أمَّا بعد، أيُّها الإخوة
المؤمنون :
الفرد لبنة أساسية في كل المجتمعات ،
وإعداده أمر لازم يسعى إليه كل من أراد الإصلاح ، ولقد أضحت هذه الكلمة "
الإعداد " كلمة العصر ومصطلحه الأكثر ذكراً ، وعليها تتسابق الديانات والأحزاب
والمذاهب ، وسيبقى الإسلام هو الأفضل في هذا الميدان ، في ميدان " الإعداد "
وذلك بما قدّم من نماذج ومبادئ ، وإذا كان الإنسان مكوناً من عقل ونفس وروح
وسلوك فإنّ " الإعداد " ينبغي أن يكون لكل هذه المكونات منفرداً ، وينبغي أن
ينصب عليها مجتمعة أيضاً ، حتى تغدو في مصب الهدف الواحد المحدد في الإسلام
يقول الله عز وجل : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . وفي المذاهب
والمبادئ الأخرى ، إذ لا هدف بعيد ولا هدف شامل يمكننا أن نراه لدى الآخرين .
تحدثنا في أسبوع ماض عن الإعداد السلوكي باعتبار السلوك المظهر والصورة للإنسان
، ولكننا وفي الوقت نفسه نرى بأن لهذا السلوك مستنداً نفسياً يعيشه الإنسان ،
فكان لا بدّ أن نتبع هذا الكلام بكلام عن ( الإعداد النفسي ) الذي قدّم الإسلام
مبادئه ، لا سيما أن عصرنا اليوم عصر دراسات نفسية ، عصر كثر فيه من يريد أن
يبحث عن خبايا النفس ، ومعلومة هي أيها الإخوة المقولة التي يسوقها علماء النفس
: " من احتار داخله تعثّر خارجه " .
وأما المبادئ التي قدمها الإسلام في ميدان ( الإعداد النفسي ) للفرد والتي
تتلازم تلازماً عضوياً مع ما قدّمه الإسلام من مبادئ من أجل ( الإعداد السلوكي
) و( الإعداد الفكري ) فهي :
أولاً : الإيمان بالله عز وجل : الإيمان بالله عز وجل ، بالصفات الكاملة
والأسماء الكاملة التامة المطمئنة للإنسان ، والتي يشعر الإنسان حينما يؤمن بها
أنها تغطي كل متطلعاته نحو الخير ، فما من خير يشعره في داخله إلا ويجد مخزناً
وملتجأ له في صفات الله عز وجل ، في التصور الإسلامي ، كما وصف ذاته في القرآن
الكريم ( وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد،فعّال لما يريد ) .
الله عز وجل هو الذي وصف ذاته في القرآن الكريم ، والإنسان حينما يقرأ هذه
الصفات ، وهذه الأسماء يرى أنه مسيّج بسياج عظيم كبير ، فالله يعطيه كل ما يريد
أن يطلب من خير ، لأن الذي تعبده أيها الإنسان يتصف بكل الصفات التي يمكن أن
تأخذ منها من أجل أن تحقق كمال إنسانيتك ووجودك واستقرارك وهناءك .
أيها الإنسان : إنّ الله عز وجل اتصف في عقيدتنا بهذه الصفات ، فنحن مطمئنون
إلى ذلك ، ويرحم الله من قال حينما ذكر صفات الله وذكر صفات العبد التي يشذّ
بها عن ربه عز وجل ، ولكنه وجد نفسه في حال العودة إلى الله أن الله يقبله فقال
شاعرنا :
أنا مخطئ، أنا مذنب ، أنا عاصي |
هو غافر ، هو راحم ، هو عافي |
قابلتهن ثلاثةً بثلاثة |
ولتغلبن أوصافه أوصافي |
ما قدمه الإسلام في (
الإعداد النفسي ) أن وجّهك للإيمان بالله عز وجل ، ونحن أيها الإخوة وبكل بساطة
، نتحدى الديانات الوضعية الآن من خلال التصور لله ، وقد طرحناه سابقا ً، فلا
يمكن أن نجد تصوراً عن الله عز وجل في كل الديانات التي تطرح نفسها اليوم
سماوية ، كالتصور الذي نجده في ديننا ، في عقيدتنا ، في إسلامنا ، وأمامكم
الكتب فاقرؤوها من أجل أن تصلوا إلى الحق بأنفسكم .
