آخر تحديث: الجمعة 26 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
مقومات الوطن المنشود

مقومات الوطن المنشود

تاريخ الإضافة: 2009/12/04 | عدد المشاهدات: 3819

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

سألني أحد المهتمين بشؤون الصحافة عن وطنٍ منشود أو بالأحرى عن مواطنين صالحين، عن وطنٍ ومواطنين، قال لي: ما مقومات الوطن المستقر الآمن المطمئن ؟ وما السِّمات التي يجب أن يتحلى بها المواطنون في هذا الوطن حتى يكون الوطن كذلك ؟ سألني وقال لي بعد ذلك لأننا نعيش اليوم في أوطان لا نشعر بأمان، ولأننا نعيش في جاليات ولا نتفق على أساسيات، يعيش بعضٌ منا في البلاد الغربية وعلى الرغم من أنهم أقلة لكنهم مختلفون ومشتتون ومتنازعون، هذا ينتمي لفلان وذاك ينتمي لآخر والانتماءات متعددة والانتماءات تؤدي إلى تنازعات.

المهم أنت في هذا البلد، ما الذي يجب أن يتصف به أبناء هذا الوطن، ما الذي يجب أن يخيم علينا في هذا الوطن حتى نعيش ضمن وطنٍ منشود، ضمن وطنٍ مطمئن مستقر.

أجبتُ ذاك السائل فقلت له: يا أخي إذا أردت مقومات الوطن المطمئن المستقر فإليكها بالنسبة لي، هذا رأيي.

الأمر الأول: الإيمان، ينبغي أن يكون الإيمان راسخاً في أبناء هذا الوطن ولا تعجل عليَّ، فإني سأتمم حديثي، وأعني بالإيمان ذاك الإيمان الذي يفرز أماناً، أتريد أن تختبر إيمانك أنت أيها الإنسان ؟ الجواب: نعم أريد أن أختبر فيما إذا كنت مؤمناً، إذا أردتَ أن تختبر إيمانك فانظر هذا الإيمان هل يفرز أماناً لمن حولك ؟ إذن إذا أفرز إيمانك أماناً لمن حولك فأنت مؤمن، وإذا أفرز لمن حولك اضطراباً ورعباً وخوفاً فلست بمؤمن حتى ولو قلت لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، حتى ولو قلت ما قلتَ من كلماتٍ إيمانية، لأن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يقول كما في مسند الإمام أحمد: (والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)، إذا لم يأمنك الناس فلست بمؤمن، فانظروا هل نحن في هذا الوطن يأمن بعضنا بعضاً ؟ إذا كان بعضنا يأمن الآخرين وإذا كان الآخرون يأمنون بعضنا فإننا مؤمنون وإلا فلا. الإيمان الذي يفرز أماناً ولا إيمان لمن لا أمان ولا أمانة له.

أيها الذي ينظر إلى مَن حوله على أنهم يحترمونه، إذا كان هؤلاء يحترمونك ولكنهم ليسوا مؤمَّنون من قِبَلك فاحترامهم مبنيٌ على خوف، وبالتالي ليس هذا باحترام. أيها الشيخ أيها الضابط أيها المسؤول أيها الوزير أيها المدير أيها التاجر: أمِّن من حولك حتى يكون إيمانك إيماناً مقبولاً، في الوطن الإيمان ينبغي أن يفرز أماناً وإلا فلا إيمان. هذا المقوم الأول. وانظروا أنفسكم يا أيها المؤمنون المسلمون الذين يعيشون في بلاد الغرب: هل إيمانكم يفرز أماناً لمن حولكم من المسلمين ولمن حولكم من غير المسلمين لأن رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) ولم يقل والمؤمن من أمنه المسلمون فقط. فهل يأمنك الناس من حولك،  قد تقول لي إن هؤلاء الذين ليسوا بمسلمين لا نأمنهم، أنا لا أريدك أن تقيس نفسك على غير مؤمن أو على غير مسلم أو على إنسانٍ ينعتق من صفات الإيمان، لكنني أريدك أن تقيس نفسك وأن تُلحق نفسك بأولئك الذين يأمنونهم الناس، أريدك أن تقيس نفسك على هؤلاء، ضع أمامك سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الرجل الذي أمنه الناس جميعهم المسلم فيهم والكافر على أموالهم وعلى أعراضهم وعلى دمائهم ولذلك لقِّب من قبل غير المسلمين ومن قبل أعدائه بالصادق الأمين، الأمين المؤمِّن مَن حوله.

الأمر الثاني: اللقاء فيما بيننا على أساسٍ من رحمة، كم ذكرت الرحمة وكم ذكرت تعريفها ؟ الرحمة عطاءٌ نافعٌ برفق، علينا أن نلتقي في الوطن على الرحمة، على أن يعطي كلٌ منا الآخر عطاءً نافعاً برفق، إذا لم تعطِ الآخرين عطاءً نافعاً برفق فلست برحيم، ومن لم يكن رحيماً فلا يمكن أن يكون مؤمناً ولا يمكن أن يكون مسلماً ولا يمكن أن يكون مرحوماً، كم من مرة ذكرت لكم على هذا المنبر الحديث العظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال كما في البخاري: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) من في الأرض، ومَن لفظة تفيد العموم، ارحموا من في الأرض من الناس كافة، نحن أمة الرحمة نحن أتباع الرحمة المهداة، أوليس الله قال عن رسوله: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ ؟ وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه: (إنما أنا رحمة مهداة)، كما جاء في سنن ابن ماجه وسواه.

الأمر الثالث: همنا ينبغي أن يكون الوطن، علينا أن نجعل الوطن همّنا وذلك من خلال حمايته ورعايته، ذكرتكم أكثر من مرة بواجبنا نحو الوطن، وواجبنا نحو الوطن حماية ورعاية، حماية من كل مكروه ورعاية ليكون الوطن في الصناعة راقياً، وفي الزراعة كذلك، وفي الاقتصاد كذلك، وفي التديّن الصحيح الواعي كذلك، وفي كل ما يعود عليه بالخير والرفعة والمجد كذلك، يجب أن نضع همّنا الوطن، وأن نضع الوطن أمام أعينا من أجل أن نقوم بخدمته وإلا فلن يكون الوطن مستقراً، إذا كنا لا نشتغل للوطن الذي منحنا أرضاً ومنحنا مناخاً ومنحنا أجواءً ومنحنا هواءه ومنحنا مأوى ومنحنا الأرض التي نرتع عليها ونعيش عليها، منحنا كل شيء جميل، فعلينا أن نقدم إزاء هذا الذي منحنا إياه الوطن الحماية والرعاية وإلا فلسنا بمؤمنين، لأن سيد المؤمنين كان وفياً لوطنه ولأرضه، كان يحب أرضه حتى قال عن بقعةٍ منها، عن جبل أحد: (أحد يحبنا ونحبه)، فهل أنت تقول هذا عن بقعة وطنك الذي تعيش فيه والذي تنعم بخيراته وثرواته، أم أننا أصبحنا سرّاقاً لخيرات هذا الوطن وأصبحنا بنفس الوقت عاقّين للوطن، كالولد العاقّ لوالديه، لم نكن على مستوى البر الواعي لوطننا ولذلك وطننا غير مطمئن وغير مستقر، ونحن لا نعيش الاستقرار والاطمئنان المنشود.

الأمر الثالث إذن أن يكون الوطن همنا حمايةً ورعايةً، حماية من كل مكروه ورعاية لكل مكرمة لكل فضيلة ولكل صفة حسنة ولكل ما يعود عليه بالازدهار والتقدم والرفعة والمجد.

المقوم الرابع أن نعتبر وبجدية ومنطقية أن المواطنة حصانة، كل من يعيش معي في هذا الوطن فهو في حصانة، دمه محفوظ وماله محفوظ وعرضه محفوظ وإياك أن تفكّر في لحظة من اللحظات في غير ذلك، المواطنة حصانة، من عاش معنا في الوطن فهو في حَصانة من كان من حيث دينه من حيث فكره من حيث مذهبه، الكل في حصانة ما داموا مواطنين وما دمنا نعترف بهم وبمواطنتهم، أتريدون دليلاً على ذلك من ديننا ومن شرعنا ؟ انظروا الدستور الأول الذي سجله بيديه الشريفتين سيد الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما قدم المدينة ووضع فيها أسس الدولة العادلة الراقية، كانت المادة الأولى من هذا الدستور الذي سجَّله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، المادة الأولى تقول: "وأن المسلمين مع مَنْ معهم من غير المسلمين أمة واحدة على من عداهم".

بالإيمان الذي يفرز أماناً، باللقاء على الرحمة والتراحم، بهمّنا للوطن من أجل أن يكون الوطن محمياً ومرعياً، بالمواطنة عندما تكون حصانة، عند ذلك نتحدث عن وطن مستقر آمن مطمئن، هذا الوطن لن تكون فيه جريمة، الجرائم كثرت والسبب في ذلك أن مقومات الوطن المستقر ناقصة إن لم أقل مفقودة، الجريمة متفشية، جريمة القتل جريمة التهتك جريمة التسكع جريمة الإدمان على المخدرات جريمة السرقة جريمة القتل جريمة الضرب جريمة الشتم والسب جرائم السفاح جرائم الضياع كل ذلك تفشى في مجتمعنا، لأن مقومات الوطن التي ذكرناها لم تتوفر بل ربما غابت بكليتها وبكلها بكل ما يمكن أن يحقق جزءاً منها، غابت عن أرض وطننا ولذلك انتشرت الجريمة وانتشرت المفاسد وانتشر الفساد وانتشر الشؤم وانتشر الحقد وانتشرت الضغينة وانتشرت العداوة وانتشرت البغضاء، فهذا يضرب جاره وذاك يقتل زوجته وثالثٌ يقتل قريبه ورابع يسرق معلمه وخامسٌ ينهش في مديريته وسادسٌ يرتكب أشد الفواحش في حق أقرب الناس إليه وهكذا دواليك... وسلوا قصر العدل وسلوا الأماكن التي تأوي إليها ملفات هذه المشاكل.

حدثني أصدقاء عن منع الحكومة السويسرية لمآذن في سويسرا، قلت له يا أخي وما تنفعنا المآذن إذا كان أولئك الذين يقفون تحت المآذن مختلفين فيما بينهم، أتريدون أن تبنوا مئذنة ؟ عجب لهؤلاء المسلمون، أتريدون أن تقوموا ببناء مئذنة وأن تهدّموا إنساناً أمامكم وألا تلتفتوا إلى بناء الإنسان الذي إذا كانَ بنى مئذنة وبنى مسجداً وبنى كعبه، فالذي بنى الكعبة إنسان، أتريدون أن نلتفت إلى بناء المآذن قبل أن نلتفت إلى بناء أنفسنا ؟ أنا لا أقول بأن المآذن ليست مهمة ولكنني أقول إن الأهم من المآذن أنت أيها الإنسان، وهذا الذي يفعل ما يفعل في الغرب إنما من أجل أم يلفتك أنت عن أن تبني نفسك، وإنما هو إشغال لك عن أن تتوجه إلى وطنك وإلى أخيك في البناء والنصح الذي يجعل منه إنساناً حراً كريماً فاعلاً عالياً مجيداً صادقاً صدوقاً ساعياً للخير والرحمة والعطاء النافع، فيا إخوتي أتريدون أن نتكلم عن مآذن لا يُسمَحُ لها في أن تبنى في بلاد الغرب وأن نهجر الكلام عن بناء الإنسان هنا حيث الإسلام، الإنسان هنا ضائع، الإنسان هنا أحد رجلين إما أن يكون مجرماً وإما أن يكون مُجرَماً في حقه. فيا إخوتي أتريدون هذا الذي يتحدث عنه الآخرون. عجبت من بعض إخوة لي يقولون هنالك حربٌ معلنة على الإسلام، الذي أعلن الحرب على الإسلام هو نحن يا إخوة، أولستَ أنت من يعتدي على جارك ؟ أوليس جارك مسلماً ؟ فأنت تعلن الحرب على المسلمين وعلى الإسلام، أولست أنت من يهمل أولاده ؟ أوليس أولادك مسلمين ؟ فأنت الذي تعلن الحرب على الإسلام. أولست أنت هنا في هذا البلد تقوم بالتخويف لمن حولك وترعب من حولك ؟ أليس من حولك مسلمين ؟ فأنت تعلن الحرب على المسلمين بالتخويف والترعيب، بالإهانة بالإعراض بالعقوق بالفساد بالإفساد بالغش هنا وهناك. يا إخوتي تذكروا وباختصار وأنا أريد أن أخرج من خطبةٍ ما أو من كلمة ما وقد استوت معالمها الأساسية في أذهانكم في أذهان المتلقي: الوطن المستقر إيمانٌ يفرز أمانة ولقاءٌ على رحمة، والوطن محل العناية حماية ورعاية والمواطنة حصانة. طبقوا هذا فستجدون الوطن في النهاية وطناً رغيداً آمناً مطمئناً وإلا فلن يكون الوطن آمناً مطمئناً بركعتين ظاهريتين وبدعاءٍ يخرج من الفم دون القلب، لن يكون كما تريد بركعتين سريعتين وبدعاءٍ عابرٍ عاجل، الوطن المطمئن يحتاج إلى عملٍ وسعي وجهد مستمر وإلا لا.

أسأل الله عز وجل أن يوفقنا من أجل أن نكون دعاةً لبناء الإنسان ولبناء الأوطان وفق ما يرضي الرحمن إن ربنا جليلٌ عظيم، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 4/12/2009

 

التعليقات

خليل شاوي

تاريخ :2009/12/07

من فهم عن الله وعمل بما فهم كان أنموذجا للمواطن الصالح وتكون النتيجة المؤمن الصادق يساوي المواطن الصالح فشكرا سيدي الشيخ على ابراز المعاني الصحيحة

شاركنا بتعليق