آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
أحباء الله - 2

أحباء الله - 2

تاريخ الإضافة: 2003/08/29 | عدد المشاهدات: 2934

أما بعد ، أيها الإخوة المؤمنون :
للإنسان كما قلنا غايات يسعى إلى تحقيقها ، والغايات هذه أصناف ، فمنها غايات عملية ، ومنها غايات عقدية ، ومنها غايات وجدانية ، ولعل أميز الغايات الوجدانية الحب ، والإنسان في هذه الغاية ومن أجل أن يتحقق بها كاملة يسعى إلى أن يحب وإلى أن يكون محبوباً ، ولعل سعيه من أجل أن يكون محبوباً أقوى ، لأن كون الإنسان محبوباً يحقق غايته الوجدانية بشكل أفضل ، ولكن من قِبَل من ستكون محبوباً حتى تتحقق غايتك الوجدانية ؟ قلت لكم : إذا أحبتك أمك تحققت هذه الغاية الوجدانية بشقها الأهم وهي كونك محبوباً ، إذا أحبك أبوك تحققت غايتك الوجدانية بشقها الأمثل أو بشقها الأهم ، إذا أحبك الصالحون تحققت غايتك الوجدانية وهي الحب ، ولكن إذا أحبك الله تحققت هذه الغاية الوجدانية بشكلها الأعظم ، بشكلها الأمثل ، بالأمثل الذي ما بعده أمثل ، بنهاية صيغة التفضيل المُعرَّفة - كما يقال - بالـ التي ليس بعدها أفضلية إذا أحبك الله . والسؤال : كيف ومَنْ ؟ من الذين يحبهم الله ؟ ما صفاتهم حتى أعاير نفسي عليهم فأرى إذا كان الله يحبني أم لا ؟ أو إذا كنت من المحبوبين من قبل الله . الله عز وجل بين ذلك في كتابه الكريم ، أو ذكر الذين يحبهم فهل أنت منهم ؟ إذا كنت منهم فقد حققت غايتك الوجدانية بصورتها الفضلى ، أو بصورتها المثلى التي ليس بعدها أفضل وليس بعدها أمثل ، ذكرنا في الأسبوع الماضي بأن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً ، هذا هو الصنف الأول ، والصنف الثاني الله يحب المحسنين ، والصنف الثالث الله يحب التوابين ، والصنف الرابع الله يحب المتطهرين ، فهل أنت ممن يقاتلون في سبيل الله صفاً ؟ إذاً : الله يحبك ، هل أنت من المحسنين ؟ إذاً : الله يحبك ، هل أنت من التوابين ؟ إذاً : الله يحبك ، هل أنت من المتطهرين ؟ إذاً : الله يحبك ، وبقي أصناف أربعة نريد أن تكون هذه الأصناف موضوع خطبتنا اليوم .
الله عز وجل يقول : ( فإن الله يحب المتقين )
آل عمران : 76 فهل أنت من المتقين ؟ إذاً : يحبك الله . ولكن ألا يخطر ببالنا سؤال : من التقي ؟ التقي في رأيي من خلال جولة واعية جادة في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف التقي والتقوى تقوم على ثلاث شعب : الشعبة الأولى : الإتقان . أتقن ما أنت عامله ، وأتقن ما أنت قائله ، الشعبة الثانية : مخافة الله . خف الله عز وجل ولا تخف سواه ، كن خائفاً من ربك ، من سخطه ، من عذابه ، فسيدفعك هذا الخوف إلى أن تكون إنساناً مستقيماً . الشعبة الثالثة للتقوى : الإخلاص . أن تخلص لربك ، أن تخلص لخالقك ، أن يكون قلبك متوجهاً إلى ربك في عملك ، تبغي وجهه الكريم ، لا ترائي في عملك ولا في قولك ، التقوى إتقان ، إخلاص ، مخافة الله ، ولعل أهم ركن من هذه الأركان للتقوى