ثانياً : الثقة المطلقة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وتلك نقطة تجعل
الإنسان يرتاح في داخله ، وتجعله لا يتحير وهو يمشي في هذه الحياة ، ما دام يجد
أمامه نموذجاً رائعاً يثق به كل الثقة ، هذه الثقة برسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم تولّدت عبر صفاته ومعجزاته وتطبيقه الكامل لما كان يدعوا إليه صلوات
الله عليه وسلاماته . فرسول الله يتصف بصفات رائعة جاءت من خلال اتصافه بأنه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الذي قال عن نفسه : ( إني رسول الله
إليكم جميعاً ) ، هو الذي قال عن نفسه في ساعة شديدة ، وقف الناس فيها يتطلعون
إليه ، ماذا يمكن للإنسان أن يقول عن ذاته في لحظة شديدة قاسية إلا الحق . في
تلك اللحظة برزت الصفة التي تحلّى بها رسول الله في غزوة حنين ليقول كلمته
الرائعة ، ليقول صفته التي تميّز بها عن سائر الخلق قال : " أنا النبي لا كذب ،
أنا ابن عبد المطلب " . ولو كان غير ذلك لقال ، فتلك الساعة تظهر المكنونات ،
ويظهر كل ما يمكن أن يداخل الإنسان .
وعلى سبيل المفارقة لا على سبيل المقارنة أقول لكم في اللحظة التي وقع فيها
فرعون رهين الشدة والقسوة قال ما يتصف به . قال الحقيقة ، ولكن الوقت فات ، قال
: ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) . ولكن رسول الله في ساعة
شديدة ، في ساعة انهزم فيها من حوله من المسلمين وقف يعلن الصفة الكامنة في
داخله : " أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب " ومن هنا تولدت الثقة
المطلقة برسول الله عليه الصلاة والسلام ، وهذا مما يريحنا نحن اليوم - أيها
الإخوة - حتى نعطي ما في داخلنا من ثقة لرسولٍ كري م، وصفه ربي بأجمل الصفات ،
ووصف نفسه بأجمل الصفات ، وكان التطبيق برهاناً عملياً على هذه الصفات التي
اتصف بها : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ ) وقد برهن على ذلك من خلال
سلوكه صلوات الله عليه وسلاماته ، ولقد وقف سيّد الشجعان في وقته سيدنا علي رضي
الله عنه وأرضاه ليعلن الولاء ، وليعلن الثقة ، وقد ارتاحت نفسه ، فقد كان
يتطلع إلى مَنْ يضع الثقة فيه ، ولكنه حينما رأى رسول الله ورأى صفاته ، ورأى
معجزاته ، رأى الحقيقة تنبع من لسانه ، ومن قلبه ، ومن كل جوارحه ، وثق به
واطمأن إلى هذه الثقة ، وقال مرة لفاطمة رضي الله عنها وأرضاها :
أفاطم هاك السيف غير ذميمِ |
فلست برعديد ولا بلئيمِ |
لعمري لقد أبليت في نصرة أحمد |
ومرضاة رب ٍ بالعباد عليم |
إنها الثقة التي تجعل
النفوس مطمئنة إلى هذه الشخصية .
ثالثاً : الاطمئنان إلى المصير : المبدأ الثالث الذي قرّره الإسلام وهو يعدّ
الفرد إعداداً نفسياً أنه طمأنه إلى مصيره ، فنحن مطمئنون إلى المصير المرضي ،
والله عز وجل قال واعداً : ( إنّ المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك
مقتدر ) إذاً لما لا أطمئن ؟ وربنا يقول لي في محكم آياته ، في كتاب أثبت
الزمان صدقه وأثبت العقل صدقه ، وأثبت التفكير صدقه : ( إنّ الذين آمنوا وعملوا
الصالحات كانت لهم جنّات الفردوس نزلاً . خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً ) .
إنني مطمئن إلى مصيرٍ مرضٍ يوم أسير بهذا الدين إذاً فعلام القلق ، ولذلك وقف
من قال في ساعة وداع الدنيا ، سيدنا بلال رضي الله عنه وأرضاه ، قال مطمئناً
إلى مصيره المرضي حينما سمع من حوله يبكي ، قال لا : غداً ألقى الأحبة ، محمداً
وصحبه . سأكون لاحقاً بهم إن شاء الله ، وسنكون بعون الله لاحقون بكم يا سيدي
يا رسول الله ، وذلك بما وجدناه في قلوبنا من حب لكم ، من حبّ عمر قلوبنا
بذكراكم ، صلوات الله وسلاماته عليكم . ووقف الصحابي الآخر أنس بن النضر في
غزوة أحد يطمئن إلى المصير ليقول وهو يبعد الناس حوله : " إني لأجد ريح الجنة
من خلف أحد " دعوني أيها الناس . إنه مطمئن إلى مصيره . والنبي صلى الله عليه
وآله وسلم وقف في غزوة بدر ليقول : قتلاهم إلى النار ، وقتلانا إلى الجنة ،
وأنا إذ أغتنم هذا المبدأ الثالث من أجل أن أوجّه كلمة لأولئك الذين يقاتلون
عدواً لدوداً يريد كما قلنا أن يحشرنا تحت خيام سوداء في فلسطين وفي غيرها .
يا إخوة الإيمان : إنكم تقاتلون ، وإنكم مطمئنون إلى مصيركم بعون الله عز وجل
ما دامت غايتكم الله عز وجل .
أيها المسلمون في فلسطين : قاتلوا لأنكم إلى الجنة بعون الله صائرون ، وأنتم إن
عشتم كنتم سعداء . وإن انتقلتم إلى ربكم ففي جنة الخلد ترتعون ، فيا مرحباً
بانتقال من سعادة في الدنيا إلى شهادة في الآخرة ، مطمئنون إن شاء الله إلى
مصيرنا ، ونحن من أجل هذا الاطمئنان ندعوا ربنا في كل لحظات وجودنا نقول له :
يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على دينك .
رابعاً : توحيد جهة التأثير : وأما المبدأ الرابع الذي اعتمده الإسلام في
الإعداد النفسي فإنه وحد لدى المسلم جهة التأثير ، فلا مؤثر إلا الله ، وبعد
ذلك ، علام الالتجاء إلى غيره ما دام المؤثر الله ؟! لِمَ ألتجئ إلى غيره ما
دام رسول الله يوصي صحابياً جليلاً يقول له كما يروي الترمذي : " يا غلام احفظ
الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن
بالله ، واعلم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد
كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله
عليك ، رفعت الأقلام ، وجفّت الصحف " وإذاً : ( إنما قولنا إذا أردنا شيئاً أن
نقول له كن فيكون ).
لقد وحّد جهة التأثير لدى المسلم ، إذن فأنا مرتاح ، فليس من متصرف إلا الذي
خلقن ي، وعلامَ الخوف والتقهقر ؟! علامَ مادام الله هو الذي سيتولى أمري ، وما
دام غيره لا يستطيع أن يتولى أمره بذاته ، فعلامَ - أيها المسلمون - علامَ
الخوف ؟! إنّ هذا الذي جعل سيدنا علي يقول مرة وقد توحدت لديه جهة التأثير قال
- وهذا ما يجعل الإنسان يدافع ويقاتل ويناضل من أجل الحقيقة في سبل الله -
واعذروني إن كنت لا أحب كلمة النضال ، أقول أجاهد - يجاهد في سبيل الله من أجل
مرضاة الله .
خامساً : الاعتراف بواقعية الإنسان : وأما المبدأ الخامس الذي اعتمده الإسلام
في إعداد الإنسان نفسياً ، فإنه وضع أمام ذاك الإنسان نموذجاً للإنسان الواقعي
، فلقد أراحك الإسلام حين لم يطالبك بأن تكون مثالياً ، حين لم يطالبك بأن تكون
معصوماً وملائكياً . لا. الإسلام أقرّ واقعيتك . الإسلام أقرّ ذنبك ، وأقرّ
عصيانك ، ولكنه طالبك بأن تعود إلى الله فإذا مسّك طائف من الشيطان تذّكرت فإذا
أنت مبصر ، الشيطان لم يهرب منك ، وهذا اعتراف بواقعيّة الإنسان ، ولكن الإسلام
قال لك : تب إلى الله ، عد إلى الله . إن أصابك مثل هذا ، فإن الله يبسط يده في
الليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل .
ونحن نعد شبابنا نفسياً وسلوكياً ، لا أريد - أيها الإخوة - لشبابنا أن يعيشوا
عقدة الذنب ، أن يعيشوا التفكيك ، والأسف الذي لا أثر إيجابياً له ، لا أريد
ذلك ، فليس هذا من ديننا ، قد يذنب الإنسان ، قد يخطئ ، وهذا أمر طبيعي ،
ومقرٌّ من الشريعة السمحاء ولكن تقول لك الشريعة : حاول .. ارجع إلى ربك .. (
إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) ولعل العُقَد التي تنتاب
فردنا اليوم أنه لا يستطيع أن يعيش مع الذنب الذي يرتكبه من أجل أن يمحوه من
ذهنه·· أما الإسلام فقد قال لك تستطيع أن تمحوه بتوبة نصوح إلى الله عز وجل .
وربك حيثما تكون يفرح بك ، ولقد تحدثنا عمن يحبهم الله ، وكان من جملتهم
التوابون . فيا أيها الإخوة هذا ما نقدمه في مجال إعداد الفرد إعداداً نفسياً
.
سلوا الآخرين عما يقدّمونه في هذا الميدان . لن تجدوا - أيها الإخوة - إنها
أدوية طارئة ، لن تجدوا لديهم إلا كلاماً لا رصيد له في حياة الإنسان . سلوا
عمن يريد أن يُعدَّ اليوم . هل يُعد الإنسان نفسياً ؟!
سلوه عن التناقضات التي يصبونها في قلب الشباب اليوم ، من أجل أن يقولوا له
هكذا وحسب الظاهر نحن نعدك . نحن نجعلك . لا ورب الكعبة أقول بفضل الله إن
الإسلام هو الوحيد الذي يقدّم للإنسان إعداداً نفسياً ، وقد تحدثنا عن الإعداد
السلوكي . وضعوا في أذهانكم إن الإسلام سيبقى الأفضل في مجال الإعداد النفسي .
سلوا الآخرين اليوم عن الطب النفسي . يطرح أنصاره أدوية للناس لا يستطيعون -
أيها الإخوة - أن يقدموا شيئاً لهؤلاء الذين يحتاجون إلى اطمئنان . فلا مطمئنات
لديهم على الإطلاق .
اللهم إني أسألك بحق من طمأن الوجود ، بحق من طمأن أصحابه ، بحق من طمأن
التابعين ، بحق من طمأننا ، أن تجعلنا مطمئنين إلى دينك ، إلى شريعتك ، إلى
عقيدتك ، إلى هذا الرسول عليه وآله الصلاة والسلام ، إلى كل ذرة من ذرات
الإيمان . وأن نرى الخير في ذلك ، وأن لا نرى الخير إلا في الإسلام .
نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت .
التعليقات