصنف الأول ، والصنف الثاني الله يحب المحسنين ، والصنف الثالث الله
يحب التوابين ، والصنف الرابع الله يحب المتطهرين ، فهل أنت ممن يقاتلون في سبيل
الله صفاً ؟ إذاً : الله يحبك ، هل أنت من المحسنين ؟ إذاً : الله يحبك ، هل أنت من
التوابين ؟ إذاً : الله يحبك ، هل أنت من المتطهرين ؟ إذاً : الله يحبك ، وبقي
أصناف أربعة نريد أن تكون هذه الأصناف موضوع خطبتنا اليوم .
الله عز وجل يقول : ( فإن الله يحب المتقين )
آل عمران : 76
فهل أنت من المتقين ؟ إذاً : يحبك الله . ولكن ألا يخطر ببالنا سؤال : من التقي ؟
التقي في رأيي من خلال جولة واعية جادة في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف التقي
والتقوى تقوم على ثلاث شعب : الشعبة الأولى : الإتقان . أتقن ما أنت عامله ، وأتقن
ما أنت قائله ، الشعبة الثانية : مخافة الله . خف الله عز وجل ولا تخف سواه ، كن
خائفاً من ربك ، من سخطه ، من عذابه ، فسيدفعك هذا الخوف إلى أن تكون إنساناً
مستقيماً . الشعبة الثالثة للتقوى : الإخلاص . أن تخلص لربك ، أن تخلص لخالقك ، أن
يكون قلبك متوجهاً إلى ربك في عملك ، تبغي وجهه الكريم ، لا ترائي في عملك ولا في
قولك ، التقوى إتقان ، إخلاص ، مخافة الله ، ولعل أهم ركن من هذه الأركان للتقوى
الإخلاص . أخلص لله لأن الله يقول : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
) البينة : 5
ويقول عليه وآله الصلاة والسلام كما يروي البيهقي بسند حسن : " المخلصون ، أولئك
مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء " المخلص يبقى في النهاية ، والمخلص هو الذي
لا يهلك ، وهو الذي يستمر قائماً لله بأمره ، وذكره يبقى ليُعطِّر الأجواء بحميد
سيرة ، وفضائل فعلة ، ليعطر الأجواء بروعة ذكر ، المخلص : " المخلصون ، أولئك
مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء " المخلص يبتعد عن الفتن ، ويخلصه الله من
الفتن ، أخلص - كما قال الإمام الجنيد - أخلص تُخَلَّص . إذا أردت أن تُخَلَّص من
أدران الرياء ، من أدران الفتن ، من أدران الشقاء ، أخلص ، أخلص لله تخلص من كل سوء
، لأن الله يحب المخلصين ، لأن الله مع المخلصين ، لأن الله يتولى المخلصين ، أخلص
تُخَلَّص . فإن الله يحب المتقين هذا هو الصنف الخامس فهل أنت منهم ؟
الصنف السادس : ( والله يحب الصابرين ) آل
عمران : 146 هل أنت صابر ؟ ولعلك
تسألني أيضاً ماذا تعني كلمة الصبر ؟ الصبر أن تبقى مستمراً الاستمرار الإيجابي على
الطاعة ، والاستمرار السلبي عن المعصية ، تبقى مستمراً على الطاعة تعملها حتى تصل
إلى رضوان الله عز وجل ، وتبقى على المعصية تمسك عنها حتى تصل إلى رضوان الله عز
وجل . أيها الشباب : نريد أتقياء صابرين ، نريد أتقياء يتقنون العمل ، يخلصون لله ،
يخافون الله ، ونريد صابرين يصبرون على الطاعة يعملونها ، ويصبرون عن المعصية
يمسكون عنها ، سئل الإمام علي سيد العلماء والفقهاء والنجباء كرم الله وجهه ورضي
عنه سئل عن الصبر فقال : أن تصبر على الطاعة حتى تستعذبها ، وأن تصبر على المعصية
تمسك عنها حتى تستقبحها ، تصبر على الطاعة تعملها حتى تستعذبها ، تصبر على المعصية
تمسك عنها حتى تستقبحها وتنفر منها ، نريد صابرين على الطاعة ، نريد لشبابنا أن
يكونوا طائعين لله ، أن يوجهوا طاقاتهم في طاعة الله ، أن يمتنعوا عن المعصية ، أنا
أعلم أن المعاصي تنتشر هنا وهناك ، في وسيلة الإعلام ، في الشارع ، في الملهى ،
ولكن أتوجه إلى شبابنا ، يا شبابنا : نريد منكم صابرين ، لأن المستقبل الخَيِّر
يُبنَى بأيدي الصابرين ، ولا يبنى بأيدي أولئك الذين يترددون ويتغيرون ويتبدلون ،
لا يصبرون على الطاعة فعلاً ، ولا على المعصية إمساكاً ، المستقبل الخَيِّر لا يبنى
إلا بأيدي الصابرين على طاعة الله ، اصبروا على الطاعة حتى نبني مجتمعاً خيراً ،
اصبروا يا شبابنا على الطاعة . قلت بالأمس لبعض الإخوة : استيقظوا بالليل ، صَلُّوا
لله والناس نيام ، ستجدون صعوبة في البداية لكنكم بعد ذلك ستستعذبون وتشعرون باللذة
، وستكون لذة ما بعدها لذة ، ولو يعلم الملوك ما نحن عليه من اللذة لجالدونا عليها
بالسيوف ، هكذا قال قائلنا في زمنٍ توجه فيه شبابنا إلى الطاعة يعملونها ، وإلى
المعصية يمسكون عنها ، ( والله يحب الصابرين )
آل عمران : 146.
الصنف السابع : ( إن الله يحب المتوكلين )
آل عمران : 159 ولعلك تسألني وما
التوكل ؟ التوكل وبكل بساطة : أن تُفَرِّغ قلبك لربك ، أن تتخذ الأسباب في ظاهرها ،
في الظاهر لتتقنها ، ولكن عليك أن تفرغ قلبك لربك ، اتخذ الأسباب في أحسن أطوارها
وأحسن أشكالها ، ولكن إياك أن يكون قلبك معتمداً على الأسباب ، خذ الدواء ولكن قلبك
يجب أن يتوجه ليكون معتقداً بأن الله هو الشافي ، خذ الحيطة والحذر ، ولكن ليكن
قلبك مُفَرَّغاً لاعتقادٍ مفاده : إن الله هو الحامي ، هو العاصم ، هو الذي يتولى ،
ادرس بإتقان ، وأريدك دارساً ، ولكن ليكن قلبك مفرغاً لربك ، بحيث تقول نبضاته : لا
يُنَجِّح ولا يُرَسِّب إلا الله ، فإن قصَّرت بأخذ الأسباب فلن يكون قلبك مفرغاً
لربك ، لأن التوكل لا يتجزأً ، ولا يمكن أن نقول عمن يفرغ قلبه لربه - إن فرضنا هذا
- من دون أخذ بالأسباب إنه نصف متوكل ، لا . ولا الذي يتخذ الأسباب بكمالها من دون
أن يفرغ قلبه لربه لا يمكن أن نقول عنه إنه نصف متوكل ، التوكل لا يتجزأ ، خذ
بالأسباب ، وخذ الأسباب وفرغ قلبك لربك ، وكن بما في يَدَيْ ربك أوثق منك مما في
يدك ، كن بما في يد الله ، لا تيأس ، لا تحزن الحزنَ السلبي ، كن بما في يد الله
أوثق منك بما في يدك ، كن بقلبك واثقاً ، لأن قلبك مفرغ لربك ، كن بالله واثقاً
واتخذ الأسباب ، وتوكل على الله فأنت عندها متوكل ، اعتمد على الله بقلبك ، واتخذ
الأسباب بظاهرك . أيها الإخوة : لا زلت أذكر قصة سعيد بن جبير ، هذا الرجل الذي
لمحت فيه متوكلاً أيَّما توكل ، وذلك عندما جرى بينه وبين الحَجَّاج الحاكم الظالم
، الحاكم السَّفاك ، جرت بينه وبين سعيد بن جبير ، قبل أن يُعدِم الحَجَّاج سعيداً
، جرت قبلها مناظرة بينهما ، قال الحجاج لسعيد بن جبير : ما اسمك ؟ يا شبابنا هذه
القصص لا نريد أن نتسلَّى بها ، ولكن نريد أن نتمثلها ، أن نمتثل الأوامر لنتمثل
القصة ، والواحد منا يتعرَّض صباحاً ومساءً لحَجَّاج ، والشيطان أكبر حَجَّاج ،
يتعرض لحَجَّاج في صورة إغراء أو في صورة تعذيب . قال الحَجَّاج لسعيد : ما اسمك .
