أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:
سألني أخ كريم: لو أتيح لك أن توجه كلمة للمسلمين، للعرب، للسوريين، للبنانيين، للفلسطينيين... لكل أولئك الذين ينتمون إلى هذا الدين الحنيف، إلى هذه العروبة، أو إلى هذه البقعة من الأرض أي إلى الشرق الأوسط، لو أتيح لك أن توجه لهم كلمة فماذا أنت قائل ؟ فكرت ملياً ثم قلت: لو أتيح لي أن أوجه كلمة إلى هؤلاء جميعاً لقلت لهم: ﴿وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾.
توبوا إلى الله أيها الفلسطينيون، توبوا إلى الله أيها العراقيون، توبوا إلى الله أيها اللبنانيون، توبوا إلى الله أيها السوريون، توبوا إلى الله أيها الباكستانيون، السودانيون، الإيرانيون... توبوا إلى الله ﴿وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾. توبوا إلى الله.
أيها الإخوة، راجعت التوبة المعهودة في ديننا والمتكلم عنها في ديننا، فوجدت أن التوبة واجبة، إن سألت عن حكم التوبة التكليفي فإني قائل لك إن التوبة واجبة، لماذا ؟ لأنك تُذنب باستمرار وهذا ما تعترف به أنت، بل هذا هو الواقع الواضح، ما دمت تُذنب وما دمت ترتكب أخطاءً وأخطاء، إذاً فالتوبة واجبة، لكن المشكلة أننا نذنب ونمعن في الذنب والخطيئة غير أننا لا نتوب، فلماذا ؟ والله يدعونا فيقول: ﴿وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾. فما عليك إلا أن تكون تائباً إلى ربك جلت قدرته في كل لحظة، والتوبة: إقلاع وندم وعزم.
إقلاع عن الذنب الذي ترتكبه، وندم على ما فعلته، وعزم على ألا تعود إلى مثل هذا الذنب الذي فعلته والذي صدر عنك، هذا إذا كان الإثم الذي فعلته يتعلق بربك.
أما إذا كان الإثم الذي ارتكبته وفعلته يتعلق بأحد من عباد الله فيضاف إلى ما ذكرنا، إلى الإقلاع والندم والعزم، يضاف الاستسماح والاستبراء فما عليك إلا أن تستسمح فيما إذا كنت ارتكبت إثماً يتعلق بعبدٍ من عباد الله، ما عليك إلا أن تطلب السماحة والبراءة والعذر من هذا الذي ارتكبت الذنب المتعلق بحقه.
التوبة واجبة، وأزيدك وأقول لك: التوبة واجبة على الفور، لأن إسلامنا يعتبر تأخير التوبة معصية تُضاف إلى المعصية التي ارتكبتها، وهذا يعني إذ تترك التوبة فإنك تُصرّ على الذنب الذي ارتكبته وعلى الإثم الذي عملته وعلى الذنب الذي فعلته، وبالتالي كان من الواجب الشرعي عليك أن تتوب حالاً، فالمعصية معول يعمل ويجِّد في تهديم صرح الأمة، إن أخرت التوبة أو تساهلت في التوبة من أن تكون فورية فأنت في معصية، وبالتالي فالمعاصي والآثام معاول تساهم في هدم صرح الأمة، ولذلك قال الله عز وجل: ﴿ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون﴾ قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله، كفرت وارتكبت المعاصي، اقترف أفرادها الذنوب، ولكنهم لم يتوبوا واستمروا على الارتكاب وإذ بهذه القرية التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، التي ارتكبت وعصت ربها ولم تتب عما فعلت على الفور فكانت النتيجة أن أذاقها الله عز وجل لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وكل المفسرين يقولون: بما كانوا يصنعون أي بما كانوا يفعلون من آثام وذنوب وبتأخيرهم التوبة، فلم يتوبوا فوراً بعد الآثام والذنوب، ولذلك أذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
وربنا عز وجل قال: ﴿فإن يتوبوا يك خيراً لهم﴾ فالله عز وجل لم يقل لنا لا تذنبوا، لأن الذنب قدر يمكن أن يتناولنا أو يتناول الواحد منا، وهذا أمر يجب أن نعترف بواقعيته لكن ما علينا أن نفعله بعد الذنب هو التوبة، لذلك قال ربي: ﴿فإن يتوبوا﴾ فربنا لم يقل: فإن لم يذنبوا، ولكنه قال: ﴿فإن يتوبوا﴾ قد يذنبون ولكن ﴿فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة﴾.
إن تبتَ فذاك خير لك، ولكن إن لم تتب فالعذاب حالّ، وحدثوني بربكم عن عذاب يقع ويصب علينا صباح مساء في فلسطين يتقاتل المسلمون هناك وهم من مذهب واحد، ومن عرق واحد، وفي العراق يقتل الناس المسلمون بعضهم بعضاً، في لبنان اغتيال هنا ومشروع اغتيال هناك، وهنا اختلاط وعلاقات قائمة على حسد وتحاسد، وكأن الأمر يستشرف ما هو واقع في لبنان أو في فلسطين، أقول هذا وأنا أمسك بقلبي لأني أدعو ربي أن يجنبنا الله الفتن في بلادنا هنا وفي كل مكان، أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، فيا ربنا احفظ علينا بلادنا آمنة مطمئنة واحفظ علينا علاقاتنا فيما بيننا وفق ما يرضيك عنا يا رب العالمين، يا إلهنا يا رجانا، أصبحنا نعيش في حالة رعب وخوف، الإنسان لا يُؤمِّن ولا يأمن على نفسه إن كان هنا أو هناك لأن هذا سببه أننا لم نتب إلى الله عز وجل مما اقترفته أيدينا، من ذنب، من قتل، من غش، من عمل منافٍ للأخلاق لا يرضي ربنا، بل يهدم الخير الذي أقامه أجدادنا قبلنا، أفيجوز هذا ؟ لذلك قلت لهذا الذي قال لي: لو أتيح لك أن تتوجه بكلمة إلى المسلمين والعرب وأولئك الذين يسكنون شرقنا، فقلت له لأقولنَّ لهم: ﴿وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾.
تصوروا أن نبينا عليه وآله الصلاة والسلام كما روى البخاري كان يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) تصوروا أن النبي العظيم المعصوم، تصوروا أن هذا الرجل الذي اختاره الله عز وجل سيداً على الخلق، وحبيباً للحق يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة).
فيا أيها الملتهون بالجهاد وما هو بجهاد، ويا أيها الملتهون بالسياسة وما هي بسياسة، وإنما هي رعونة لا أكثر ولا أقل، يا أيها المنشغلون بالمناصب مهلاً، فإنكم مستعجلون إلى حتفكم، ووراء الحتف عذاب في الدنيا وفي الآخرة، مهلاً يا هؤلاء، يا من تريدون الوصول إلى متع في الحياة الدنيا، ستكون هذه المتع ندامة عليكم في الدنيا قبل الآخرة، فماذا أنتم منتظرون ؟
(والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)، ويقول عليه وآله الصلاة والسلام، كما جاء في صحيح الإمام مسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مئة مرة)، من الذي يتوب ؟ أيها الحاكم هل تتوب في اليوم مئة مرة أم أنك لا تحسب نفسك مرتكباً لإثم أو واقعاً في ذنب ؟ لا، من قال لك هذا ؟ نحن جميعاً في آثام نسبح بل ربما نغرق، يا أيها الحاكم، يا أيها المحكوم، يا أيها الضابط، يا أيها المسؤول، يا أيها التاجر، يا أيها الطبيب، يا أيها الإنسان أينما كنت وفي أي منصب وجدت، ولأي مكانة شغلت، أريدك أن تتوب، فهذا سيد الخلق وهذا حبيب الحق يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مئة مرة) يقول ابن عمر رضي الله عنه: "كنا نعُدُّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس الواحد مئة مرة يقول: (ربِّ اغفر لي وتب عليّ، إنك أنت التواب الرحيم).
لو أنك قلتها يا هذا، يا من تعمل في السياسة ستتحول السياسة من رعونة إلى أخلاق، يا من تعمل في المقاتلة على حد زعمك من أجل الله لتحوَّل سفك الدماء إلى أخوة ترعى الدماء وتحفظ الدماء وتحقن الدماء، لو أنك قلت هذا يا أيها التاجر لو أنك قلت في مجلسك مئة مرة ولو على سبيل الترديد اللفظي باللسان، لكن ذلك سيؤثر في النهاية على القلب لتحولت تجارتك من غش ورشوة إلى تجارة صادقة ترتجي من الله القبول.
أيها الإخوة على اختلاف توجهاتكم وعلى اختلاف مناصبكم وعلى اختلاف أعمالكم وأشغالكم: كنا نعُدُّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس الواحد مئة مرة يقول: (ربِّ اغفر لي وتب عليّ، إنك أنت التواب الرحيم)، لماذا لا تقول هذا يا أخي يا أيها الطالب ؟ لماذا لا تقولين هذا يا أختاه يا أيتها الطالبة يا أيتها المدرِّسة، يا أيتها الطبيبة، يا أيتها المربية، يا أيتها الأم، ضاع الطفل وضاعت الأم وضاعت الزوجة وضاع الأب وضعنا جميعاً وأصبحنا كما قال من قال: أصبحنا أيتاماً على مآدب اللئام، وأصبح الواحد منا لا يعرف ماذا يريد من دنياه ولا من أخراه، ﴿وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾.
أقول لكم توبوا قبل ألا تتوبوا، وألا تقبل توبتكم، فالله يقبل توبتكم ما دمتم في حياتكم، وما دمتم في حياة، وإذا ما وصل بكم الأمر إلى مشارفة على الموت فالتوبة آنئذٍ لن تكون مقبولة، أو لم تسمعوا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال كما في الترمذي: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أو لم تسمعوا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في مسلم: (إن الله يبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، حتى تطلع الشمس من مغربها) فإذا ما طلعت الشمس من مغربها فلا توبة ولا قبول للتوبة، لأن الأمر لم يعد يحتمل تكليفاً، وإذا انتهى التكليف فلا توبة، فالتوبة تكليف.
أعود للبداية توبوا إلى الله جميعاً أيها الإخوة في فلسطين، أيها الإخوة في لبنان، أيها الإخوة في العراق، أيها الإخوة في سورية، أيها الإخوة في كل مكان توبوا إلى الله جميعاً، ففي كل يوم قتلى، في كل يوم جرحى، في كل يوم رعب، في كل يوم خوف، أطفالنا تعودت أعينهم رؤية الدماء فهل تريدون لأطفالنا أن يسبحوا في بحور الدماء مستقبلاً ؟! صار سماع النبأ عن القتيل والشهيد وسمِّه ما شئت وعن الدم يراق صار هذا الخبر بالنسبة لهم وإليهم أمراً عادياً، لا يحرك فيهم ساكناً فلقد غدوا مدمنين على سماع أخبار الدماء، فهل تريدون لأولادنا أن يتربوا على بلادة الشعور نحو سيل وسفك الدماء ؟ إذا سُفك الدم فما قيمة الدنيا ؟ إذا كان الإنسان في حالة رعب من أخيه الذي يدين بدينه، من أخيه الذي يؤمن بما يؤمن به، إذا كنا نعيش رعباً من بعضنا وخوفاً من بعضنا وقلقاً في بلادنا وأرقاً في أرضنا فورب الكعبة إن بطن الأرض خير لنا من ظهرها، ما دمت تخاف من أخيك هذا الذي يصلي بجانبك، ومن أخيك هذا الذي يردد الشهادة التي ترددها فما قيمة هذه الحياة ؟ أنت في حالة رعب من هذا الذي بجانبك، يصلي كما تصلي، ويصوم كما تصوم، ويجتهد في العبادة كما تجتهد. معركة نهر البارد بين المسلمين، بين مسلمين، معركة غزة بين مسلمين، معركة لبنان بين مسلمين، معركة السودان بين مسلمين، معركة الجزائر بين مسلمين، السعودية... معاركنا هنا اللسانية بين مسلمين، وأسأل الله أن يبعدنا عن المعارك السلاحية، وأن يجعلنا من التائبين حتى من المعارك اللسانية التي تظهر فيها الأحقاد والتي تظهر فيها كل تلك الرذائل التي يحتوي عليها القلب، ما بالنا لا يأمن الواحد منا أخاه وجاره بعد كل هذا، ما قيمة هذه الحياة ؟ وما فائدة هذه الحياة ؟ هل أنتم مسرورون بهذا الذي ترونه بأم أعينكم ؟ هل أنتم مسرورون بسماعكم الشتيمة منكم، من بعضكم، من ولدكم، على أخيكم، على شيخكم، على بلادكم، على رئيسكم، على حكومتكم، هل هذه أخلاق ؟ لقد نزه الإسلام ألسنتنا من أن تكون طعانة لعانة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) لكن عذراً يا سيدي يا رسول الله، أصبحنا طعانين لعانين، أصبحنا نرتكب الفحش والبذاءة بأيدينا وبأرجلنا، معذرة يا سيدي يا رسول الله، هذه الأمة التي تنتسب إليك أصبحت ألسنتها وللأسف الشديد ألسنة غير مقبولة في عالم الأخلاق ولا في عالم الدين ولا في عالم المبدأ ولا في عالم السلامة الإنسانية العامة، عذراً يا سيدي يا رسول الله، أمرتنا وأديت الرسالة ونصحت الأمة، لكننا نحن نجانب هذا النصح وهذا التبليغ وهذا العطاء وهذا الأداء، فيا إخوتي ما عذرنا إن قال لنا سيدي رسول الله وهو يقول لنا بلسان حاله، لأننا حينما نتحدث عن سيدي رسول الله نتحدث عمن يعلم بإعلام الله له، عمن يعلم ما نعمل، فالأعمال تُعرض على سيدي رسول الله فهل أنتم مسرورون بهذه الأعمال التي تُعرض على سيدي رسول الله ؟ ما موقفكم لو أن رسول الله قال لكم وهو يقول لكم بلسان حاله: هل أنتم على طريقي ؟! ستقولون: نعم، من ناحية الادّعاء، أما من ناحية العمل والفعل فلا والله، ما نحن على هذا الطريق التي أرادها لنا طريقاً سيدي وسندي وقائدي وقرة عيني محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ﴿وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾، توبوا إلى الله من ذنوبكم وآثامكم، من حقدكم من حسدكم من غلكم من بذاءة ألسنتنا، لنتب إلى الله من هذه الأمور كلها، وأسأل الله أن يوفقنا لتوبة نصوح، نعم من يسأل ربنا، ونعم النصير إلهنا، أقول هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت بتاريخ: 15/6/2007
التعليقات