أما بعد ، أيها الأخوة المسلمون المؤمنون :
سألني أخٌ بالأمس عن طريق النصر فقلت
باختصار :
النصر طريقه الصبر : واعتمدت في هذه الإجابة على قول سيدي وقرة عيني محمد صلى
الله عليه وآله وسلم كما جاء في الترمذي وبسند صحيح : " وأن النصر مع الصبر ،
وأن الفَرَج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً " قلت لهذا السائل : الصبر طريق
النصر ، والصبر ليس هُمُوداً ولا انكساراً ، والصبر ليس خنوعاً ولا ذلاً ،
والصبر ليس ضياعاً ولا انهياراً . الصبر : عمل دؤوب ، ثباتٌ على المبدأ ،
تضحيةٌ من أجل هذا المبدأ ، الصبر : حركة إيجابية ، لا ينتابها سلب ولا سلبية .
قال لي سائلي متابعاً : وهل نحن اليوم أمة صابرة ، وبالتالي نعرف فيما إذا كنا
سننتصر أم لا ؟ قلت : إليك شيئاً من التفصيل . نحن أمة صابرة بحسب الادّعاء ،
لكننا في حقيقتنا – ولا أعمم – ويظهر أن كمية الصبر المطلوبة من الأمة حتى
تنتصر لم تتحقق ، وإنما الذين لم يصبروا منا سلكوا طريق الانتقام ، والانتقام
ليس طريق النصر . لأن الصبر منهاج ، والانتقام جزاء ، والذي ينتقم هو الله ،
وليس أنت ، ويوم يعتدي الإنسان على إنسانيته يدَّعي لنفسه ما الله تفرد به ،
فيقول : أنا ربكم الأعلى ، وبالتالي يمارس الانتقام . انظر في القرآن الكريم
جاء الصبر طريقاً إلى النصر ، وذُكِر النصر بعدد مرات الصبر ، وهذا يدل على أن
النصر والصبر يشكل أحدهما سبباً ويشكل الثاني مسبباً ، يشكل أحدهما طرف
المعادلة التي نطلبها ويشكل الثاني الطرف الآخر لتلك المعادلة بتوازن وانتظام .
هنالك فرق بين الصبر والانتقام : الصبر منهاج ، والانتقام جزاء ، الصبر أَمَرنا
الله عز وجل أن نسلكه في أكثر من مائة آية ، لكن الانتقام تفرد به ، واقرؤوا
آياتٍ ذكر فيها الانتقام ، فالمنتقم هو الله ، لأن الانتقام جزاء ، ويوم يعتدي
الإنسان على إنسانيته يمارس طريق الانتقام ولا يمارس طريق الصبر ، ولهذا وُصِف
في القرآن غير المؤمنين من المعتدين والكافرين بالانتقام ، قال ربي عز وجل :
﴿
وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد
﴾
البروج : 8
النقمة والانتقام ليست إليك ، وإنما إليك الصبر ، فاصبر ، فاثبت وتحمل ، واسعَ
إصابة الحق ، وضَحِّ من أجل ذلك .
مما يفرزه الصبر الضياء : فهو كما قال عنه سيدنا المصطفى صلى الله عليه وآله
وسلم : " الصبر ضياء " جاء ذلك في حديث رواه الإمام مسلم ، والانتقام من العباد
للعباد ظلام ، وحين نريد أن نفرق بين الضياء والنور نقول : إن الضياء نورٌ ذاتي
ينوِّر غيره ، فالشمس ضياء ، والقمر نور ، والشمس هي التي تضئ القمر ، والصبر
ضياء ، وهو الذي يُضئ بقية الفضائل ، الصبر يفرز ضياءً تنور كل الفضائل ، تنور
الصلاة ، تنور الجهاد ، تنور العمل ، تنور الصدق ، تنور الأمانة ، تنور كل خلق
حميد ، وإذا لم يشع الصبر من ضيائه على سائر الفضائل فإن الفضائل ستضمحل وستخبو
شيئاً فشيئاً : ﴿
واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على
الخاشعين ﴾
البقرة : 45
نريد أمة صابرة ولا نريد أمة منتقمة ، نريد مقاومة صابرة ولا نريد مقاومة
منتقمة . دعوا الانتقام لأعداء الله ، فالمنتقمون من البشر سيسقطون كما سقط
أولئك الذين أرادوا أن يعذبوا المؤمنين الصابرين في الأخدود ، سقطوا هم في
الأخدود . دعوا الانتقام يمارسه أعداء الله . وأنتم أيها العاملون المؤمنون
المسلمون : طريقكم صبر ومصابرة
﴿
اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله
﴾
آل عمران : 200
، ﴿
والعصر . إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر ﴾
العصر : 1- 3
.
الصبر يفرز الرحمة : جاء في البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :
كأني أنظر إلى النبي عليه وآله الصلاة والسلام يحكي نبياً من أنبياء بني
إسرائيل ضربه قومه فأدموه فجعل يمسح الدم عن جبينه ويقول : " اللهم اغفر لقومي
فإنهم لا يعلمون " وفي رواية : " اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون " الصبر يفرز
رحمة ، والانتقام بحد ذاته نقمة ، ولا يورث الانتقام نصراً ولا ضياء ولا رحمة
وإنما يورث الانتقام خذلاناً وضياعاً وخسراناً .
ليس كلامي هذا من أجل علم نتعلمه ، لكنني أنادي من خلاله نفسي وإياكم وكل
المسلمين شعوباً وقادة ، حكاماً ومحكومين : الصبر طريق النصر ، والانتقام لا
يؤدي إلا إلى الخذلان ، الانتقام سُبة ، والله قال :
﴿
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم
﴾
الأنعام : 108
السُّبَّة والسباب انتقام ، ولذلك لا يورث الانتقام إلا الخذلان . جاء في حياة
الصحابة أن سيدنا الإمام علي كرم الله وجهه لَحِق مشركاُ في معركة جهادية صابرة
، تمكن منه فلما هوى بسيفه عليه وإذ بذاك الرجل المشرك المقاتل يبصق في وجه
الإمام علي ، والإمام علي كان قد تمكن منه لم يبق بين سيف الإمام وبين رقبة هذا
إلا اليسير ، وبمجرد أن بصق في وجهه تركه الإمام علي ، فقيل له : يا إمام : لم
تركته ؟ قال لهم : أرأيتم ! لما لحقته كنت أسعى من أجل أن أنتقم لله ، أن أجاهد
في سبيل الله ، فلما بصق في وجهي خشيت أن يخالط انتقامي لنفسي انتقامي لربي
فتركته .
أيها المقاتلون ، أيها المقاومون : هل مقاومتكم تنبثق من الصبر أم تنبثق من
الانتقام ؟! أعداؤنا ينتقمون لكننا نصبر ، ولا يعني الصبر ترك الجهاد ، وإنما
الجهاد من الصبر ، لكننا نجاهد راحمين ، ونقاتل راحمين ، ونصبر راحمين . الصبر
يفرز الرحمة .
والصبر يفرز الأمل والتحمل : روى البيهقي في سننه أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم عَرَضَ له سفيه من سفهاء قريش ، فألقى التراب على وجه النبي عليه وآله
الصلاة والسلام ، فذهب النبي إلى بيته ، فجاءت إحدى بناته ، فجعلت تمسح التراب
من على وجه النبي عليه وآله الصلاة والسلام وهي تبكي . فقال لها النبي صلى الله
عليه وآله وسلم : " أي بنية ! لا تبكي ، إن الله مانعٌ أباك " ناصره . أيها
المسلمون اصبروا ، وإياكم والتفكير في الانتقام ، فالانتقام لا يؤدي إلى نصر ،
لا نريد أن ننتقم ، لا نريد أن نكون أصحاب ردة فعل ، لكننا نريد أن نكون فاعلين
.
الصبر يفرز عدلاً : يفرز تحرياً للعدل ، قال عليه وآله الصلاة والسلام كما في
البخاري ومسلم : " ستكون بعدي أَثَرة وأمور تنكرونها " قالوا : يا رسول الله
فما تأمرنا ؟ قال : " تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم "
﴿
ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا
﴾
المائدة : 8
نحن نريد أن نصبر ، والصبر يفرز العدل ، يفرز عطاء كل ذي حق حقه ، ولذلك نقول :
إن التوجه إلى الكنيسة بحد ذاتها لضربها ليس من مفرزات الصبر . نقول لإخواننا
في كل مكان : ضرب الكنيسة ليس من مفرزات الصبر ، فلا نريد إخواننا إن كانوا قد
فعلوا – وإن كنت أشك في أنهم هم الذين فعلوا ، ربما ظننت وظني يقارب اليقين بأن
الذين ضربوا الكنائس في العراق إن هم إلا أولئك الذين تجندهم المخابرات
الإسرائيلية والأمريكية ، لكنهم يريدون أن ينسبوا ذلك لأفراد منا – على كل نحن
نقول لإخواننا : فليفرز صبركم عطاء للحقوق ، إنصافاً وعدلاً ، فالكنيسة بالنسبة
لنا لا تضرب ولا يجوز أن تضرب . وهذا تعليق أحببت أن أقوله حتى يتبين الناس
المواقف ، وأقول للناس إياكم أن تكون أحكامكم مستنبطة من فكرة الانتقام ، إيانا
وإياكم أن يكون الانتقام هو عنوان حركتنا ، إيانا وإياكم أن نكون سائرين في
طريق الانتقام ، لا ، نحن نسير في طريق الصبر ، لأن الصبر طريق النصر .
الصبر يفرز ابتعاداً عن المواجهة المسلحة ما استطعنا إلا إذا فرضت علينا :
ودليلي على ذلك ما جاء عن سيدي رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام كما يروي
البخاري ومسلم : " لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، وإذا
لقيتموهم فاصبروا " الإسلام لا يريد الحرب ولا يحب الحرب ، وربي يقول :
﴿
كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله
﴾
المائدة : 64
الإسلام إطفائية ، يطفئ الحرب ، والإسلام يريد الجهاد ، والجهاد مقاتلة مدعون
إليها اضطراراً ﴿
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا
﴾
الحج : 39
لكننا لا نبادر بالقتال قبل أن نلقى من يقاتلنا ويستجرنا للمقاتلة . فالصبر
يفرز ابتعاداً عن المواجهة المسلحة إلا إذا اضطررنا " وإذا لقيتموه فاصبروا ،
واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " هكذا قال النبي عليه وآله الصلاة والسلام
عندما نضطر إلى المواجهة بالسيف ، عند ذلك ستكون الجنة تحت ظلال السيوف " اللهم
اهزمهم وانصرنا عليهم يا مجري السحاب ، وهازم الأحزاب انصرنا عليهم " إنه حديث
متكامل يبين لنا منهاجاً ينبغي أن لا نحيد عنه قيد أنملة .
أقول هذا الكلام حتى نعيد النظر في مسيرتنا العملية والأخلاقية والجهادية . ترى
هل نحن نتصرف على أساس من انتقام أو على أساس من صبر ، إن كان الأمر على أساس
من انتقام فلا نَصْرَ أمامنا ، إن كان على أساس من حقد ، فلا نصر أمامنا ، وإن
الأمر كان على أساس من صبر وعلى أساس من إرادة الخير لكل الناس فالنصر لنا ،
لأننا نريد لكل الناس الخير ، أولسنا أتباع الرحمة المهداة ، أولسنا أتباع من
قال الله عنه : ﴿
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
﴾
الأنبياء : 107
وهل الرحمة تلتقي مع الحقد والانتقام ؟ لا يا إخوتي ، بل تلتقي مع الجهاد حينما
نضطر إليه ، حينما يعتدي علينا من يعتدي كأولئك الذين يعتدون على أطفالنا في
القدس ورفح وغزة وطولكرم ، الذين يعتدون علينا في الضفة والقطاع وعمق القدس ،
في المنطقة الخضراء ، هؤلاء معتدون جردوا سيوقهم وألجموا ألسنتهم ، وقالوا : لا
مناص إلا القتال ، فنحن مضطرون لقتال هؤلاء ، ولكن بأخلاق الإسلام ومن منطلق
الصبر لا من منطلق الانتقام ، فمن آمن منهم قبلناه ، ومن رمى السلاح تركناه ،
ومن واجهنا واجهناه مثلاً بمثل من غير تعد
﴿
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين
﴾
البقرة : 190
كلامنا هذا ينطبق على كل عدو للإسلام والمسلمين يشهر السيف في وجوهنا ولا يسمح
للساننا أن ينطلق ليعبر عن الصبر وعن مكنون صدورنا من إرادة خير لكل الناس ،
فنحن رسالة الرحمة ، نحن رسالة الأمان ، نحن رسالة الاطمئنان ، نحن رسالة
التمكين ، نحن رسالة التمتين ، نحن رسالة التمدين ، نحن رسالة الحضارة . هذا
الذي قلته ينسجم مع طبيعة الرسالة وإلا فلا ينسجم .
يا رب : أسألك بأسمائك الحسنى أن تجعلنا من الصابرين ، أسألك أن تجعلنا من
الراحمين ، أسألك أن تجعلنا من المضيئين ، أسألك أن تجعلنا من المنتصرين ،
أسألك أن تجعلنا من العادلين الذين يعدلون في كل ما وَلُوا ووُلُّوا ، أسألك أن
تجعلنا من الذين يبتعدون عن ساح المواجهة السلاحية ابتداء ومبادرة إلا إذا
اضطروا ، عند ذلك فأنت الذي أذنت لهم . يا رب العباد ، نعم من يسأل أنت ، ونعم
النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات