كتاب جديد للدكتور محمود عكام – كسابق كتبه – يحرص على أن
يجد لأعماله موقعاً أصيلاً من تلبية تطلعات الإنسان , بعد
التعرف الصحيح إليه.
والقارئ يلمح هذا الحرص من مقدمة كتابه التي أفرد لها
عنواناً خاصاً : " سيدي رسول الله : الصلاة عليك فريضة
منوّرة فهنيئاً لمن استنار " فنجده ينادي – من جملة
مخاطبيه – شباب الأمة : " اعلموا يقيناً أن روحنا تستغيث
جوعاً بعدما أَشبعنا الجسد إلى حدّ التخمة فهل من مجيب ؟!
وما هذا الذي فعلنا إلا بعضٌ من مساهمة في إشباع حميد
وإمتاع كريم لروح اتصفت في أصلها بالطهر والسمو ، ولقد آن
الآوان لمتابعة الإشباع والإمتاع . فالأنين تَعَالى ،
والاستغاثة توالت ، فَصَلُّوا يا بني قومي على نبيكم صلاةً
توصلكم إلى اتخاذه أسوة حسنة في كل سلوككم " ص 14 .
وبعد المقدمة يفرد الدكتور محمود فصلاً خاصاً لمستندات
فريضة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث
النبوي الشريف تلي ذلك صيغ الصلوات التي اختارها المؤلف
فشكَّل منها روضاً لنزهة المحبين لسيد المرسلين صلى الله
عليه وآله وسلم .
بلغ عدد الصيغ المختارة في الكتاب /256/ مئتان وستاً
وخمسين صيغة تتفاوت حجماً بين القصيرة في سطرين والطويلة
التي تغطي صفحتين إلا أنها تألقت جميعاً لتصنع من حول
القارئ المعايش لها جواً من الأنس والروحانية المشرقة التي
تحملك بلطفها فلا تكاد تترك الكتاب حتى آخر صفحاته.
والحق أن هذا الجو القدسي المفعم بالجلال المحلَّى بالجمال
الذي تخلقه أجواء الصلوات على رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ليس الميزة الوحيدة للكتاب وإن كانت ميزة تغني –
ولا شك – عن كل ما سواها.
ولمن شاء من القراء أن أعدد له بعض ما رأيت في الكتاب من
خواص يمتاز بها أقول :
1- يؤدي الكتاب خدمة مهمة للإنسان المسلم إذ يشكل بالنسبة
له وسيلة يؤدي بها – بصورة حسنى – واجب الصلاة على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمر به القرآن الكريم وأكدت
عليه السنة الشريفة .
ولا شك في أن كتباً كثيرة سَلَفت لمؤلفين فضلاء اعتنت
ببيان معالم هذه الفريضة , أذكر منها كتاب " الصلاة على
النبي صلى الله عليه وآله وسلم " لعالم حلب الجليل المرحوم
الشيخ عبد الله سراج الدين , إلا أن كتاب الدكتور محمود
عكام يأتي كالتطبيق لأمثال كتاب " الصلاة على النبي صلى
الله عليه وآله وسلم " الذي اعتنى ببيان معنى الصلاة
المطلوبة وفضائلها وأحكامها وآدابها في المقام الأول , مع
التأكيد على أفضل الصيغ المأثورة في ذلك , تاركاً المجال
رحباً لإبداع القارئ أو جهده , في إنشاء صيغ جديدة من
الصلوات على النبي صلى الله عليه وآله وسلم , أو في
استخلاصها مما أبدعه المصلون على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم عبر الأزمنة والدهور , وهو ما تكفل به كتاب الدكتور
محمود عكام .
2- تم اختيار الصيغ الموجودة في الكتاب وهي مئتان وست
وخمسون كما ذكرنا من أكثر من ألف صيغة وقعت بين يدي المؤلف
, ضمَّتها مجاميع الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لعدد من العلماء السابقين .
والملاحظ أن من أهم ميزات الصيغ المختارة بُعدها عن التكلف
في الألفاظ , أو الغرابة في المصطلحات أو الإبهام في بعض
العبارات , مما يمكن أن نجده في كثير من تلك المجاميع
المذكورة , ومنها أعمال المحب الفاضل الشيخ يوسف النبهاني
رحمه الله .
3- اعتنى المؤلف في مقدمة الكتاب وكذلك في خاتمته ببيان ما
يمكن تسميته (حكمة) الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم , أو فلسفة التكليف بها .