الإخلاص . أخلص لله لأن الله يقول : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) البينة : 5 ويقول عليه وآله الصلاة والسلام كما يروي البيهقي بسند حسن : " المخلصون ، أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء " المخلص يبقى في النهاية ، والمخلص هو الذي لا يهلك ، وهو الذي يستمر قائماً لله بأمره ، وذكره يبقى ليُعطِّر الأجواء بحميد سيرة ، وفضائل فعلة ، ليعطر الأجواء بروعة ذكر ، المخلص : " المخلصون ، أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء " المخلص يبتعد عن الفتن ، ويخلصه الله من الفتن ، أخلص - كما قال الإمام الجنيد - أخلص تُخَلَّص . إذا أردت أن تُخَلَّص من أدران الرياء ، من أدران الفتن ، من أدران الشقاء ، أخلص ، أخلص لله تخلص من كل سوء ، لأن الله يحب المخلصين ، لأن الله مع المخلصين ، لأن الله يتولى المخلصين ، أخلص تُخَلَّص . فإن الله يحب المتقين هذا هو الصنف الخامس فهل أنت منهم ؟
الصنف السادس : ( والله يحب الصابرين )
آل عمران : 146 هل أنت صابر ؟ ولعلك تسألني أيضاً ماذا تعني كلمة الصبر ؟ الصبر أن تبقى مستمراً الاستمرار الإيجابي على الطاعة ، والاستمرار السلبي عن المعصية ، تبقى مستمراً على الطاعة تعملها حتى تصل إلى رضوان الله عز وجل ، وتبقى على المعصية تمسك عنها حتى تصل إلى رضوان الله عز وجل . أيها الشباب : نريد أتقياء صابرين ، نريد أتقياء يتقنون العمل ، يخلصون لله ، يخافون الله ، ونريد صابرين يصبرون على الطاعة يعملونها ، ويصبرون عن المعصية يمسكون عنها ، سئل الإمام علي سيد العلماء والفقهاء والنجباء كرم الله وجهه ورضي عنه سئل عن الصبر فقال : أن تصبر على الطاعة حتى تستعذبها ، وأن تصبر على المعصية تمسك عنها حتى تستقبحها ، تصبر على الطاعة تعملها حتى تستعذبها ، تصبر على المعصية تمسك عنها حتى تستقبحها وتنفر منها ، نريد صابرين على الطاعة ، نريد لشبابنا أن يكونوا طائعين لله ، أن يوجهوا طاقاتهم في طاعة الله ، أن يمتنعوا عن المعصية ، أنا أعلم أن المعاصي تنتشر هنا وهناك ، في وسيلة الإعلام ، في الشارع ، في الملهى ، ولكن أتوجه إلى شبابنا ، يا شبابنا : نريد منكم صابرين ، لأن المستقبل الخَيِّر يُبنَى بأيدي الصابرين ، ولا يبنى بأيدي أولئك الذين يترددون ويتغيرون ويتبدلون ، لا يصبرون على الطاعة فعلاً ، ولا على المعصية إمساكاً ، المستقبل الخَيِّر لا يبنى إلا بأيدي الصابرين على طاعة الله ، اصبروا على الطاعة حتى نبني مجتمعاً خيراً ، اصبروا يا شبابنا على الطاعة . قلت بالأمس لبعض الإخوة : استيقظوا بالليل ، صَلُّوا لله والناس نيام ، ستجدون صعوبة في البداية لكنكم بعد ذلك ستستعذبون وتشعرون باللذة ، وستكون لذة ما بعدها لذة ، ولو يعلم الملوك ما نحن عليه من اللذة لجالدونا عليها بالسيوف ، هكذا قال قائلنا في زمنٍ توجه فيه شبابنا إلى الطاعة يعملونها ، وإلى المعصية يمسكون عنها ، ( والله يحب الصابرين ) آل عمران : 146.