قال : سعيد ابن جبير ، أي اسمي : سعيد ابن جبير . قال : لا ، بل أنت شقي بن كُسَيْر
. عَكَسَ الأسماء ، أعطاه ضد اسمه ، قال : اسمي سعيد ابن جبير ، قال : لا ، الحجاج
يريد أن يغير حتى الأسماء وفق معايير أهوائه الضالة المضلة ، قال : لا ، بل أنت شقي
بن كسير عكس سعيد شقي ، وعكس جبير كسير ، قال : بل أنت شقي بن كسير ، فقال سعيد :
أبي كان أعلم باسمي منك . الإجابة في حدود الجرأة من غير تَمَادٍ لأننا لا نحب
الاعتداء ابتداء ، ونرفض الاعتداء ابتداء ، لكننا نَرُدُّ الاعتداء باعتداء (
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) البقرة
: 194 لسنا ضد أحد ولكن لا نسمح
لأحد أن يكون ضدنا ، رد عليه بجرأة ما تمادت ولا تعرف التمادي لأننا لسنا من أهل
الابتداء بالاعتداء ، ولكننا من أهل الابتداء في العطاء ، في الخير , قال : أبي كان
أعلم باسمي منك . قال الحجاج : شقيت وشقي أبوك . فقال سعيد : إنما يعلم الغيب الله
. أنت تقول عني بأني شقيت وشقي أبي ، وهذا غيب ، إنما يعلم الغيب الله ولا تعلم
الغيب أنت ، رد الاعتداء بجرأة ليس فيها تمادٍ أبداً ، ما أروع مثل هذا الكلام .
قال الحجاج لسعيد : لأبدلنك ناراً تتلظى . سأعاقبك وأنهي حياتك بنار تتلظى , فقال :
لو أعلم أن ذلك لك ، لو أن الأمر لك وأنك ستعذبني بما تريد في الدنيا والآخرة ، لو
أعلم أن ذلك لك ما اتخذت إلهاً غيرك . قال : ما رأيك في الخلفاء ؟ أي في خلفاء بني
أمية . أجاب سعيد: لست عليهم بوكيل . الحكمة تقتضي هذا ، لا يرد أن يقول : إنهم
أساؤوا ، وإنما قال : لست عليهم بوكيل ، والحُرُّ تكفيه الإشارة . فقال الحجاج :
أتريد أن أعفو عنك ؟ قال سعيد : إن كان العفو - أي إن كان ثمة عفو - إن كان العفو
فمن الله ، وأما أنت فلا تملك عفواً عن إنسان ، من أنت ؟ إن الذي يطعمني ويسقيني
ويميتني ويحييني هو الله وأنت لا تملك عفواً عن إنسان . فقال الحجاج : اختر قِتلة -
شكلية للقتل - تريد أن أقتلك بها . فقال سعيد : اختر أنت ، أنت الذي تختار ، فوالله
ما تقتلني اليوم قِتلة إلا قُتِلتَ في الآخرة بمثلها ، الجزاء من جنس العمل ، أنت
الذي تختار ، لأنك ستنال مثلها من الله ، من ذي العذاب الشديد ، وقال قبل أن يلفظ
نَفَسه الأخير رضي الله عنه وأرضاه : اللهم لا تُسَلِّط الحجاج على أحد بعدي . مات
الحجاج شر ميتة بعد أن أعدم سعيد بن جبير . أيها الإخوة : كان سعيد بن جبير متوكلاً
، فخاطب بأصول الشرع ، وفرغ قلبه لربه فكان كلامه كلام متوكل ، حَصَّن نفسه بعناية
الله عز وجل ، بمحبة الله ، حصن نفسه . الله يحب المتوكلين .
