أما بعد, أيها الإخوة المؤمنون:
تحدثنا في الأسبوعين الماضيين عن المداراة والمداهنة, وها أنا ذا في هذا اليوم أقول لكم: إن المداراة قوامها الحكمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أما قوام المداهنة فالممالأة والمجاملة والنفاق, أقول هذا من أجل أن نفحص أنفسنا هل نحن في هذا الأمر ندخل تحت عنوان المداراة أم المداهنة، والمعيار في معرفة ما إذا كنا مدارين أم مداهنين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإن كنا ونحن نداري نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر إذاً فالمداراة هي عنواننا، وإن كنا ونحن نظن أننا نداري وقد غابت عنا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فنحن في مداهنة. لذلك أحببت في هذا اليوم المبارك أن أقول لكم وأن أذكركم بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل غيابها من أذهاننا وعن أذهاننا، من واقعنا، من كلامنا هو الذي يحول المداراة الموهومة إلى مداهنة محققة, فسؤالي يا أخي المسلم: هل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر حينما تكون مع نفسك ومع أهلك ومع المسؤول عنك ومع هذا وذاك، أم أن هذه الفريضة تغيب عنك ولا تخطر على بالك، وبالتالي كما قلت لك وأكرر: لا تظنن أنك في مداراة إن غابت عنك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل أنت في محض وفي خالص المداهنة, فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي ألا تغيب عن بالنا حيثما كنا وأينما وجدنا، فالأمر كما قلت لكم فريضة، أوليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وأنا أسأل دائماً هل يخطر ببالك وأنت في مجتمع ما وفي مكان ما وترى منكراً أو ترى حاجة من أجل أن تأمر بمعروف هل يخطر ببالك الحديث الذي نعرفه جميعاً - الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" هل يخطر ببالك هذا الحديث وأن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة فعلاً كفريضة الصلاة والزكاة والصيام والحج أم أنك في غياب عن هذا ؟
أريدك أن تستحضر دائماً هذه الفريضة حتى تتخلص من شيء كما قلت لك اسمه المداهنة وتكون في رحاب المداراة, فالمداراة خلق حميد والمداهنة خلق ذميم, تذكر هذه الفريضة أولاً.
وتذكر أن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمرٌ بايَعَ الصحابة الكرام عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليك أن تبايع رسول الله على ذلك، فقد جاء في البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت أنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم" هذا ما يجعلك في المداراة ويخلصك من المداهنة على أن تقول الحق أينما كنت ولا تخاف في الله لومة لائم, فما بالكم والواحد منا يمتنع عن ممارسة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا خوفاً من سطوة أحد ولكن خشية من أن تفوته بعض المنافع الموهومة فإنه إن وُجد أمام مسؤول، أو أمام إنسان غني أو أمام إنسان يشعر أنه أعلى مستوى منه مادة أو منصباً فإن قضية قول الحق تغيب عن ذهنه. وعلى أن نقول الحق أينما كنا ولا نخاف في الله لومة لائم، على أننا حينما ندعو إلى أن نقول الحق وإلى قول الحق فإننا لا ندعو إلى الوقاحة في قول الحق، ولا ندعو إلى الشراسة في قول الحق، ولا ندعو إلى العنف في قول الحق، لكننا ندعو إلى الخلق الحسن، إلى الحكمة ﴿فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى﴾ طه: 44 ندعو إلى قول الحق لكننا ندعو ونحن نقول الحق ندعو أنفسنا وكل الذين يستجيبون لقول الحق أن يكون قول الحق برفق، فإن الرفق ما وضع في شيءٍ إلا زانه وما نُزع من شيء إلا شانه. أقول هذا لأن فكرةً لا أدري من أين أتتنا تربعت على عرش عقولنا، هذه الفكرة تقول لنا: إن قولة الحق لا يمكن أن تلتئم أو تتّحد مع الرفق أو مع حسن الخلق، بل لا بد وأن تكون مع الجلافة والعنف والقسوة والتزمّت وهذا أمر غير صحيح فإن ربنا عز وجل دعانا إلى أن نقول الحق ولكن بالتي هي أحسن، دعانا إلى أن نقول الحق ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة، ونحن ندعو أنفسنا وإخواننا والمسلمين إلى قولة الحق إلى الأمر بالمعروف ولكن بالمعروف، وإلى النهي عن المنكر بالمعروف أيضاً، وليس - كما قلت - بالقسوة والترهيب والترعيب والإخافة والإزعاج فهذا أمر مرفوض لا يمكن أن نقبله.
فلنأمر بالمعروف ولننهَ عن المنكر لأن ذلك فريضة أولاً، ولأن ذلك مُبَايَع عليه من قبل الصحابة عليهم رضوان الله أمام النبي عليه الصلاة وآله والسلام، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن تركته الأمة وقعت في العذاب والاضطراب، ولعلنا إذا سئلنا اليوم عن سببٍ من أسباب اضطرابنا يمكننا الإجابة بأن من أسباب الاضطراب الذي يلفُّنا والذي يخيم علينا: تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" وها نحن نعيش عذابات وعذابات، عذاباً في الاقتصاد، وعذاباً في الاجتماع، وعذاباً في السياسة، وعذاباً وعذابا في كل مستويات حياتنا، ولعل من أسباب ذلك تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إلى الأمر بالمعروف بالمعروف وإلى النهي عن المنكر بالمعروف, أتعلمون أن بني إسرائيل دخل النقص عليهم جرّاء تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أتعلمون أن بني إسرائيل عوقبوا من السماء لأنهم قصروا بالقيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن بني إسرائيل لعنوا لأنهم تركوا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. جاء في سنن أبي داود والحديث صحيح أن نبينا عليه وآله الصلاة والسلام قال: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل وهو على المنكر فيقول له: اتقِ الله ودع ما تصنع – لكن ذلك غير متابع ويحسب نفسه أنه قام بالمهمة – ولا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم فقال: ﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون﴾ المائدة: 78-79 لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويصبر، بل يأمر ثم يمر مرور السحاب بالصيف، إن من أسباب اضطرابنا أننا تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى أننا تركنا التفكير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الواحد منا أصبح بمعزلٍ وفي حالة تجانف ومجانبة لهذه الفريضة حتى في مجال التفكير فقد غدا التفكير بعيداً عن أن يكون في هذا الميدان الذي هو ميدان فريضة فرضها الله عز وجل حينما قال: ﴿وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور﴾ لقمان: 17 منعنا الحياء المذموم والخجل وحب المنافع واجتلاب المصالح الموهومة. إن ذلك كان مانعاً لنا من أن نقوم بهذه الفريضة.
لا يسعني أخيراً إلا أن أقول بأن الذي يترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سيكون خارج الدائرة الإسلامية، وذلك بتقرير سيد البشر محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في مسند الإمام أحمد وفي صحيح ابن حبان وفي سنن أبي داود يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس منا من لم يوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكرٍ" فهل تريدون أن نخرج من دائرة الاعتراف من قبل النبي بأننا مسلمون ونحن نترك هذه الفريضة ونهملها ؟ وأنا أطالب ابتداءً وأولاً أن نفكر فيها تفكيراً، فالتفكير فيها سيؤدي إلى ممارستها، وممارستها سوف تجعلنا في دائرة الإسلام الذي اعترف به محمد عليه وآله الصلاة والسلام.
كما بدأت الحديث أعيده: أتريدون أن تتعرفوا على أنفسكم فيما إذا كنتم مدارين أو مداهنين ؟! انظروا مدى ارتباطكم وتعلقكم بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيثما كنتم، وصدق أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه حينما قال: "أوصاني خليلي بخصال وعدد خصالاً ثم قال: وأن أقول الحق ولو كان مراً". فمر الحق هو الذي سيجعل فيك وفي قلبك حلاوة الإيمان. فاللهم اجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم اجعلنا ممن يقوم بهذه الفريضة حق القيام، نعم من يسأل ربنا، ونعم النصير إلهنا، أقول هذا القول واستغفر الله.
التعليقات