نشرت جريدة تشرين الصادرة في دمشق بتاريخ السبت: 5/8/2006 وفي صفحة مدارات المقال التالي:
مداخل ترشيدية للتمييز مابين الحق والباطل
أ ـ تعميق المسؤولية: لعل من أولى مهام الترشيد: تثبيت الإحساس بالمسؤولية في وعي الشباب وتنميته، وتقويةمسؤولية الكلمة، ومسؤولية البحث عن الحق، ومسؤولية التزام الحق، ومسؤولية النية الجادة في البحث عن الحق وباختصار:
مسؤولية الانسان عن الانسان، اي عن نفسه في كل تجلياتها وتحديداتها المادية والمعنوية، والتأكيد في النهاية على مقولة:« أنا مسؤول اذاً أنا موجود، فمن انعتق من المسؤولية انعتق من الانسانية وهكذا..
ب ـ ثنائية الحق والباطل: ليس ثمة من لا يعتقد بثنائية الحق والباطل، وليس ثمة عاقل يبغي الانطواء تحت راية غير الحق، وليس ثمة إنسان لايحب الالتحاق بركب الحق والانتساب الى لائحته، غير أن هذا الانسان ـ وبدوافع مختلفة ـ قد يعدل عن طلبه الحق وبحثه عنه فيلجأ ـ ظلماً وزوراً ـ الى تحريف التوصيف، فيسمي الحق باطلاً والباطل حقاً، ليبقى في ظاهره ومنظور ادعائه ساعياً الى الحق وعادلاًعن الباطل، وأما داخله وعمقه النفسي فسيبقى يستيقن الحق الاصيل: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم﴾. فيا أيها الانسان ما غرك بالحقيقة؟ وما الذي أبعدك عنها؟ ولماذا حرفت الكلم عن مواضعه؟
ج ـ حكمة وراء الرسل والكتب: وهنا تتجلى حكمة الخالق الحق في إرسال الرسل وانزال الكتب، وهل حسبت أيها الانسان انك خلقت سدى وانك الى الله لا ترجع؟ فلا تذهب بعيداً، وعد الى جادة الفطرة التي طبعت عليها، واقرأ في هذا الذي أنزلنا قواعد السداد والثبات وأسس العود الاحمد بعد الشرود المضيع: ﴿والتين والزيتون. وطور سينين. وهذا البلد الأمين. لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون. فما يكذبك بعد بالدين. أليس الله بأحكم الحاكمين﴾.
ودعماً منا ـ والمتكلم الخالق ـ لسدادك وثباتك فقد أنزلنا ما أنزلنا على أناس مصطفين، يقدمون ما أنزلنا مجسداً مشخصاً، ويحولون الذي أنزلنا الى سلوك وواقع لأننا نعلم ان الخطاب المنطقي الذي تتجلى به كتبنا يقنع، لكن رؤيته ـ اي الخطاب ـ مجسداً مطبقاً يطمئن: ﴿قدجاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام﴾، ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان﴾.
د ـ الحق اثبات والباطل نكران: لقد وضحت الطريق لذي عينين، ووضح فيها مسار الحق ومسار الباطل؛ فأما الحق فمن الله الخالق وعبر رسله، وأما الباطل فلا مصدر له لأنه نكران ونفي وجحود وإعراض وتيه وضياع وخمول وجبن وكسل وجهل، و ﴿هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون﴾، و ﴿هل يستوي الاعمى والبصير﴾... وشتان ما بين من يثبت ومن ينفي، وما بين من يؤمن فيعلن، ومن يكفر فيخفي ويستر، وما بين من يعقل ومن يفلت، وما بين من يجد ومن يفقد، وهكذا..
روى ابن خزيمة بإسناده، ان قريشاً جاءت الى الحصين والد عمران، وكانوا يعظمونه، فقالوا له: كلم هذا الرجل ـ اي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ فإنه يذكر آلهتنا. فجاؤوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبي فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أوسعوا للشيخ. وعمران وأصحابه متوافرون. فقال حصين: ما هذا الذي بلغني عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرهم؟
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ياحصين كم تعبد من إله؟
فقال حصين: سبعاً في الأرض وواحداً في السماء.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فإذا أصابك الضرّ من تدعو؟
فقال حصين: الذي في السماء.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فيستجيب لك وحده وتشركه معهم؟... أرضيته في الشكر، أم تخاف أن يغلب عليك؟
فقال حصين: ولا واحدة من هاتين . قال: وعلمت أني لم أكلم مثله،
فقال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا حصين أسلم تسلم.