الصنف السابع : ( إن الله يحب المتوكلين )
آل عمران : 159 ولعلك تسألني وما التوكل ؟ التوكل وبكل بساطة : أن تُفَرِّغ قلبك لربك ، أن تتخذ الأسباب في ظاهرها ، في الظاهر لتتقنها ، ولكن عليك أن تفرغ قلبك لربك ، اتخذ الأسباب في أحسن أطوارها وأحسن أشكالها ، ولكن إياك أن يكون قلبك معتمداً على الأسباب ، خذ الدواء ولكن قلبك يجب أن يتوجه ليكون معتقداً بأن الله هو الشافي ، خذ الحيطة والحذر ، ولكن ليكن قلبك مُفَرَّغاً لاعتقادٍ مفاده : إن الله هو الحامي ، هو العاصم ، هو الذي يتولى ، ادرس بإتقان ، وأريدك دارساً ، ولكن ليكن قلبك مفرغاً لربك ، بحيث تقول نبضاته : لا يُنَجِّح ولا يُرَسِّب إلا الله ، فإن قصَّرت بأخذ الأسباب فلن يكون قلبك مفرغاً لربك ، لأن التوكل لا يتجزأً ، ولا يمكن أن نقول عمن يفرغ قلبه لربه - إن فرضنا هذا - من دون أخذ بالأسباب إنه نصف متوكل ، لا . ولا الذي يتخذ الأسباب بكمالها من دون أن يفرغ قلبه لربه لا يمكن أن نقول عنه إنه نصف متوكل ، التوكل لا يتجزأ ، خذ بالأسباب ، وخذ الأسباب وفرغ قلبك لربك ، وكن بما في يَدَيْ ربك أوثق منك مما في يدك ، كن بما في يد الله ، لا تيأس ، لا تحزن الحزنَ السلبي ، كن بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، كن بقلبك واثقاً ، لأن قلبك مفرغ لربك ، كن بالله واثقاً واتخذ الأسباب ، وتوكل على الله فأنت عندها متوكل ، اعتمد على الله بقلبك ، واتخذ الأسباب بظاهرك . أيها الإخوة : لا زلت أذكر قصة سعيد بن جبير ، هذا الرجل الذي لمحت فيه متوكلاً أيَّما توكل ، وذلك عندما جرى بينه وبين الحَجَّاج الحاكم الظالم ، الحاكم السَّفاك ، جرت بينه وبين سعيد بن جبير ، قبل أن يُعدِم الحَجَّاج سعيداً ، جرت قبلها مناظرة بينهما ، قال الحجاج لسعيد بن جبير : ما اسمك ؟ يا شبابنا هذه القصص لا نريد أن نتسلَّى بها ، ولكن نريد أن نتمثلها ، أن نمتثل الأوامر لنتمثل القصة ، والواحد منا يتعرَّض صباحاً ومساءً لحَجَّاج ، والشيطان أكبر حَجَّاج ، يتعرض لحَجَّاج في صورة إغراء أو في صورة تعذيب . قال الحَجَّاج لسعيد : ما اسمك . قال : سعيد ابن جبير ، أي اسمي : سعيد ابن جبير . قال : لا ، بل أنت شقي بن كُسَيْر . عَكَسَ الأسماء ، أعطاه ضد اسمه ، قال : اسمي سعيد ابن جبير ، قال : لا ، الحجاج يريد أن يغير حتى الأسماء وفق معايير أهوائه الضالة المضلة ، قال : لا ، بل أنت شقي بن كسير عكس سعيد شقي ، وعكس جبير كسير ، قال : بل أنت شقي بن كسير ، فقال سعيد : أبي كان أعلم باسمي منك . الإجابة في حدود الجرأة من غير تَمَادٍ لأننا لا نحب الاعتداء ابتداء ، ونرفض الاعتداء ابتداء ، لكننا نَرُدُّ الاعتداء باعتداء ( فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) البقرة : 194 لسنا ضد أحد ولكن لا نسمح لأحد أن يكون ضدنا ، رد عليه بجرأة ما تمادت ولا تعرف التمادي لأننا لسنا من أهل الابتداء بالاعتداء ، ولكننا من أهل الابتداء في العطاء ، في الخير , قال : أبي كان أعلم باسمي منك . قال الحجاج : شقيت وشقي أبوك . فقال سعيد : إنما يعلم الغيب الله . أنت تقول عني بأني شقيت وشقي أبي ، وهذا غيب ، إنما يعلم الغيب الله ولا تعلم الغيب أنت ، رد الاعتداء بجرأة ليس فيها تمادٍ أبداً ، ما أروع مثل هذا الكلام . قال الحجاج لسعيد : لأبدلنك ناراً تتلظى . سأعاقبك وأنهي حياتك بنار تتلظى , فقال : لو أعلم أن ذلك لك ، لو أن الأمر لك وأنك ستعذبني بما تريد في الدنيا والآخرة ، لو أعلم أن ذلك لك ما اتخذت إلهاً غيرك . قال : ما رأيك في الخلفاء ؟ أي في خلفاء بني أمية . أجاب سعيد: لست عليهم بوكيل . الحكمة تقتضي هذا ، لا يرد أن يقول : إنهم أساؤوا ، وإنما قال : لست عليهم بوكيل ، والحُرُّ تكفيه الإشارة . فقال الحجاج : أتريد أن أعفو عنك ؟ قال سعيد : إن كان العفو - أي إن كان ثمة عفو - إن كان العفو فمن الله ، وأما أنت فلا تملك عفواً عن إنسان ، من أنت ؟ إن الذي يطعمني ويسقيني ويميتني ويحييني هو الله وأنت لا تملك عفواً عن إنسان . فقال الحجاج : اختر قِتلة - شكلية للقتل - تريد أن أقتلك بها . فقال سعيد : اختر أنت ، أنت الذي تختار ، فوالله ما تقتلني اليوم قِتلة إلا قُتِلتَ في الآخرة بمثلها ، الجزاء من جنس العمل ، أنت الذي تختار ، لأنك ستنال مثلها من الله ، من ذي العذاب الشديد ، وقال قبل أن يلفظ نَفَسه الأخير رضي الله عنه وأرضاه : اللهم لا تُسَلِّط الحجاج على أحد بعدي . مات الحجاج شر ميتة بعد أن أعدم سعيد بن جبير . أيها الإخوة : كان سعيد بن جبير متوكلاً ، فخاطب بأصول الشرع ، وفرغ قلبه لربه فكان كلامه كلام متوكل ، حَصَّن نفسه بعناية الله عز وجل ، بمحبة الله ، حصن نفسه . الله يحب المتوكلين .
الصنف الثامن : ( إن الله يحب المقسطين )
المائدة : 42 والمقسطون هم الذين يعدلون ، روى الإمام مسلم أن النبي عليه وآله الصلاة والسلام قال : " إن المقسطين عند الله " أي إن العادلين ، وسيبين ذلك النبي في آخر الحديث " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا " في أهليهم ، في حكمهم ، النبي عليه وآله الصلاة والسلام رأى رجلاً من صحابته يدخل عليه ابنه الذكر ، يدخل على هذا الرجل ولده الذكر فيقبله ويجلسه على فخذه ، ويتابع النبي النظر إلى هذا الرجل ، فتدخل ابنته فيقبلها ويجلسها بجانبه ، فيغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول : " يا هذا ما عدلت بينهما " أتقبل ابنك وتجلسه على فخذك ، وتقبل ابتنك وتجلسها بجانبك ، ما عدلت بينهما ، يغضب النبي " الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " العدلَ العدل يا قضاة ، العدلَ العدل يا حكام ، العدلَ العدل يا آباء ، العدلَ العدل يا أمهات ، العدلَ العدل يا أيها المدرسون ، العدلَ العدل يا أيها الشيوخ ، العدلَ العدل يا كل أفراد المجتمع ، لأننا جميعاً في أماكن تستلزم العدل ، ولا يظنن أن واحداً منا يمكن أن يكون غير مكلف بالعدل لأنه لا منصب له ، ولأنه ليس بقاض وليس بحاكم وليس بوزير وليس بمحافظ ، لا . العدلُ حيث أنت " في حكمهم وفي أهليهم وما ولوا " تحرَّ العدل في كل شيء ، تحرَّ بين جوارحك ، تحرَّ العدل في طعامك ، تحرَّ العدل في شرابك ، تذكر إذا كنت أمام أصناف من الطعام ، فَلَربما كنت ظالماً لأن جاراً يسكن بجانبك ليس أمامه صنف واحد فأنت ظالم في أكلك ، أنت ظالم في طعامك ، أنت ظالم في شرابك ، تذكر أيها الإنسان أخاك ، تذكر بأنك مطلوب منك أن تعدل في حكمك في كل شيء ، في كل أعمالك .
هؤلاء الذين يحبهم الله حسب ما جاء في القرآن الكريم ، فهل نسعى أن نكون منهم ، أملي كبير ، ورجائي وفير ، وطَلَبي أخوي يستمد قوته من قلوبكم التي تمتلئ إن شاء الله إيماناً بأن نسعى لكي نكون محققين لغاية وجدانية أميزها الحب ، أن نكون محبوبين من قبل الله ، فيا رب خذ بأيدينا إلى ساح حبك ، وإلى ساح رضوانك ، وإلى ساح غفرانك ، يا رب أسألك أن ترد شباب المسلمين إلى دينك رداً جميلاً ، وأن ترد المسؤولين إلى دينك رداً جميلاً ، وأن تردنا جميعاً إلى دينك ردا ًجميلاً ، أسألك أن تحفظ بلادنا وأن تكون بلادنا محل عنايتك ورعايتك وفضلك وكرمك ورضوانك ، يا رب العالمين ، نعم من يسأل أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق