أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:
ما منا من أحدٍ إلا وينشد الراحة النفسية، لكننا اليوم وقد أصاب القلق دواخلنا، واستحكمَ فينا، وازدادت الحاجة إلى نُشدان الراحة النفسية والاستقرار النفسي، ولعلك إن تقصيت وجدتَ أن أكثر الذين لا يعيشون الراحة النفسية هم من المسلمين، هم من المتدينين، فما تكاد ترى متديناً إلا ويحكي لك حكايةَ قلقِه واضطرابه، لأنه يعيش همّاً صغيراً، هذا الهم يتعلق بالمال تارة، وتارة بالوظيفة، وتارة أخرى بالزواج، ورابعة بالمرض، وخامسة بالفقر، وسادسة بشيءٍ آخر، وتتعدد الهموم بتعدد الأشخاص.
لا تظنُن أنكم سترتاحون بمجرد أن تقولوا إنكم مسلمون، الراحة النفسية ضرورية لبناء الإنسان ولبناء المجتمع، وإن أي مجتمع لا يكون أفراده مرتاحين نفسياً ومستقرين نفسياً فلا يمكن لهذا المجتمع أن يكون مجتمعاً متقدماً، تسألونني بعد هذا الذي قلت: كيف نرتاح نفسياً وكيف نستقر وجدانياً وداخلياً ؟
أقول لكم: الدواء عندنا، الدواء لدينا، لكننا لا نمدّ أيدينا من أجل أن نتناوله، الدواء من أجل نرتاح نفسياً ومن أجل أن نقضي على قلقٍ يكمن دواخلنا ويدخل عقولنا، بكمن فيما يلي:
أولاً: الإيمان بالله من غير تعقيد، واللجوء إلى الله عز وجل من غير وسيط: نحن آمنا من أجل أن نرتاح، لكنني أرى المؤمنين اليوم قد آمنوا فتعقَّدوا وأصبحوا قلقين بسب إيمانهم، والإيمان جاء من أجل أن يُطمئن ويريح، لذلك أقول لك: آمِن من غير تعقيد، والتجئ إلى الله من غير وسيط، وتعامل مع ربك على أنه ربك لا على أنه رب الشيخ أو رب الأستاذ، من أجل أن تتوسَّط الأستاذ ليكلم ربه، رب الأستاذ ربك، ورب الشيخ ربك، ورب المسؤول الفلاني ربك، وبقدر ما هو ربك هو رب الأستاذ، وبقدر ما هو رب الأستاذ هو ربك أيضاً، التجئ إلى الله من غير وسيط، ولا تظنن أن هذا الذي يتكلم باسم ربك أنه يتكلم باسم ربك، ولا يسمح لأحدٍ أن يتكلم باسمه، تعامل مع الله على أنه ربك بشكل مباشر: ﴿وقال ربكم ادعوني أستجب لكم﴾، ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾، ما أجمل الإيمان طريقاً إلى الراحة إذا كنت تؤمن بربك من غير تعقيد، توجه إلى ربك وقل له: يا رب، أنت ربي، وأنت رب المستضعفين، إن لم ترحم من يرحم ؟ توجه إلى ربك عز وجل كما توجه إليه هذا الأعرابي الذي نُقل عنه عندما رؤي حولَ الكعبة يقول: "إلهي، إنك تجد من تعذبه غيري، ولا أجد من يرحمني سواك". توجه إلى ربك وقل:
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك ربِّ كما أمرتَ تضرعاً فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ
مالي سواكَ وسيلةٌ إلا الرَّجا وجميل عفوك ثم إني مسلم
التجئ إلى ربك وادعُ ربّك في سيارتك، وفي بيتك، وفي مسكنك، حيث كنت في الحي الفقير، في الحي الغني، في الجامعة، في المدرسة، في الدائرة، في الوزارة، في الشارع، حيثما كنت وحيثما وُجدت، قل: يا الله، استعِن بالله، وتوجه إليه فهو الذي سيجيبك، وهو الذي سيتولاك، وبذلك إن شعرتَ انك تخاطب القادر القاهر الجبار الرحمن الرحيم، وإن شعرتَ بأن هذا الذي تتوجه إليه يَسمعك فسترتاح وستطمئن، فادعُ ربَّك ترتاح، وأؤكد على هذا لأننا نعيش اليوم فئوية، فئة تدَّعي أنها قريبة الصلة مع الله عز وجل، وبالتالي تتحكم بالعلاقة مع الله من خلالها، وتستفرد بهذه العلاقة لتعطيك منها ما يروق لها، لا، أيها الإخوة، توجه إلى الله عز وجل بذاتك، ولا تطلب بينك وبينه وسيطاً.
الأمر الثاني: عليك من أجل أن ترتاح نفسياً أن تثق برسول الله، وأنه رسولٌ لك أنت مَن كنت مادمت مسلماً، وما دمتَ تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهو رسولك وهو يحبك، وهو الذي سيشفع لك، وهو الذي سينتصر لك، وهو الذي سيسمعك عندما تناجيه، ولا تظنَّن أن رسول الله حِكرٌ على بعض الأشخاص، على الشيوخ، على علماء الدين، رسولُ الله لك ولهم، ويمكن أن يكون لك أكثر مما يكون لهم لأنك تحبه، وأنا أعلم بأن عوامّ الناس يحبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتلقائية أكثر مما يحبه بعض الذين يدَّعون العلم والمشيخة، فثق برسول الله على أنه رسوله، على أنه شفيعك: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم﴾، ما أجمل هذا الحديث وقد جاء في صحيح الإمام مسلم: (لكل نبيٍّ دعوةٌ مستجابة دعاها لقومه في حياته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ من مات منهم لا يشرك بالله شيئاً) أنت مشمولٌ بالشفاعة العظمى لسيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيا أخي من أجل أن ترتاح انظر إلى هذا النبي على أنه رحيمٌ بك، على أنه رحمة، على أنه مُيَسِّر، على أنه أمرك أن تكون ميسِّراً ومبشّراً، لم أُبعث مُعنّتاً، وإنما بعثت رحمة، اقتدِ بهذا الرسول الرحمة المهداة: (إنما أنا رحمة مهداة).
الأمر الثالث الذي يجعلك ترتاح نفسياً: التفاؤل بالعواقب والمصير في الدنيا والآخرة، تفاءل يا أخي، كن محكوماً بالأمل على مستوى الدنيا وعلى مستوى الآخرة، أيها المريض: لا تتطلَّع إلى المرض وتطلع إلى الشفاء، أيها الفقير لا تتطلع إلى الفقر في ساعتك الراهنة، وتطلع إلى المستقبل، إلى الغنى، إلى غنى النفس، إلى الغنى بالله، إلى الغنى الآتي من الله، أيها الإنسان المظلوم لتكن آملاً، ولتكن صاحب تفاؤل، تفاءل بالله عز وجل، تفاءل بالخير، والله معك، والله مع المتفائلين، والله سيلبي تطلعاتك وحاجاتك، فلنكن متفائلين فالرسول صلى الله عليه وسلم في لبّ المعاناة وفي قسوة الضغط من الناس كان يقول لأصحابه كما جاء في الصحيح: (والله ليُتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، لكنكم قومٌ تستعجلون). الفرج آتٍ والنصر آتٍ، والسَّعة والرحمة آتية، فمالي أراك وأنت المريض حبيس مرضك ؟ مالي أراك وأنت الفقير حبيس فقرك، مالي أراك حبيس أمرٍ دنيوي أو أخروي ؟ مالي أراك تعيش هاجسه وتُقيِّد نفسك بالحال التي أنت فيها ولا تنطلق من هذا الذي ألمَّ بك بخيط أملٍ يوصلك بالرحمن الرحيم، بالمعطي، بمن خلقك، بمن جعلك أسمى مخلوقاته، والذي جعلك أسمى مخلوقاته لن ينساك، الذي خلقك فسواك فعدلك لن ينساك، لذلك تفاءل بالعاقبة في الدنيا والآخرة، وأنا أقول لأولئك الذين يكلمون الناس ويخوفونهم بالآخرة وبما بعد الموت: قفوا وكفاكم، فلقد تكلم كثيرٌ منا عمّا بعد الموت كلاماً مفزعاً، ولم يتكلموا عما بعد الموت كلاماً مطمئناً، وكلاماً راحماً، فنظرتُ إلى الناس فرأيتهم إذا ما وصلوا إلى أمكنة القبور فزعوا وخافوا وارتبكوا واضطربوا، لا يا إخوتي، ما بعد الموت سيكون لكم لقاء مع الرحمن الرحيم، مع الذي أحبكم، أحبكم إذ خلقكم، ذكركم إذ خلقكم، ستكونون مع الذي أنعم عليكم فهداكم للإسلام، فهداكم إلى اتباع طريقٍ خطَّه سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، لذلك نطمئنكم لساعة ما بعد الموت، ما بعد الموت سيكون أفضل لأنكم في ساحة الرحمن، لأنكم ستؤولون إلى الكريم، إلى الجواد، إلى الغفور، إلى