وهي حكمة متعددة الجوانب إلا أنها تلتقي جميعاً في صالح
حماية الإنسان ورعايته , سواء على الصعيد النفسي , وهو
جانب له أهميته القصوى أو على الصعيد السلوكي العملي ,
الذي لا يقل قيمة عما سواه.
فالمصلي على المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم يلقى
في الدنيا " الراحة في فؤاده والسَّدَاد في لسانه ،
والصَّفاء في بصيرته ، والرشاد في عقله , وما ذلك عمن اتصل
بك – رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – ببعيد " المقدمة
ص 10.
4- جمعت صيغ الكتاب مما أثر عن أناس أولعوا بالمصطفى
الكريم صلى الله عليه وآله وسلم , فكانت صلاتهم عليه ثمرة
لمعرفة به قامت بها نفوسهم , ونتيجة لمعايشة صادقة لأحواله
الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم , ولذا صح لنا أن نقول :
إن هذا الكتاب – بما حفل به من صلوات شريفة – يشكل ديواناً
جليلاً لأوصاف الكمال وحلية الجمال التي تمتع بها المصطفى
المختار محمد صلى الله عليه وآله وسلم . بل ويزيد إلى ذلك
إشارات وضَّاءة إلى كثيرٍ من معالم سيرته ودعوته وجهاده
الشريف صلى الله عليه وآله وسلم .
وحسبي هنا شاهداً أن أنقل الصيغة ذات الرقم أربعة وعشرين ,
وهي المأثورة عن الإمام السجاد زين العابدين بن الحسين رضي
الله عنه والتي فيها : " اللهم فصلِّ على محمد أمينك على
وحيك ونجيبك من خلقك وصفيِّك من عبادك , إمام الرحمة وقائد
الخير ومفتاح البركة , كما نصَّب لأمرك نفسه , وعرَّض فيك
للمكروه بدنه , وكاشفَ في الدعاء إليك حامَّته ، وحارب في
رضاك أسرته , وقطع في إحياء دينك رحمه ، وأقصى الأدنين على
جحودهم , وقرَّب الأقصين على استجابتهم لك , ووالى فيك
الأبعدين ، وعادى فيك الأقربين , وأدأب نفسه في تبليغ
رسالتك وأتعبها في الدعاء إلى مِلّتك , وشغلها بالنصح لأهل
دعوتك , وهاجر إلى بلاد الغربة ومحل النأي عن موطن رَحله
وموضع رجله ومسقط رأسه ومأنس نفسه , إرادة منه لإعزاز دينك
واستنصاراً على الكفر بك , حتى استتب له ما حاول في أعدائك
، واستتم له ما دبَّر في أوليائك ، فنهَدَ إليهم مستفتحاً
بعونك ، ومتقوياً على ضعفه بنصرك , فغزاهم في عقر ديارهم ،
وهجم عليهم في بُحبوحة قرارهم , حتى ظهر أمرك وعَلَت كلمتك
ولو كره المشركون , اللهم فارفعه بما كدح فيك إلى الدرجة
العليا في جنتك , حتى لا يُساوى في منزلة ولا يكافأ في
مرتبة ولا يوازيه لديك مَلَكٌ مُقرب ، ولا نبي مرسل ،
وعَرِّفه في أهله الطاهرين ، وأمته المؤمنين من حسن
الشفاعة أجَلَّ ما وعدتَه , يا نافذ العدة ، يا وافي القول
، يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات إنك ذو الفضل
العظيم الجواد الكريم " .
5- تشكل معظم صيغ الصلاة التي حفل بها الكتاب قطعاً
متجاورة من جنات البلاغة العربية في أبهى صورها جمالاً ،
وهي خاصة تعود إلى أصالة أصحاب هذه الصلوات – وهم من هم من
أهل بيت النبوة والصحابة وكبار العارفين – في عوالم
الفصاحة والبلاغة .
كما يؤكد ذلك على ما عرف به صاحب الكتاب الدكتور محمود
عكام من ذوقٍ لغوي راقٍ ، وحسٍّ أدبي رفيع خَبِرناه مراراً
فأمتعنا كتابةً وخطابةً ومحاضرات .
