أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون :
وتأتي ذكرى الاستقلال لتكون موضعَ
حديثٍ في هذه الجمعة . الاستقلال أو الجلاء ليس فِعلةً فُعِلت وانتهينا منها
وأودعناها عُبَاب التاريخ ، ورُحنا نحتفل بذكراها كل سنة احتفالاً كلامياً أو
خطابياً ، الاستقلال كما الأبوة أو الأمومة ، فهل يعتقد أحد منا أن الأبوة
عبارة عن إنجاب قد حصل ثم تنتهي العلاقة بين الأب وبين من أنجب ، أو بين الأم
وبين من أنجبت ؟ الأبوة والأمومة والاستقلال والجلاء مصطلحات مستمرة ، هي
بالأحرى أقرب إلى المناهج ، هي مناهج قبل أن تكون فعلة مستقلة مقطوعة في
التاريخ عن مسيرة الحاضر الذي نعيشه ، لذلك إذا كنا نُصرُّ على أن نفهم
الاستقلال فعلة حدثت في تاريخ مضى عليها أكثر من خمسين عاماً ، وها نحن نحييها
بكلام أو خطب فهذا تصور مشوَّه لمصطلحات قِيَمية - ذات قيمة - قبل أن أتحدث عن
الاستقلال منهاجاً ، كمنهاج ، وقبل أن أتحدث عن الاستقلال قضية مستمرة يجب أن
نعايشها باستمرار لا بد من القول بأننا نتحدث عن استقلالٍ ناقص ، فلا زالت بعضٌ
من أراضينا محتلة ، الجولان في سوريا محتل ، ومزارع شبعا في لبنان محتلة ،
وفلسطين وكل فلسطين إلا قسماً بسيطاً جداً لا يمكن أن يعنون بعنوان الاستقلال ،
حتى وإن ظن بعض الناس أنه مستقل ، فلسطين لا زالت محتلة ، وفلسطين مركز وموطن
للخلافة القادمة ليقظةٍ إسلامية قادمة . أنا أتحدث عن استقلال الوطن العربي
والوطن الإسلامي لذلك أقول : الاستقلال ناقص ، الجولان مُحْتَلّ ، فلسطين محتلة
، مزارع شبعا مُحْتَلّة ، العراق مُحْتَلّ ، قسم أكبر من العراق مُحْتَلّ ، إن
أردنا ندقق وأن نحقق وأن نُمَحِّص قسم أكبر من وطننا العربي والإسلامي شرقاً
وغرباً ، شمالاً وجنوباً مُحتَلة ، لذلك أقول : أيها المحتفلون بالاستقلال
كونوا على ذكرى وتذكر بأن هذا الاستقلال يحتاج إلى متابعة ، يحتاج إلى إتمام
حتى من حيث استقلال الأرض ، فيحتاج إلى متابعة إلى مجاهدة واستمرار ومقاومة ،
وعندها أي عندما تستقل أراضينا العربية والإسلامية ، أزيد على هذا أقول إن
بعضاً من قلوبنا لا زالت محتلة ، فالاستقلال ليس إجلاءً للمستعمر عن الأرض فحسب
، وإنما يعني الاستقلال أيضا أن نجلي المستعمر أو المستخرب عن عقولنا ، فلا
زالت عقولٌ كثيرة في وطننا العربي والإسلامي محتلة بثقافات غربية لا تعرف
الإنسانية ، ولا زالت قلوب كثيرة في وطننا محتلة من قبل عواطف لا تعرف الحقيقة
والحق ، ولا تعرف الأمانة ولا الصدق ، نحن بحاجة إلى متابعة عملية الاستقلال
حتى تستقل الأراضي وتستقل العقول وتستقل القلوب ، وإلا إن كنا نظن بأننا نحتفل
ونفرح باستقلال أو بجزء من الاستقلال وسيغطي هذا على أعيننا أو على قلوبنا فلا
نتابع الاستقلال أعتقد أننا من الخطأ بمكان ، ومن الهوان بمكان . هذا الاحتراز
أحببت أن أذكره قبل أن أتحدث عن الاستقلال منهاجاً ، فالاستقلال ليس فعلة فعلت
في التاريخ وانتهينا منها وها نحن نعزف الأوتار والألحان من أجل أن نتغنى فقط .
الاستقلال منهاج كما الأبوة ، الأبوة منهاج وليست فعله ، الأمومة منهاج وليست
فعله . السؤال : ما أبعاد هذا منهاج الاستقلال ؟
في رأيي أن الاستقلال منهاجاً يقوم على ثلاثة أبعاد أو أركان أو مفاهيم -
سَمُّوها ما شئتم - أنت تحتفل بوطن مستقل فما واجبك حتى تعيش الاستقلال منهاجاً
، ما واجبك حيال هذا الوطن ؟ واجبنا هو :
أولا : الحب . هل تحب وطنك ؟ إذاً أنت مؤمن ، وأريد أن نوسع مفهوم الوطن ليشمل
كل الأراضي العربية والإسلامية ، كل الأمكنة التي نجد فيها أناساً يقولون : لا
إله إلا الله محمد رسول الله ونجد فيها أناساً يعيشون الهمَّ والألم والأمل
الذي نعيشه . هل تحب وطنك ؟ هل طرحت هذا السؤال على نفسك ؟ هل تحب سوريا أيها
السوري مَنْ كنت عربياً كنت أو كردياً ، أعجمياً كنت أو غير أعجمي هل تحب وطنك
، هل أنت متعلق بوطنك ، بتراب أرضك ؟ لأن محبة الوطن من الإيمان ، وإلا ما قيمة
الإيمان إن عشناه مجرداً من غير البحث عن أرضٍ نجسِّد فيها هذا الأيمان ، الأرض
التي نجسد فيها الأيمان هي الوطن . الوطن غالٍ والأرض غالية ، وأريد أن أكرر
على مسامعكم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم وقف أمام مكة - كما جاء في
سنن الترمذي - وقال لها ، قال لوطنه مكة : " والله إنك لخير أرض الله ، والله
أنك أحب أرض الله إليَّ ، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت " ويروي الطبراني أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلاً يسمى أَصِيلاً الغفاري يتغنى بمكة
بالوطن ، وإذ بالنبي عليه وآله الصلاة والسلام يبكي ويقول : " إيه يا أَصِيل "
تابع " إيهٍ يا أصيل ، واني لمكة لمشتاق " . هل تحب بلدك ؟ هل تحب أرضك ؟ الحب
أولى مفردات المنهاج الذي نريد الحديث عنه ، والذي يعني العيش مع الاستقلال
منهاج أولى مفرداته الحب ، فهل تحب بلدك ووطنك ، لا أريد يا شبابنا منكم ان
تحتقروا وطنكم ، ولا أريد أن أشمَّ منكم رائحة جفاءٍ لوطنكم ، الوطن ، الأرض ،
السماء ، الهضاب ، السهول لها فضلٌ علينا ، وهل نعيش إلا من خيرات هذا الوطن ؟!
بالأمس نزل المطر ففرحنا ، لأن المطر خير حَلَّ بالوطن ، وهذا الخير سيعود
علينا ، سنأكل الثمار والحبوب ، سنأكل ما تخرجه الأرض الطيبة ، ولا أريد أن
تربطوا الوطن بمفسدين أو تكرهوا الوطن لكراهتكم المفسدين ، المفسدون أدعياء ،
المفسدون لا علاقة لهم بالوطن حتى وإن كانوا ينتسبون ظاهراً للوطن ، لا أريد أن
تربطوا الوطن بالمفسدين فتكرهوا الوطن ، ولكني أريد ان تربطوا الوطن بالله عز
وجل فالوطن غالٍ ، والوطن عزيز ، وسورية غالية ، وحلب عزيزة ، وهذه الأرض طيبة
نحبها وتحبنا كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبل أحد كما جاء في
مسلم : " أحد جبل يحبنا ونحبه " وحلب تحبنا ونحبها ، وسورية تحبنا ونحبها ،
ولكن المشكلة في الربط بين الفساد والوطن ، وما علاقة الوطن بالفساد ؟ الفساد
وَرَمٌ خبيث في جسم الوطن ، فإن إن كنت تحب الوطن فاسعَ لاجتثاث هذا الورم ،
عند ذلك ستكون محباً حقاً للوطن . الاستقلال منهاج ، وأولى مفردات المنهاج الحب
.
وثاني مفردات المنهاج عطاء . هل تعطي وطنك ؟ هل تبذل من أجل وطنك ، هل تسعى من
أجل أن تخدم وطنك ؟ اني لأرى تقصيراً من أبناء وطني حِيال وطنهم في العطاء
والبذل في الخدمة ، الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال كما في البخاري ومسلم :
" الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة ، فأعلاها لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الاذى
عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " فهل تميط الأذى عن أرض الوطن ، وهل
تحافظ على أرض الوطن ؟ كم خطبنا من أجل الحفاظ على نظافة الوطن ، من أجل الحفاظ
على أرض الوطن ، من أجل أن نقدم للوطن صناعة وزراعة وتجارة وطباً وأستذتاً
ودراسة وتعليماً وتدريساً ، أن نقدم لهذا الوطن لأبنائه . إن من يمشي منا في
طرقنا وشوارعنا سيدرك أن العطاء للوطن من قِبَلنا يكاد يسمى بالنَّضِب ، لا
عطاء منا لوطننا نريد خيراته ، ولا نقدم لوطننا ما يطلبه منا ، وما يطلبه الوطن
منا كما تطلب الأم من ابنها ، في النهاية يعود نفع هذا الذي تطلبه الأم من
ابنها على الابن ، ويعود النفع الذي يطلبه الوطن من المواطن على المواطن ، ولا
يعود على الوطن ، لأن الوطن في النهاية أنت . أنت الذي يجب أن تُمثِّل الوطن .
شوارعنا لا تدل على عطائنا للوطن ، مدارسنا لا تدل على عطائنا الذي يجب أن يكون
للوطن ، جامعاتنا ومديرياتنا ودوائرنا - ولا أريد أن أعمم فمن عمم أخطأ ، لكني
أتحدث عن ظاهرة وكلنا يلحظ ذلك - الباعة في شوارعنا وأماكننا ومحالنا ، أسواقنا
لا تدل على أن المواطنين يقدمون ويعطون للوطن العطاء الذي أوجبه الله والذي
أوجبه العقل والمنطق والإحسان ، لأن الوطن أحسن إلينا وهل جزاء الإحسان إلا
الإحسان ؟! نحن لا نقابل الوطن بعطاء . المفردة الثانية للاستقلال منهاجاً
العطاء فهل نعطي وطننا ؟
أما المفرده الثالثة لمنهاج الاستقلال فالتضحية . يروي الإمام مسلم أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال : " من قُتِل دون أهله فهو شهيد " التضحية بالمال
والنفس ، مَنِ الذي يضحي ؟ أنا لا أتحدث عن عُموم كلي ، ولكنني أتحدث عن أغلبية
، وأكرر في كل أسبوع من الذي يضحي من أجل الوطن ؟ نريد استقلالاً من غير تضحية
، نريد عزة ننشدها لوطننا من غير مجاهدة ، ولا مقاومة . إن ثالث مفردات
الاستقلال منهاجاً التضحية ، ويمكن أن أسمي التضحية جهاداً ، الجهاد من أجل
تحرير الوطن ، من أجل القضاء على المستعمر وفق قواعد شرعية مضبوطة ، لأنني
سأتمم الحديث فأقول : أن مفردات منهاج الاستقلال التي هي الحب والعطاء والتضحية
لا بد من أن تستند إلى قاعدتين أساسيتين : القاعدة الأولى الإخلاص . نريد
مخلصين في حبهم وعطائهم وتضحيتهم ، نريد مخلصين يعملون ذلك لوجه الله : " الرجل
يقاتل شجاعة ، والرجل يقاتل حميه ، والرجل يقاتل ليُرَى مكانه ، فمن في سبيل
الله ؟ قال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " الإخلاص
في حبكم وعطائكم وتضحيتكم هذه هي القاعدة الأولى ، أما القاعدة الثانية العلم
الموثَّق ، السَّداد . قد نرى مخلصين يحبون ، وقد نرى مخلصين يعطون ، وقد نرى
مخلصين يُضَحُّون ، لكننا نريد مع الإخلاص صحة ، نريد مع الإخلاص انتساباً
لمبادئ الإسلام انتساباً صحيحاً موثقاً ، ربما جاهد من جاهد وقاتل من قاتل على
غير أسس علمية شرعية ، على اسس قواعدية مضبوطة ، فذهب جهاده هباءً . لعلنا نرى
كثيراً من المضحين لكنني أناشدهم أن اجعلوا تضحيتكم مستمدة في تعاليمها
وتنفيذها الى قواعد الشرع ، إلى الشرع الحنيف ، إلى القرآن وإلى ، إلى هذا
الدين وإياكم أن تعتمدوا فقط ، فالإخلاص والصحة مبدآن أساسيان لا غِنى عن
المحبين للوطن منهما ، ولا غنى عن المعطين للوطن منهما ، ولا غنى عن المضحين من
أجل الوطن منهما ، اسألوا أهل الذكر أيها المقاومون ، اسألوا أهل الذكر إن كنتم
لا تعلمون أيها المحبون ، اسألوا أهل الذكر الذين يدلونكم على كيفياتٍ شرعية
تُنفذون من خلالها وتطلقون من خلالها تضحياتكم ومقاومتكم وعطاءكم وحبكم ، وإلا
فالقضية ستتحول الى هَرْجٍ ، ستتحول الى فوضى ، لأن كل واحد منا حتى وإن كان
مخلصاً سينفذ ما في داخله من حب وعطاء على ( كيفه كما يقال ) أو على طريقته من
غير التزام بمعطيات الشرع الدقيقة ، سيكون الأمر فوضى ، وهذا ما نرى بعضاً منه
في أمكنةٍ متعددة من عالمنا المحتل ، وأنا أعني ما أقول وأرجو أن أكون مفهوماً
، نريد لمقاومتنا أن تكون مشروعة ملتزمة بشرع الله عز وجل ، ونريد لمحبينا
الذين يحبون الوطن أن يكون حبهم وفق شريعة الله ، وللذين يعطون الوطن أن يكون
عطاؤهم وفق شريعة الله ، وإلا إن لم يكن الأمر كذلك ربما شاهدنا من باب ضربِ
المثال إنساناً فاسداً فاجراً عاهراً يدَّعي العطاء للوطن من خلال شئٍ اسمه
الفن ، سيقول لك أنا أعطي الوطن وهو في حقيقته يفسد الوطن ، ويقضي على الوطن ،
وعلى أخلاق الوطن . القضية مضبوطة بأمرين : بالإخلاص لله وبالصحة وبالالتزام
بشرع الله عز وجل من غير إفراط ولا تفريط . أرأيتم إلى الاستقلال منهاجاً : حب
وعطاء وتضحية على أساسٍ من صحة وإخلاص . هذه معالم منهاج الاستقلال ، أقدم هذه
المعطيات ، أقدم هذه المنظومة هدية لوطني الذي أحب ، هدية لوطني الذي اعشق ،
هدية لأبناء وطني الذين أريد لهم الخير ، هدية لهذه الأرض الطيبة التي نأكل من
خيراتها ، هدية لسماء هذا الوطن الذي أَظَلَّ في يوم من الأيام رجالاتٍ صدقوا
ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً .
أهنئ الوطن بالاستقلال مبدئياً ، أو للوهلة الأولى ، لكني أقول له : تابع عملية
الاستقلال ، واجعل من الاستقلال منهاجاً وها أنذا أكررعلى مسامعك يا وطني قول
الله عز وجل : ﴿ إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله
أفواجاً . فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً ﴾
النصر : 1- 3
إذا جاء نصر الله الغلبة المادية ،
والفتح المنهاج الذي يحمله المنتصرون ليقدموه للناس ، هذا هو الفرق بين النصر
والفتح ، وأنا أقدم وأرتل هذه السورة على مسامع وطني ، فاللهم انصرنا وافتح لنا
وافتح بنا ، واجعلنا يا ربنا من الذين يدعون إلى دينك بحالهم وقالهم ، نعم من
يسأل أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات