آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
حقيقة الصبر وأنواعه

حقيقة الصبر وأنواعه

تاريخ الإضافة: 2009/04/03 | عدد المشاهدات: 4519

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

فكرت ملياً في يومٍ من الأيام في الفضائل، وفي أي الفضائل نحتاج أكثر لحياتنا التي نعيش، لأوضاعنا التي تغمرنا ونغمرها، للأحوال التي ترتادنا ونرتادها، وجدت نفسي بعد هذا التفكير أمام قضية نتحدث عنها كثيراً، لكننا لا نتحقق بها إلا قليلاً، وجدت نفسي أمام فضيلة وصفة وسمة وكلمة نذكرها على ألسنتنا كثيراً، لكننا لا نحاول أن نتحلَّى بها، لكننا نعرض عن أن تكون صفتنا لنواجه هذه الأحوال التي نعيشها، أو الأوضاع التي تحتضننا أو المواقف التي تظللنا وتلفُّنا، عرفتم هذه الصفة وهذه الفضيلة ؟ إنها بكل بساطة هي تلك التي قالها سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآل ياسر وهم مُعذَّبون، وهم يُساومون، وهم يقف أمامهم العتاة المجرمون ليوقعوا بهم شر ما يوقعه إنسان عاتٍ طاغية بضعفاء، إنها الفضيلة التي قالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء من أجل أن يتحلوا بها: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).

ولذلك أقول أيضاً لأمتي: صبراً أيتها الأمة، صبراً أيها الشباب، صبراً أيتها المرأة، صبراً أيها الرجل، صبراً يا أبناء أمتي، صبراً أيها الطالب، صبراً أيها الأستاذ، وما أريده منك وأنت تسمع مني كلمة الصبر أن لا تفهم الصبر على أنه استكانة، وأن لا تفهم الصبر على أنه ذُل، وأن لا تفهم الصبر على أنه خنوع، وأن لا تفهم الصبر على أنه خضوع وذلة وقهر واستكانة، وإنما الصبر مصابرة، الصبر مجاهدة، ودعوني من أجل أن أضع أمامكم وأمام عقولكم وفكركم معنىً لهذه الفضيلة، وجدت أن الصبر يعني ما يلي:

منع الإنسان نفسه عما ترغب وتشتهي إذا كان في هذا الذي ترغب وتشتهي ضُر، وإبقاء الإنسان نفسه، وحض الإنسان نفسه فيما تكره، إذا كان في هذا الذي تكره خير. ولذلك فالصبر مقاومة ومجاهدة، ومن هنا قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يروي البخاري ومسلم: (ومن يتصبَّر يُصبره الله، وما أعطي الإنسان أفضل من الصبر) ولذلك سأتحدث عن أنواع الصبر، وأرجو أن يستقرَّ التعريف في أذهانكم حتى نميز بين الصبر وبين الخنوع والاستكانة والذل، فذاك أمرٌ، والصبر أمرٌ آخر، الصبر أربعة أنواع:

النوع الأول: صبرٌ على فعل الطاعة، وعلى ممارسة المشاقّ من خلال إقامة وعملِ الطاعة، للطاعة مشقة وللعبادة مشقة، والصبر على مشقة العبادة والطاعة نوعٌ من أنواع الصبر، فإن أنت صليّت فلا شكَّ في أنك ستكون في مشقة، وإن أنت صمت فستكون في مشقة، وإن أنت حججت ستكون في مشقة، وإن أنت قمت بعمل خير بوساطة بين اثنين من أجل أن تصلح بينهما فستقع في مشقة، فالنوع الأول من الصبر هو الصبر على مشاقِّ الطاعات والعبادات.

وأما النوع الثاني: فالصبر الذي هو كفّ النفس، الصبر على هجر المعاصي واجتنابها ومجافاتها عن لذة تتصورها هذه النفس، أو عن متعة تتخيلها هذه النفس. هذا أيضاً نوعٌ من أنواع الصبر، أنت ترى في تلك المعصية لذة، فعندما تقوم فتصبر على هجر هذه المعصية، على هجر هذه اللذة التي تصورت وتشخصت أمامك فأنت صابر، وأنت في حالة صبر، ولذلك قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في البخاري ومسلم: (حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات) أتريد أن تكون صابراً وأن تحوز فضيلة الصبر، وإذا ما حزت فضيلة الصبر فاعلم بأن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب. ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾ وما أعطي الإنسان شيئاً أفضل من الصبر، فإذا ما أردت أن تحوز الصبر فما عليك إلا أن تنظر إلى نفسك إذا ما كنت متحققاً بأنواع الصبر: ﴿وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى﴾.

أيها الشباب أريدكم أن تضعوا الصبر في أذهانكم وعقولكم من أجل أن يغدو إهابكم ومن أجل أن يغدو جلبابكم ومن أجل أن يغدو رداءكم، الصبر على الطاعات ومشاقها، والصبر على هجران المعاصي ولذائذها المتصورة.

النوع الثالث: الصبر على أذى المخالفين وعَنَتَهم من أجل الوصول إلى قناعة الخير والحق، أنت تريد أن تدعو ولدك إلى خير، وأنت تريد أن تدعو صديقك إلى خير، وأنت تريد أن تدعو غير المسلم إلى الإسلام، وأنت تريد أن تدعو زوجتك إلى خير، وأنتِ تريدين أن تدعي زوجك إلى خير، توقع وتوقعي أن يصدر عن هذا الذي تدعوه شر أن يصدر عنه أذى، ولذلك عليك أن تصبر على أذى من خالفك من أجل الوصول إلى الحق أو إلى قناعة بالحق والخير من قِبل هذا الذي تدعوه، هذا نوعٌ من أنواع الصبر، وقد علمنا سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا النوع فكان في سيرته واضحاً جليّاً وكان عنوان مسيرته، أنت صاحب رسالة فمالي أراك لا تتحمل بعضاً من أذى يمكن أن يصدر عن هذا الذي تدعوه ؟ لماذا تغضب وأنت تدعو إنساناً إلى خيرٍ تراه، تغضب حينما يحيد هذا الإنسان عن قبول نصحك، لماذا تغضب ؟ لماذا تعدل عن دعوتك حينما يعرض هذا الأخير عن قبول دعوتك ؟ ستتحمل الأذى في سبيل أن يصل هذا الذي أمامك إلى خيرٍ تعتقده وإلى حقٍ تراه ويسكن خَلَدك وفكرك، ولذلك قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الترمذي: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) أتريد أن تكون داعية ؟ وهل الدعوة إلى الله عز وجل مرتبة متعالية لا يمكن أن يمسّك عبرها وعبر مسيرتها أي أذى ؟ أرأيت إلى رسول الله وهو يدعو الناس ؟ رسول الله رُمي بالحجارة فصبر، رسول الله أوذي في جسمه فصبر، وأوذي في أهله فصبر، وأوذي في طعامه فصبر، وأما أنت فتريد أن تكون داعياً إلى الله عز وجل وأن يكون معك حماةٌ أو حرّاسٌ أمنيون كما يُقال، تريد أن تكون مدعوماً من قبل مخابراتٍ أو أمن أو شرطة أو حرّاس حتى تمارس الدعوة، وتريد وأنت تدعو أن تشارط ربك على أن يضمن لك حياةً مرفهة كريمة لا يصيبك فيها شيء من مللٍ أو تعبٍ أو وهن أو نصبٍ، "ما هكذا تورد يا سعد الإبل".

هؤلاء الذين يتكلمون داعين إلى الله في التلفاز أو في سواه يمارسون الدعوة شريطة ألا يصيبهم إلا الخير، الخير المادي، شريطة أن يُحرزوا بعد هذا الذي يقومون به على أنه دعوة إلى الله، يريدون أن يُحرِزوا منافع مادية، كم يأخذ، وكم يُعطى وهو يمارس هذه الدعوة ؟ كم ينال من الأجر على الساعة التي تسمى بين قوسين "دعوة إلى الله عز وجل" ؟ ﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها﴾، ﴿يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور﴾ وأنا أقولها صريحة اليوم: إن الشيوخ، ولا أعمم، إن جُلَّ هؤلاء الذين يدعون إلى الله لا يتحققون بهذا النوع من الصبر، وهو الصبر على أذى المخالفين سواءٌ أكان هؤلاء المخالفون يخالفونهم بفكرةٍ ما أو في عملٍ ما أو في سلوكٍ ما أو في توجهٍ ما، على الأقل فإنه يصدر من هؤلاء الدعاة نظرات احتقار لهؤلاء الذين يدعونهم، فهل يجوز هذا ؟ وهل يسمى هذا الذي يُصدّر من عينيه ومن وجهه احتقاراً وذلاً وإهانةً لهؤلاء الذين يسمعون كلامه هل يُسمَّى هذا الذي يفعل ذلك داعياً إلى الله عز وجل ؟ إنه بذلك خالف مهج الداعي إلى الله الذي رسمه وخطّه وسار عليه سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ولَمَن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور﴾ أتريد أن تكون داعية وداعياً مقبولاً ؟ إذن ما عليك إلا أن تتحلى بهذا النوع من الصبر.

النوع الرابع والأخير: الصبر على البلاء والمصائب، هذه الدنيا دار ابتلاء، سيصيبك مرض وإن كنا نسأل الله عز وجل أن يعافينا، سيصيب ولدك، أخاك، أباك، أمك، سيصيبك نقص من الأموال والأنفس والثمرات: ﴿ولنبلوَنَّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾ سيصيبك بلاء فلماذا الضجر والقلق ؟ هل تريد أن تشكو ربك إلى الناس ؟ هل تريد أن تشكو ربك إلى خلقه ؟ أتريد أن تشكو الذي خلقك وهو الذي يبتليك إلى الناس حتى تظهر أمام الناس ضعيفاً ؟ الذي يشكو ما حلَّ به إلى الناس سيكون أمام الناس ضعيفاً وسيكون أمام ربه متهالكاً ضعيفاً، ولذلك قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القصة المعروفة المشهورة: (إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس) توجه بالشكوى إلى ربك، بينك وبين ربك، وتجلّد أمام الناس وكن قوياً، كل الناس خاضعون لهذا القدر الذي يحمل في طياته أحياناً مصيبة من هذا النوع والذي يحمل أحياناً أخرى مصيبة من نوعٍ آخر ويحمل أيضاً في طياته الثالثة والرابعة والخامسة مصائب ومصائب وابتلاءات وابتلاءات، أتصبرون ؟ نعم سنصبر، اللهم لا شكوى إلا إليك، ولا اعتماد إلا عليك، اللهم علمنا كيف نشكو إليك، اللهم أبعدنا عن أن نشكوك إلى الناس، اللهم أبعدنا عن أن نشكوَ ما في دواخلنا إلى الناس، من أجل أن نستر ما ابتليتنا به عن الناس لنظهر أمام الناس على أننا راضون بالذي قُدِّر لنا منك يا رب العزة يا كريم، ولذلك الحديث الصحيح المعروف: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس لأحدٍ ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).

أما مجتمعنا اليوم مجتمع شكوى هذا ابتلي بمرضٍ فلاني فهو دائم الشكوى، وهذا يعيش قلةً في المال فهو دائم الشكوى، وهذا لا بيت له وهو يعلن أمام الملأ أن لا بيت له، وهذا لا زوجة له فهو على الملأ يصيح بأن لا زوجة له، ورابعٌ وخامسٌ وسادس...

لقد تحوّل مجتمعنا من مجتمعٍ صابرٍ راضٍ مقاوم مجاهد إلى مجتمع كثير الشكوى، إلى مجتمع يملُّ، إلى مجتمع يقلق ويضطرب، إلى مجتمع يتنادى في سراب، يتنادى في فراغ، ولذلك لم تعد تؤثر شكواك على هذا الذي تشكو إليه من الناس، يسمعك وأنت واقعٌ في لبِّ المعاناة فلا يكاد يتأثر منه شيء ولا يكاد يبين منه أي أثر فيه تأثرٌ سلبيٌ عليك، ولذلك اشكُ ما أنت فيه لربك وإياك أن تتوجه إلى الناس إلا بالصبر، كن صابراً أمام الناس محتسباً. الصبر على المصائب، ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ ليكن دائماً ما تقول ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ وقل بينك وبين ربك: اللهم إنا رضينا. قد تشكو لربك بينك وبين ربك، قد تُلح بالدعاء لربك هذا لا يؤثر على صبرك، إنما الذي يؤثر على صبرك أن تري الناس ضعفك.

وتجَلُّدي للشامتين أريهمُ             أني لريبِ الدهر لا أتضعضعُ

هذا أمرٌ نحتاجه اليوم، ولا سيما الشباب، ولا سيما العاملون، ولا سيما الموظفون، ولا سيما أولئك الذين عاهدوا ربهم على أن يكونوا دعاة لله عز وجل على بصيرة، نحن نحتاج إلى كل هذه الأنواع التي ذكرتها، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الصابرين.

اللهم متعنا بالصبر صفة وسمة وحالاً وسلوكاً من أجل أن نستعين بها في حياتنا هذه لأنك قلت عن الصابرين وليس ثمة أجر أعظم من أجر الصابرين ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾ اللهم اجعلنا من الصابرين، نِعْمَ من يسأل أنت، ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 3/4/2009

التعليقات

شاركنا بتعليق