فقال حصين: إني لي قوماً وعشيرة فماذا أقول ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قل: "اللهم إني أستهديك لأرشد أمري، وأسألك علماً ينفعني" فقالها حصين، فلم يقم حتى أسلم فقام إليه ابنه عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بكى.
هـ ـ التاريخ للاختيار: أيها الانسان عد الى التاريخ وادرسه ومحصه واسأله واستنطقه، فسيخبرك في النهاية عن مسارين كبيرين، لا ثالث لهما، وضحا بعد أن ابتعدا عنا وابتعدنا عنهما فتعرّفْ عليهما وأحسن معرفتهما، وانظر إلى رجالهما، وابحث عمن تقدر وتكبر من رجالاتك فيهما وبعدها أعلن انضمامك للمسار الذي أقنعتك مبادئه وأعجبك رجاله.
وإني لأذكر يوماً قلت فيه لأحد زملاء الدراسة في فرنسا: عدد لي شخصيات تاريخية تعجبك وتحب أن تكون في لائحتها بعد أن يلفك القدر المحتوم الذي هو الموت. فذكر في جملة من ذكر عيسى عليه السلام وأرسطو وأفلاطون وسقراط وابيقراط... وسواهم، غير أنه لم يذكر الشيطان ولا فرعون ولا نيرون ولا.. الخ..
عندها قلت له: إننا متفقان، فلنسع الى ان نكون في قائمة هؤلاء ، وحسبي بذلك تعبيراً عن ديني ودعوة إليه.
و ـ ملامح الانسان الصالح والمجتمع الصالح: جهدت يوماً من الأيام مع ثلة من المثقفين متنوعي الديانات والاتجاهات في الوصول الى تحديد صفات الانسان الصالح بالمعنى العام، والمجتمع الصالح بالمعنى العام ايضاً، فوصلنا فيما يخص الانسان إلى: (المعرفة، وإرادة الخير، والصدق، والعمل النافع).
وفيما يخص المجتمع الى:( العلم، والفضيلة، والحرية، والأمن).
وحينها قلت وقالوا: فلنعمل اذاً على التحقق بها وتحقيقها.
وانفردت بالقول: ان هذا الذي اتفقنا عليه هو ماحضني عليه أيضاً إسلامي، ويحق لكم ان تقولوا : إن هذا أيضاً مما تدعو اليه دياناتكم ومبادئكم.
وختمت بعبارتي:
تعالوا ننظم دنيانا على هذا الاساس، ونترك أخرانا ينظمها ربها ومالك زمامها الاوحد.
ذكرت هذا لأنني أعتقد ان أهل الديانات جانبوا الحكمة، وابتعد غيرهم عنهم لأنهم أرادوا ـ في لحظة استمرت ـ تنظيم أخراهم في دنياهم، واستعجال حساب القيامة ليكون في الدنيا... وهذا أدى بهم الى اهمال بناء دنياهم وكذلك اعمارها فخسروا الاثنتين ..وذلك هو الخسران المبين.
ز ـ على بصيرة: إنه مما لاشك فيه ان الدعوة الى المبدأ ـ أياً كان ـ جزء من الإيمان به، وحين ندعو الى هذا الاسلام الذي آمنا به عقيدة وشريعة فإننا لانخرج بذلك عن تلك البدهية. كما أنه من اليقين بمكان ونحن نتكلم عن الاسلام ان الدعوة اليه تستلزم شرطاً اساسياً ذكره المبلغ الاول عبر وحي القرآن: ﴿قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني﴾. وما لم تكن الدعوة قائمة على بصيرة، هادفة الى ارضاء الله عز وجل فإنها ستبقى بمنأى عن الإسلام والاصطباغ بصبغته، وهذا ما أطلقنا عليه في كلمة سابقة:« الصحة والاخلاص مبدآن أساسيان للدعوة».
واليوم، وقد كثرت الدعوات والدعاوات والادعاءات، فإن واجب الدعوة ذاته يقتضي منا ان نذكر كل من يصدر قولاً أو سلوكاً باسم الاسلام ألا ينسى هذا الشرط وذاك الهدف، وألا يكتفي بواحد منهما دون الآخر.
واذ نطالب بأن تكون الدعوة على بصيرة، فذلك لايعني ان تكتفي هذه الجماعة أو تلك بالإشارة الى القرآن والسنة برنامجاً لعملها ومرجعاً لفكرها، ثم تغدو في صراع مرير فيما بينها، تكون نتيجته الاتهام والتفكير على المستوى النظري، والقتل والإرهاب على المستوى العملي.
وانما نريد ان يرفق الدعاء بالدليل، والنقل بالصحة في كل تصرف وقول، بل في كل حركة وسكنة.. فكتاب من يحصي ﴿لايغادر صغيرة ولاكبيرة﴾، وان يكون صاحب الدليل والصحة من أهلهما: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون﴾.
ونريد أيضاً ألا نتخذ قولاً لأحد الأئمة في التاريخ، أو رأياً لأحد الكتاب او المفكرين في العصر الحاضر، دليلاً قطعياً على فهم نص من النصوص الاصلية، ويحكم بعدها بالخطأ والتضليل على الاقوال والاجتهادات الاخرى.. فالاختلاف ـ الذي وسم بالشفقة والرحمة في القرون الموثوقة الاولى ـ لا نرضى به اليوم عنوان قسوة وفجوة بين المسلمين.
فعلى بصيرة وضمن حدود الاختلاف الذي وسع ما كان بين أجدادنا وأسلافنا ندعو المسلمين ان يلتقوا وضد عدو يرضيه شقاقنا، ويسرّ بتفرقنا، ويفرح برؤية سلاحه بين ايدينا يقتل به بعضنا بعضاً، نناديهم ان يصمدوا ويتحدوا.
ح ـ معايير الطفولة معايير صحيحة: كانت أيام الطفولة مرابع ومراتع وصفحات وأوراقا، سجلت فيها كل القيم التي نادينا بها فيما بعد، وكأن التطبيق سابق، والتنفيذ مقدم، لتتحدث ايها الانسان عن ذوق وشهود كما يقول الصوفيون، وأحلى الكلام ما صدر عن ذائق شاهد، وأشده تأثيراً في الآخرين ذاك الذي يصف بالحق، ويخرج بالحق، حيث لا وهم، ولا كذب، ولا ضباب، ولا ارتياب، ولا تكلف، ولا انفصام..
وصدق ربي اذ يقول عن القرآن العظيم: ﴿وبالحق أنزلناه وبالحق نزل..﴾ فبالحق قيل ، وبالحق استقر في افئدة العقلاء وعقول الحكماء.
والآن أيها الانسان: ابحث في طفولتك عن صدى قولك الراهن فإن وجدته في ساح البراءة وميدان الفطرة الخالصة آنذاك، فالقول حق، وهو الوارد الرحماني، والايحاء الخير الذي لايستطيع الشيطان قربه، فضلا عن أن يتنزل فيه ؛وإن لم تجده، فعاود النظر فيه، وأرجع البصر كرتين في أحقيته، ولابد في النهاية من ان ترى أن ما لفظ من قبل الفطرة يلفظه الاسلام الحنيف، وما قبلته الفطرة الصافية، التي يجسدها عالم الطفولة فإن الاسلام يتبناه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك، وتردد في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك)
نعم، استفت فطرتك، واستخبر طفولتك، واستنطق سرك، فليس من خبير بك أقوى منك، ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة﴾.
وإياك والتصيد في الوقت الحرام للصيد الحرام، والوقت الحرام ما لم يكن إبان نظافة القلب وطهارة السريرة. والصيد حرام مافعل في غفلة عن الرقابة، وإياك ان تجعلهما الوقت والصيد، وهما بهذا الشكل، معايير ومقاييس ترجع اليهما وتعيد عليهما.. فمن خدع نفسه في الدنيا خدعه الله في الاخرة، ومن تصيد من غير دراية بالوقت والصيد وقع في حبائل الشيطان: ﴿وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد﴾.
عش الطفولة والبراءة خيالا تستقي منه إشعاع خير وأنت كبير فلا والله ما حسنت نهاية لم ترد الى البداية، بداية الفطرة والصفاء والوفاء...
ولا والله ما استقام سلوك تنافر مع معطيات الايام الاولى من خلقك، اذ كنت تذكر بالله من رآك ..فهيّا لسلوك يذكر بالله، يصدر عنك..
ناد أيها الانسان ظاهرك بحقيقة صوت باطنك، وأسمع جهرك صدق مضمون سرك، وكن مع شبابك وشيخوختك صافي الوفاء، كما كنت في طفولتك، واعزف لحن الأمان بوتر الإيمان، وغن نشيد العبودية بنفحة الفطرة، وردد على مسامع الدنيا واثقاً: ﴿صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة﴾. وقل متأكداً: (كل مولود يولد على الفطرة).
ط ـ دعاء: وفي الختام فلنردد دائماً:
ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
اللهم صن عقيدتي من عقدتي، وعبادتي من لفتتي، ومعاملاتي من غفلتي، وتشريعي من هفوتي، وأخلاقي من صبوتي، وصني مني إن كنت ضد إنسانيتي، واجعلني لك منتسباً، وفي حياتي وشؤوني بما جعلته من أسباب متسبباً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وحببنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرّهنا فيه.
بقلم د. محمود عكام
التعليقات