التواب: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً﴾، حتى المسرف. أصبحنا نخاف من الموت لأنهم حدّثونا عن الموت حديثاً مخيفاً مرعباً، حتى الذي يصلي ويصوم ويعمل ويتقي أصبح يخاف من الموت لأنه أوعد من قبل أولئك بأن ما بعد الموت سيكون طامَّةً كبرى، حتى ولو كان صائماً، حتى ولو كان مصلياً، حتى ولو كان خلوقاً، المهم أن هذا الذي يكلمك عمّا بعد الموت يكلمك عن عالم كله عذاب ومقت وغضب وخوف، كله فزع وسواد ورعب، عن عالم سكن بالقهر والخوف والرعب والتشريد والتعذيب. أين أنت مما قاله سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا العالم، أين أنت من هذا الكلام المُبَشِّر المنور عن هذا العالم، ورد في أحاديث كثيرة، ومن جملة هذه الأحاديث كما جاء في البيهقي أن أعرابياً قال يا رسول الله من الذي يحاسبنا يوم القيامة ؟ فقال سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله). فقال هذا الأعرابي: فزت ورب الكعبة. فقالوا له: كيف عرفت هذا ؟ فقال: إن الكريم إذا قدر عفا. (لو لم تذنبوا) كما جاء في الحديث الصحيح (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يُذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم). التفاؤل بالمصير.
رابعاً: ما عليك إلا أن توحد جهة التأثير، والموثّر هو الله، ولو اجتمع الإنس والجن على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك، ضع هذا في صدرك، ضع هذا في كل خلية من خلاياك: (ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، ما قُدِّر لماضغيك أن يمضغاه فلا بد أن يمضغاه، ويحك كله بعز ولا تأكله بذل، كن قوياً لأن الفاعل الله، ولأن المقدّر الله، ولأن المعطي الله، ولأن المانع الله، ولأن الذي يؤثر هو الله، ولأن هذا الذي أمامك عبدٌ كما أنت لا يستطيع أن يتصرف بشيء خارج قدرة الله، وعطاء الله، ومنح الله، وتقدير الله، وحّد جهة التأثير، الله قل: ﴿وما بكم من نعمة فمن الله﴾، ﴿وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير﴾، ﴿أليس الله بكافٍ عبده﴾.
خامساً وأخيراً: عليك أن تقرَّ بأن الإنسان إنسان، ويعني هذا أن الإنسان يخطئ ويصيب، فمالي أراك تنظر إلى إنسانٍ ما على أنه يصيب ولا يخطئ ؟ عند ذلك ستتكدر نفسياً، أبوك وشيخك وأستاذك ورئيسك، مهما كان، فالإنسان يخطئ ويصيب، يذنب ويخطئ، يرتكب ويتوب، وأنت أيضاً كذلك، علينا أن نقر بواقعية الإنسان، وأن الإنسان ليس معصوماً، حاشا، النبي صلى الله عليه وآله وسلم معصوم، ومن عداه فكلهم خاضع لثنائية الخطأ والصواب، أنت تنظر إلى إنسان على أنه لا يخطئ، وتعتقد هذا، فإذا أخطأ غيّرك وكدّرك وجعل حالك تسوء، الأصل في ذلك أنت، أنت الذي أخطأتَ لأنك لم تنظر إلى هذا الإنسان بواقعية، انظر إليه بواقعية مطلقة يصيب ويخطئ يذنب، ويتوب ويعطي ويرتكب الآثام، ويتوب ويرغب إلى الله ويعدل عنه، يمسّه الشيطان، ولقد كررت أكثر من مرة قول الله عز وجل: ﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ ولم يقل لا يمسهم الشيطان، سيمسّك الشيطان شئت أم أبيت، لكن عليك أن تتوب، ينظر بعضنا إلى بعض على أننا ملائكة لا نخطئ، والحال أننا نخطئ، فإذا أخطأنا تكدَّرنا وعشنا التبكيت مع أنفسنا ومع غيرنا، وهيهات مادمنا نظرنا إلى هذا الإنسان على أنه لا يخطئ، فإن أخطأ هيهات أن نغفر له، غفر الله له ولكننا لن نغفر له، لأننا نظرنا إليه في الأصل نظرة خاطئة على أنه لم يخطئ ولن يخطئ، ولا يمكن أن يخطئ ولما أخطأ لا غفران له بعد اليوم.
أنت أيها الإنسان ولدك، زوجتك، أمك، أبوك، معلمك، طالبك، انظر إليه بواقعية على أنه يخطئ ويصيب، يبتعد ويقترب، يجنح ويعدل، يظلم ويعدل، وهكذا دواليك، فما عليك إلا أن ترحمه أولاً بنظرتك إليه على أنه يتحمل هذا، وعليك أن تنظر إليه برحمة ثانياً على أن توجهه نحو التوبة والاعتذار بأسلوب أمثل فيه الموعظة الحسنة، وفيه الرقة واللطف، وفيه الرفق، فالرفق ما وُضع في شيءٍ إلا زانه وما رفع من شيء إلا شانه.
تعالوا من أجل أن نجرّب هذا الذي عرفت حتى نرتاح نفسياً في عصر عجّت فيه الضائقات النفسية، وكلكم شئتم أم أبيتم لو تكلمتم على انفراد لقال كل واحدٍ منكم بأنه ليس بمرتاح، ولا يعرف طعماً للراحة، ربما تراه يرقص ويغني ويحضر جلسات السَّمر والأفراح، لكنك إن كلمته على انفرادٍ أباح لك ما لم يبحه لغيرك في تلك اللقاءات التي تتمتع بظاهر فرح، لكنها في حقيقتها قلقة ومقلقة.
هيا إلى ساح الراحة حتى ننتج، لن ننتج إذا كنا قلقين ولن ننتج إذا لم نكن مرتاحين نفسياً، وإذا كان مبعث القلق النفسي الدِّين فلبئس هذا الوضع، الدِّين يجب أن يكون مبعث راحة نفسية لك، ونحن الذين نحوّله بين الفينة والأخرى إلى مصدر قلق وإتعاب للآخرين، ولذلك - وبكل صراحة - انظروا شبابنا يا إخوتي فهم يخرجون من الدين شيئاً فشيئاً، لأنكم أنتم جعلتم من الدين بالنسبة لهم مصدر قلق وتعب وتخويف وإرعاب، ولذلك يترك من يترك من أبنائنا وطلابنا هذا الدين شيئاً فشيئاً، وكما يُقال يتسللون منه لواذاً وعلى خفية منك، لأنه يخاف منك فلا يُعلن عن رأيه، ويخاف من كلامك الذي يُعبر عن عذابٍ سيأتيه في الدنيا والآخرة، وعن ملائكة ستتفرد به لتجعله ممثلاً فيه مُعذَّباً في الدنيا قبل الآخرة، في القبر قبل الآخرة، في كل موقف من مواقف الآخرة قبل أن يكون في جهنم خالداً مخلداً فيها.
انتبهوا إلى مواعظكم، وانتبهوا إلى كلامكم وتوجيهاتكم، وآمل أن نلتقي دائماً على ساحِ الإسلام وفي ساح الإسلام الذي هو مبعث رحمة، ومبعث اطمئنان واستقرار.
اللهم هيئنا لذلك يا ربنا اشفنا وعافنا وارحمنا واغفر لنا وتولَّنا واسترنا وارزقنا وأعزَّنا وسدِّدنا وثبتنا وزدنا علماً، أقول هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت بتاريخ 28/5/2010
التعليقات