استضاف برنامج مدارات الذي يبثه التلفزيون العربي السوري الدكتورَ الشيخ محمود عكام، في حلقة خاصة بمناسبة زيارة فرقة مدينة قونيا للطريقة المولوية إلى مدينة حلب، يوم الثلاثاء 26/12/2006، وقد دار الحوار حول علاقة الصوفية بالإنسان، ومدى انسجام الرؤية الصوفية مع المعطيات الإسلامية.
وفيما يلي نص الحوار
التلفزيون السوري: إلى مدى تنسجم هذه الطريقة المولوية وغيرها من الطرق مع الرؤية الدينية ؟
الدكتور عكام: لا شك في أن هذه الطريقة كغيرها من الطرق الصوفية بشكل عام تعنى باختصاصها، وهذا الاختصاص الذي تعنى به الطرق الصوفية عامة هو القلب. وهذا لا يعني أن السلفية مثلاً لا علاقة لها بالقلب، ولكن المسألة أن الصوفية تحاول أن تختص بالقلب لتجعله في حالة يقظة، لأن الإنسان في النهاية - كما يقال - بأصغريه: قلبه ولسانه.
والصوفي يحاول أن يفعِّل قلبه من أجل أن يكون لما خلق من أجله، والقلب خلق من أجل أن يكون بيت الله، إن صح هذا التعبير
لما عني جلال الرومي وأمثاله بالقلب، فإنما عُنوا بأشرف شيء عند الإنسان لأن القلب هو محط الأسرار ومنبع الأنوار، ومحل تجلي نظر الحق جل جلاله.
التلفزيون السوري: القلب أم العقل ؟
الدكتور عكام: بل القلب، لأن القلب هو الذي يستقبل القناعات التي يصدرها العقل، فأنا أفهم أن العقل قدرة على المحاكمة، فأنت تحاكم بعقلك، بهذه القدرة التي منحك الله إياها، ثم بعد ذلك تصل إلى قناعة حول الأمر الذي حاكمته بعقلك، وتتكون لديك قضية ذات حكم مقنع يربط بين مفهومين.
هذه القضية التي حاكمها العقل وأثبت صحتها يحوّلها إلى مخزون القلب، فالقلب لا يتقبل إلا ما هو صحيح، وقد أخرج الدارمي وأحمد أن رجلاً يدعى وابصة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأله، فقال له رسول الله: (يا وابصة أُخبرك ما جئت تسألني عنه أو تسألني ؟). فقال: بل أخبرني يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (جئتَ تسأل عن البر والإثم). قال: نعم. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (استفتِ نفسك. البرّ ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر. وإن أفتاك الناس وأفتَوك).
القلب مستودع لا يستوعب إلا تلك المقولات التي حكم عليها العقل بالصحة. القلب مستودع ولذلك كان الإنسان بقلبه، بما استودع فيه، والإنسان بلسانه، أي بنطقه وتعبيره عن تلك المحاكمة التي توجه العقل إليها فحكم عليها فقالها اللسان على أنها مقولة صحيحة.
الشعر مثلاً تعبير عن القناعات التي استودعت في القلب فنطق بها اللسان، فكانت مقبولة لدى الناس لأنها تخرج ما في القلب من قناعات تجمعت عبر قناة العقل.
التلفزيون السوري: ما هي برأيك أسباب انتشار شعر الرومي في أوربا وأمريكا، وهل يمكن أن تشكل الحالة الصوفية عامل لقاء بين الغرب والشرق ؟
الدكتور عكام: أعود فأقول: إن الإنسان يبحث عن الاطمئنان، والاطمئنان محله القلب ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾. وعندما نتحدث عن القلب نتحدث عن موطن الاطمئنان، وهنا تخطر ببالي كلمات تنتهي بحرف الباء كالقلب، وهي الحب والرب والحرب.
أجدني أمام الحب أمام معنى إنساني. أمام القلب أمام حقيقة الإنسان. أمام الرب أمام من يعبده الإنسان، ومن يتوجه إليه الإنسان، ومن أنعم على الإنسان.
الحب هو أجمل وأقوى وأعمق بعد إنساني في الإنسان، والقلب هو موطن الاطمئنان والتجلي وهو موطن الحب، والرب هو هذا الذي نتوجه إليه بالعبادة ونتوجه إليه بالحب أيضاً، فنحن ما بين قلب ورب، نصل ما بين القلب والرب بالحب.
أما الحرب، هذه الكلمة التي لا أحبها، ولا أحد من البشر يحبها، فقد أعلن الله تعالى في القرآن الكريم أنه إطفائي لها، فقد قال ربنا: ﴿كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله﴾. الحرب غريبة على الإنسان، والإنسان لا يحب الحرب ولا يريد الحرب، وهي طارئ، ويحاول أعداء الإنسان أن يوقدوها، والله يريد أن يطفئها، ويطلب من الإنسان أن يطفئها، فيا أيها الإنسان: اسعَ للاطمئنان.... وهذا مطلب إنساني في آسيا وفي أوربا وفي أمريكا.
التلفزيون السوري: هل يمكن أن تكون الصوفية هي الطريقة التي نصل من خلالها إلى حالة الاطمئنان ؟
الدكتور عكام: لمَ لا ؟ لم لا ؟
هي طريقة من الطرق المحتملة، خاصة أننا نعرف الصوفية كما عرفها القائل:
ليس التصوف لبسَ الصوف ترقعه ولا بكاؤك إن غنّى المغنونا
ولا صياح ولا عويل وكأن قد صرت مجنونا
بل التصوف أن تصفو بلا كدر وتتبع الحق والقرآن والدِّينا
في النهاية: يجب علينا أن نلتفت إلى الذات، وما أحوجنا اليوم إلى شاعر.. إلى مفكر يذكرنا بضرورة الالتفات إلى أنفسنا، فقد ضقنا ذرعاً بالالتفات إلى الآخرين من غير أن نعود من هذا الالتفات إلى أنفسنا بشيء ينفعنا. كما ورد في تلك العبارة التي في الإنجيل: ما ينفعني إن ربحت العالم وخسرت نفسي ؟
نحن بحاجة إلى العودة إلى أنفسنا. وحين أقول: نعود إلى أنفسنا. أي: نعود إلى القلب موطن الاطمئنان، لنصله بالرب الذي يعطينا الاطمئنان ويمنحنا الأمان، وهو الذي خلقنا من أجل أن نكون آمنين مؤمِّنين. الإسلام يعني السلام، والإيمان يعني الأمان.
القلب يتوجه إلى الرب، والرب يتجلّى على القلب. والقلب مستودع القناعات، وهو ما انقلبتُ عليه، أي كل ما في الداخل وما في السر.
التلفزيون السوري: ولكن الكثير من رجال الدين انتقدوا الصوفية وأعلامها الكبار كجلال الدين الرومي ومحيي الدين ابن عربي. واعتبروها بدعة.
الدكتور عكام: النقد أمر طبيعي، وهو يطال الممارسات غير الصحيحة، ولكن لا يمكننا أن نعبر من انتقاد بعض الصوفية إلى انتقاد الصوفية نفسها، كما لا يمكننا العبور من انتقاد المسلمين إلى انتقاد الإسلام نفسه، وهؤلاء الذين انتقدوا توجهوا بالنقد إلى تصرفات وأحوال غير مشروعة.
على أن هؤلاء الأعلام الصوفيون ليسوا معصومين أبداً، لكننا نتحدث عن الأمر الأساسي الذي عنوا به وهو التوجه إلى القلب، والتوجه إلى النفس من أجل تهذيبها وتربيتها.
التعليقات