فما سقناه من مثال كبيرُ شاهد على ما قيل غير أني أزيد
القارئ الشغوف شاهداً آخر هو الصلاة ذات الرقم مئتان وسبعة
وفيها : " ... اللهم اجعل فضائل صلواتك ونوامي بركاتك
وشرائف زكواتك ورأفتك ورحمتك وتحيتك على محمد سيد المرسلين
وإمام المتقين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين قائد الخير
وفاتح البر ونبي الرحمة وسيد الأمة ، اللهم ابعثه مقاماً
محموداً تزلف به قربه وتقر به عينه يغبطه الأولون والآخرون
، اللهم أعطه الفضل والفضيلة والشرف والوسيلة والدرجة
الرفيعة والمنزلة الشامخة المنيفة ، اللهم أعطِ سيدنا محمد
سؤله وبلغه مأموله واجعله أول شافع وأول مشفع ، اللهم أعظم
برهانه وثقل ميزانه وأبلج حجته وارفع في أعلى المقربين
سنته وتوفنا على ملته وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه غير خزايا
ولا نادمين ولا شاكين ولا مبدلين ولا فاتنين ولا مفتونين
يا رب العالمين " .
وللكتاب بعد ذلك فضائل جمة أخرى ليس آخرها إعادة نشر
مختارات مما طوته أجنحة الكتب من أدعية الصالحين وصلواتهم
على المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم منذ عهد الصحابة وعلى
رأسهم علي وعمر وأبو بكر وابن مسعود , مروراً بكبار
العارفين كابن عربي والشاذلي وسواهما , وصولاً إلى العصر
الحاضر .
وكانت أحسن خاتمة للكتاب صيغة مختارة دبجها يراع الدكتور
محمود عكام في الصلاة على الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم
وفيها : " اللهم أنت اصطفيت محمداً واجتبيته وأرسلته
وأمّنته على شريعتك إلى الناس إلى يوم القيامة , فبحق
الاصطفاء الذي هو فعلك ، والاجتباء الذي إليك وحدك دون
سواك , صَلِّ صلاة رحيم بذاته على رحيم بفضلك عليه ، وصلاة
مرسِل عليمٍ على رسول معلَّم منك ما لم يكن يعلم ، وصلاة
قيّوم السموات والأرض على قائم بالأمر ، وصلاة رؤوف بنعمتك
عليه ، وصلاة شهيدٍ على شاهد ، وصلاة آمرٍ وناهٍ على بشير
ونذير ، وصلاة ذي الجلال والإكرام على صاحب الشفاعة
والنوال ، وسلّم عليه سلامَ علام الغيوب على من هو النقطة
في عالم الشهود ، وعلى آله نجوم سماء مظهرك الأجلى ومعادن
الفضل في خلقك الأسمى وصحبه المختارين له قبلاً . وتقبل من
عبدك ( محمود ) جهدَه في الفهم الذي تثيب عليه ، وألحقه
برحمتك في سِجلّ مَنْ بالأصل رُحموا ، وبالفَرعية اتَّسموا
، فأنت الملجأ والموئل ولا حول ولا قوة إلا بك " .
ومما تجدر الإشارة إليه في الكتاب تلك القصيدة الفريدة في
مدح المصطفى التي ألحقها الدكتور محمود عكام بكتابه وهي
لنزيل حلب العلامة اللغوي محمد بن أحمد الهواري الأعمى
المعروف بابن جابر الأندلسي , والمتوفي عام 780 هـ 1378 م
, والتي سلك فيها صاحبها مسلكاً عجيباً لطيفاً , إذ
ضَمَّنها أسماءَ السور القرآنية على الترتيب , من الفاتحة
حتى الناس ولكن بصورة سَلِسَة جميلة يولع بها الذوق الأدبي
الرفيع .
أخيراً : لا يمكن أن يدع الإنسان هذا الكتاب إلا ليعود
إليه مرة أخرى والشوق يحدوه إلى التنزّه في روض الصلوات
على سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم , ولا بد أنه
سيتوقف عند محطاتٍ شتى ضمن هذه الرياض , ولا شك في أنه
سيكون من أجمل تلك المحطات ذاك الإهداء المفعم بالحب
والثناء والولاء لحضرة المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله
وسلم , والذي صدر به الدكتور محمود عكام كتابه : الإهداء :
إلى صاحب النسب المعطر والجوهر المطهر ، والباطن المكمل
والظاهر المُجَمَّل ، سيد ولد آدم مَنْ بيده لواء الحمد
يوم القيامة ، سيدي وقرة عيني المصطفى المجتبى : محمد بن
عبد الله صلوات الله وسلاماته عليه وعلى آله
.
محمد أديب ياسرجي
التعليقات