آخر تحديث: السبت 27 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
المداراة

المداراة

تاريخ الإضافة: 2006/05/05 | عدد المشاهدات: 3717
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون: لطالما أكدنا ضرورة العناية في المساحة الاجتماعية التي تشكل البنية التحتية لأي مجتمع ولطالما أكدنا على ضرورة العمل الاجتماعي فذاك أهم من العمل السياسي ومن العمل الاقتصادي، لكننا نرى – ومما يؤسف له – أن جلنا غدا يصب اهتمامه في الميدان السياسي وغدا مقصراً في الميدان الاجتماعي ولهذا أحببت بين الفينة والأخرى أن أسوق موضوعاً اجتماعياً عسى أن نؤكد وأن نمعن في التأكيد على ما قلناه من أن المساحة الاجتماعية يجب العناية بها عناية تامة أكثر مما نحن عليه اليوم، وضمن هذا الميدان الذي هو الميدان الاجتماعي ألمحت منذ أكثر من شهرين في حديثي عن سوء الخلق وبعض مظاهر سوء الخلق والحديث عن الأخلاق حديث في الميدان الاجتماعي، ألمحت منذ شهرين وأنا أتحدث عن مظاهر سوء الخلق إلى مصطلحين، وإذ بي منذ خمسة أيام تأتيني رسالة من بعضكم يذكرني مرسلها بما كنت قد وعدت به وهو الحديث عن مصطلحين هامين من الناحية الاجتماعية ألا وهما المداراة والمداهنة فما الفرق بين المداراة والمداهنة، ولا سيما أننا أصبحنا بين مداهن لسلطة أو لحكم أو لغني، وبين مدارٍ يوجه المجتمع وقد اختلط الأمر على الناس فالناس أضحوا يرون المداهن مداريا وربما ظنوا المداري مداهناً. أحببت أن تكون خطبتي اليوم عن المداراة لتكون خطبة الأسبوع القادم عن المداهنة فإذا ما وضعت معايير المداراة أمام أعينكم وعلى أسماعكم فإنني أيضاً سأضع معايير المداهنة أمام أعينكم وعلى أسماعكم عسى من خلال هذا الذي سنسمعه أن نميز بين المداري والمداهن حتى لا تختلط الأمور علينا وبالتالي ربما ظلمنا من ظلمنا من غير تفكير جادٍ منا. المداراة: وها أنا أسجل ما يمكن أن يكون تجليات للمداراة وصوراً للمداراة وسأتحدث في الأسبوع القادم عن صور المداهنة وبالتالي آمل من المستمع أن يكون على بينة من أمره وهو يتحدث عن هذين المصطلحين. المداراة فضيلة والمداهنة رذيلة, هذا أولاً. المداراة ترجع إلى حسن اللقاء وطيب الكلام والتودد للناس وتجنب ما يشعر بغضب أو سخط من دون خدش أو ثلم للدين في جهة من الجهات. قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الإلفة. ثالثاً من المداراة أن يلقاك من عرف بنهش الأعراض ولمز الأبرياء فتطلق له جبينك وتحييه لعلك تحمي جانبك من لسانه أو تخفف من نهشه، جاء في الصحيح عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: "ائذنوا له فبئس أخو العشيرة" فلما دخل ألان له الكلام، وفي رواية تطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه وانبسط له، فقلت: - والقائل السيدة عائشة - : يا رسول الله: قلتَ ما قلت ثم ألنت له القول. فقال: "إن شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه" وفي رواية "من أكرمه الناس اتقاء فحشه". رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دارى هذا، وهذا من شر الناس، وهو إن لم يُدارى فسينهش، إن لم يدارى فسيلمز، وبالتالي داراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في لين الكلام، وتطلق في وجهه غير أنه لم يصفه بصفة ليست فيه، فإن وصفه بصفة مادحة ليست فيه عند ذلك تتحول المداراة إلى مداهنة. على أن هذا التطلق والانبساط في الوجه لا يمنع من أن تشعره بطريق سائغة أنك غير راضٍ عما يشيعه في الناس من أذى. أريد أن أركز على ما قاله سيدي رسول الله: "إن شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس ومن ودعه الناس من أكرمه الناس اتقاء فحشه" أريدك أيها المكرَّم أنت حيث كنت مسؤولاً، مديراً، وزيراً، أو أستاذاً، أو عاملاً في جهة عسكرية. انظر إلى من يكرمك، انظر إلى من يتركك، انظر إلى من يدعك، هل يكرمك اتقاء فحشك ؟ هل يكرمك اتقاء شرك ؟ هل يكرمك لأنك إن لم تكرم من قبله فستعاقبه ؟ عند ذلك فأنت شر الناس منزلة عند الله، القضية تتعلق بنا مسؤلين كنا، مدرسين كنا، فأنا أخشى من أن الناس تكرِم من تكرم وربما أهملت من أهملت لأن من أهملت لن يؤذيها إذ تهمله، أما من أكرمت فإنه سيؤذيها بلسانه ويده إن لم تكرمه، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس، ومن ودعه الناس، من أكرمه الناس اتقاء فحشه، قلت منذ أكثر من خمسة عشر سنة على هذا المنبر: إن اعتبار الشخصية شخصية كبيرة أو شخصية عظيمة أضحى ينظر إليه من هذا المنظار، فمن كان يتكلم بالفحش ومن كان يقدر على الإساءة إليك ومن كان يرعبك إذ تقف أمامه ومن كان يخيفك عندما تتحدث معه عندها يدعى هذا الذي يخوف ويرعب ويؤذي ويبطش يدعى صاحب شخصية كبيرة. ليس ورب الكعبة ذلك الإنسان بصاحب شخصية بل هو كما قال سيدي رسول الله "إن شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس ومن ودعه الناس من أكرمه الناس اتقاء فحشه" فلنتعرف على هذا لا أقول نحفظ هذا الحديث من أجل أن نميز فلان من فلان لا، ولكن أريد أن نحفظ هذا الحديث حتى نراقب أنفسنا، أنت هل هذا الذي يكرمك عندما تكون أعلى مستوى ولو بقليل من ذاك الذي يتركك، يتركك اتقاء الإيذاء الذي يصدر عنك لو لم تكرم من قبله ؟ إذاً فكر في نفسك في إكرام الناس لك وما مبعث هذا الإكرام، فذاك أمر يساعدك على بناء شخصيتك وبالتالي يساعدنا على أن نربي أفراد مجتمعنا على الحرية والتلقائية والأريحية والفهم والعلاقة الواضحة والعلاقة الكريمة، وإلا لا نريد يا شيوخ حتى أنتم يا شيوخ لا نريد أن تحولوا الناس الذين أمامكم إلى عباد لكم لأنهم يكرمونكم أحياناً اتقاء شر صدر عنكم، يسكتون لا يجيبون ولا يتكلمون ولا يسألون، يخافون أن تبطشوا بهم بألسنتكم يخافون أن تسلقوهم بألسنة حداد. أيها الشيوخ، أيها المسؤلون، أيها المعلمون، أيها المديرون، أيها الوزراء، أيها الضباط: علينا أن نكون في المداراة ولكن انتبهوا أيها المدارَون. من المداراة التلطف في الاعتذار فإن علمت إذ تعتذر أن اعتذارك سيثير ألماً عند المعتذر منه فتلطف في اعتذارك. لا تقل لمن تعتذر إن كان هذا الذي تعتذر منه يحبك لا تقل له معتذراً بأنك كنت مريضاً مرضاً شديداً، فإن هذا سيؤثر عليه تلطف في الاعتذار وانتبه حتى لا يكون اعتذارك مؤلماً لمن تعتذر منه وهذا من المداراة. من المداراة أن تخالط الناس فتسايرهم بالخير وتعاشرهم بالمعروف وتزايلهم بالشر وتفارقهم في المنكر وقد جاء بالمثل العربي الذي تبني من قبل الإسلام: خالطوا الناس وزايلوهم، أي عاشروا الناس في الأفعال الصالحة وزولوا عنهم في الأفعال المذمومة. من المداراة أن ترميك الغربة في بلد ما فتجد أن خلائق، أي أن أخلاق أهلها وعاداتهم على غير ما تعرف، فما عليك إلا أن تترك كثيراً مما كنت تعرف وأن تأخذ بما يعرفون فإن ذلك من حسن الفعال، دارهم ما دمت في دارهم وأرضهم ما دمت في أرضهم وكل هذا مشروط بأن لا يكون فيما تأتي وتذر محذور أو محظور شرعي. كثير من الناس يفاجؤونك، يأتونك يزورونك يقولون لك عادتي كذا ولا أستطيع تغيير عادتي وبالتالي يفرضون عليك عاداتهم وأنت لا تملك أن تؤمن لهم عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وبالتالي تكون محرجاً أمامهم، نقول لهؤلاء الذين يجدون أنفسهم في بيئة غير بيئتهم تأقلموا مع البيئة الجديدة وإياكم أن تأسركم عاداتكم، فخير العادة كما يقال أن لا يكون لك عادة، لا تقل لزوجتك وولدك وأختك وصديقك وزميلك عندما تحل في مكان أريد تنفيذ عاداتي وإلا فأنا لا أستطيع لأنني تعودت على كذا، وبالتالي أريدكم أن تستنفروا لتلبية عاداتي وأخلاقي وأعرافي. لا، تكن هكذا فإن من يفعل هذا ليس بمداري وسيجانب المداراة. جاء في الحديث الذي قال عنه علماء الحديث بأنه حسن، أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم استقبل قبيلة عربية تجعل في كلامها محل اللام في أل التعريف ميماً فعندما سألوا النبي عليه الصلاة والسلام سؤالاً عن الصيام قالوا: يا رسول الله هل من أمبر أمصيام في أمسفر أي السؤال هل من البر الصيام في السفر قالوها حسب لهجتهم. رسول الله لم يقل لهم قولوا هل من البر الصيام في السفر لا لكنه أجاب بلغتهم فقال: "ليس من أمبر أمصيام في أمسفر" التفت إليه الإمام علي قال: يا رسول الله من علمك هذا فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أدبني ربي فأحسن تأديبي". يا طوبى من قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي ويا ويح من أحرج الناس في عاداته وتقاليده وهو يستطيع أن يتخلى عن هذه العادات وهذه التقاليد ولا سيما أنت تعرفه بأنه سيغير عاداته إذا كان أمام ذي سلطة، أما عندما يكون مع من هو أضعف منه فلن يتنازل عن عاده من عاداته وهذا ليس من المداراة. من المداراة أن تثني على الإنسان – وليس من المداهنة – بما هو فيه إذا قصدت حمله على ما هو أرفع وإن كان في الممدوح خصال شر فسكت عنها آنئذ من المداراة أن تذكر خصلة موجودة فعلاً في هذا الإنسان وأن تريد من هذا الذكر أن تشجع الإنسان على خصال خيرة وأن تنمي فيه هذه الخصلة الخيرة، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولكن المشكلة - وسنتحدث عن المداهنة – أننا أصبحنا عندما نقف أمام من لا طمع لنا به، لا نذكر خصاله الخيرة وإن كانت كثيرة ونحاول ما دام لا يرعبنا ولا يخيفنا وإن كانت كثيرة، ولكن عندما نقف أمام من يحمل العصا بيد، أو أمام من يحمل بريق المال في يده أيضاُ، أصبحنا نُجَيِّش ذكر الخصال الخيرة مع أنها ليست فيه. نحن نقول: لا تبخسوا الناس أشياءهم. إن كان في هذا خصلة خير فعلاً فاذكرها ولكن إياك ألا تذكر خصلة الخير عند إنسان آخر لا يملك ما يرعبك أو يخيفك. من المداراة أن تسعى في الصلح بين اثنين فتُنمي، أي تنقل ما ذكره كل منهما في صاحبه من خير، وتغض الطرف عما قالاه في بعضهما من سوء، فهل يحدث هذا أم أننا نحاول أن نرتفع عند الاثنين بذكر ما قاله كل منهما في الآخر من سوء. أصبحنا نتطفل ونصعد على حساب وعلى جماجم الآخرين وأصبحت منفعتنا هي التي نسعى إليها وإن كانت على حساب وعلى منافع الآخرين. أصبحنا في مجتمعنا لا شخصية لنا، فالواحد منا يبتعد عن المداراة كثيراً ويقترب من المداهنة كثيراً، أصبحنا لا شخصية لنا، نسوق مع السوق، والمهم أن نمشي الأوضاع، والمهم أننا نريد أن نعيش ولو لم نكن معروفين في سجلات التاريخ التي خصصت لمن له شخصية واضحة. المهم أن نعيش ونأكل ونشرب وهذا ليس عيشاً، وقديماً قالت العرب: كم من عائش مائت، وكم من مائت عائش. فهل تريد أن تكون ميتاً وأنت تعيش أم تريد أن تكون عائشاً حتى بعد موتك. من المداراة أن تعرف أن أناساً بأعيانهم وقعوا في مخالفة فترغب أن ترشدهم إلى الصواب فتبتعد عن ذكر أسمائهم خشية نفورهم وإعراضهم، فتلجأ إلى التعريض، من باب ما بال أقوم – هكذا كان رسول الله - أو إن أناساً يعملون كذا، أو سمعت جماعة ما عملوا كذا، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعل هذا كما جاء في البخاري: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم في الصلاة"، "ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله"، "ما بال دعوى الجاهلية" فاستعمل أيها الناصح المعاريض إذ تكفي النصيحة ولا تلجأ إلى التصريح المحرج إلا عند الاضطرار ولتكن النصيحة بقدر. أخيراً: من المداراة أن يوجه الداعي أو الناصح الإنكار أو الاستنكار إلى نفسه وهو يعني السامع كقوله تعالى: ﴿وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون﴾ يس: يسائل النبي نفسه لم لا أعبد الذي خلقني والذي إليه سأرجع ؟ هو يتكلم عن نفسه لكنه يعني الآخرين. آمل أن نعيش في مجتمعاتنا في المساحة الاجتماعية بأخلاق الإسلام، بسمات الإسلام، بهوية الإسلام الرائعة التي تربي في الإنسان عقله، والتي تربي في الإنسان وجدانه، والتي تربي في الإنسان تفكيره، والتي تربي وتعنى بجسم الإنسان، والتي تربي في الإنسان علاقاته لا سيما تلك التي تربطه بإخوته في الإيمان والإسلام، ولا سيما تلك التي تربطه بمواطنيه، ولا سيما تلك التي تربطه بأهله. فيا أمة الإسلام إلى الأخلاق، إلى المساحة الاجتماعية، إلى التحلي بهذا الذي جاء به الإسلام، إلى المداراة، ولكن إيانا والمداهنة التي سنتحدث عنها في الأسبوع القادم إن شاء الله. اللهم اجعلنا على أخلاق الإسلام ما حيينا، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أتباع سيدنا محمد عليه وآله الصلاة والسلام في الأخلاق والأفعال والأحوال، نعم من يسأل أنت، ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

التعليقات

شاركنا بتعليق