الصنف الثامن : ( إن الله يحب المقسطين )
المائدة : 42 والمقسطون هم الذين
يعدلون ، روى الإمام مسلم أن النبي عليه وآله الصلاة والسلام قال : " إن المقسطين
عند الله " أي إن العادلين ، وسيبين ذلك النبي في آخر الحديث " إن المقسطين عند
الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم
وأهليهم وما وُلُّوا " في أهليهم ، في حكمهم ، النبي عليه وآله الصلاة والسلام رأى
رجلاً من صحابته يدخل عليه ابنه الذكر ، يدخل على هذا الرجل ولده الذكر فيقبله
ويجلسه على فخذه ، ويتابع النبي النظر إلى هذا الرجل ، فتدخل ابنته فيقبلها ويجلسها
بجانبه ، فيغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول : " يا هذا ما عدلت بينهما "
أتقبل ابنك وتجلسه على فخذك ، وتقبل ابتنك وتجلسها بجانبك ، ما عدلت بينهما ، يغضب
النبي " الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " العدلَ العدل يا قضاة ، العدلَ
العدل يا حكام ، العدلَ العدل يا آباء ، العدلَ العدل يا أمهات ، العدلَ العدل يا
أيها المدرسون ، العدلَ العدل يا أيها الشيوخ ، العدلَ العدل يا كل أفراد المجتمع ،
لأننا جميعاً في أماكن تستلزم العدل ، ولا يظنن أن واحداً منا يمكن أن يكون غير
مكلف بالعدل لأنه لا منصب له ، ولأنه ليس بقاض وليس بحاكم وليس بوزير وليس بمحافظ ،
لا . العدلُ حيث أنت " في حكمهم وفي أهليهم وما ولوا " تحرَّ العدل في كل شيء ،
تحرَّ بين جوارحك ، تحرَّ العدل في طعامك ، تحرَّ العدل في شرابك ، تذكر إذا كنت
أمام أصناف من الطعام ، فَلَربما كنت ظالماً لأن جاراً يسكن بجانبك ليس أمامه صنف
واحد فأنت ظالم في أكلك ، أنت ظالم في طعامك ، أنت ظالم في شرابك ، تذكر أيها
الإنسان أخاك ، تذكر بأنك مطلوب منك أن تعدل في حكمك في كل شيء ، في كل أعمالك .
هؤلاء الذين يحبهم الله حسب ما جاء في القرآن الكريم ، فهل نسعى أن نكون منهم ،
أملي كبير ، ورجائي وفير ، وطَلَبي أخوي يستمد قوته من قلوبكم التي تمتلئ إن شاء
الله إيماناً بأن نسعى لكي نكون محققين لغاية وجدانية أميزها الحب ، أن نكون
محبوبين من قبل الله ، فيا رب خذ بأيدينا إلى ساح حبك ، وإلى ساح رضوانك ، وإلى ساح
غفرانك ، يا رب أسألك أن ترد شباب المسلمين إلى دينك رداً جميلاً ، وأن ترد
المسؤولين إلى دينك رداً جميلاً ، وأن تردنا جميعاً إلى دينك ردا ًجميلاً ، أسألك
أن تحفظ بلادنا وأن تكون بلادنا محل عنايتك ورعايتك وفضلك وكرمك ورضوانك ، يا رب
العالمين ، نعم من يسأل أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات