أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:
لا شك أن كل واحدٍ منا حين يريد أن يناقش أحداً يريد أن يصل إلى الحق كما يزعم، ولا شك في أن كل واحدٍ منا حينما يكتب في موضوعٍ ما يريد أن يصل إلى الحق هكذا يدّعي، وعندما تبحث مع صديق ما في قضية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو أخلاقية فإنك تدّعي بأنك تريد الوصول إلى الحقيقة المتعلقة بهذا الذي تناقشة، لكننا اليوم ومن خلال ما نرى على قنواتنا الفضائية وعلى أثير إذاعاتنا بشكل عام، وعلى صفحات المجلات والجرائد، من خلال ما نرى على صفحات هذه الوسائل بشكل عام ومن خلال الخطب والدروس ننظر هؤلاء وإذ بنا نقع في الحيرة، فلا هذا الذي يتكلم مدافعاً عن وجهة نظره يُقنعك، ولا الآخر الذي يردّ عليه ويناقشه أيضاً يقنعك، وتبقى أنت في دائرة ما يسمى بالحيرة، ما الذي ستفعل ؟ إلى أين ستدعو ؟ عن أي شيء ستتحدث بقوة ؟
جاء ديننا الحنيف ليقول لنا يا من تريد أن تتحدث لتصل إلى حق، ويا من تريد أن تناقش لتصل إلى حق، ويا من تريد أن تحاور، ويا من تريد أن تتكلم، ويا من تريد أن تتحدث لتصل إلى حق عليك أن تتخلّى عن أمور أربعة وأنت تقول بأنك تريد الوصول للحق.
تجنب أولاً الجهل، إذا كنت تجهل أمراً ما فإياك أن تحاور فيه أو أن تناقش فيه أو أن تعطي حكماً فيه، عليك أن تكون عالماً بهذا الذي تحاور فيه أو تناقش فيه أو تتحدث عنه، الجهل مانع وحاجز وسد يمنعك ويحجزك ويصدّك عن أن تصل إلى الحق المنشود الذي تنشده أنت في داخلك أو على لسانك، الجهل داءٌ وبيل، واليوم كل أفراد مجتمعنا إلا من رحم الله وهم قلة قليلة يتكلمون فيما يتكلمون عن جهل، ويحاورون فيما يحاورون عن جهل، ويتحدثون عن القضية الفلسطينية ولا يعرفون شيئاً عن القضية الفلسطينية على سبيل المثال، يتحدثون عما يجري في أفغانستان ولا يعرفون أين تقع أفغانستان، يتحدثون عن السياسة الأمريكية ولا يعرفون السياسة الأمريكية، كلنا يتحدث في كل موضوع على وجه هذه البسيطة، سَل على سبيل الاختبار واحداً من الناس بعد الصلاة قل له ما رأيك فيما يحدث في قرغيزيا اليوم، سيكلمك كلام إنسانٍ عالم مُلمٍّ يعرف كل شيء دقيقة وكبيره.
الجهل داء وبيل، ولذلك عليك أن تتأكد قبل أن تتكلم في أي أمر أن تتأكد من علمك به، الجهل مانع وسد وحاجر وصد عن الوصول إلى الحقيقة، رأى أحد الصحابة صحابياً آخر فقال له لماذا تأخرت عن الإسلام إلى هذا الوقت ؟ فقال الصحابي الآخر: كنت أقول ما يقول آباؤنا - كان يقلد عن جهل ويتحدث على سبيل الإمّعة - حتى إذا ذهب آباؤنا نظرنا فإذا هذا الدين حق.
لا نريد معاداة مبينة على جهل حتى ولو كنت تعادي الشيطان، ولا نريد أيضاً تلاحماً وتناصراً مبنياً على جهل، ولا نريد تآلفاً مبنياً على جهل، فما جاء عن طريق الجهل سيذهب من خلال نفس الطريق بشكل سريع وسيبقى مكانه عداوة لا تزول.
الأمر الثاني الذي يمنع الناس عن الوصول إلى الحق الذي ينشدونه: الهوى، الاستسلام للغرائز والشهوات والنزوات، أنت تريد أن تحكم بين شخصين على سبيل المثال، أحدهم بعيد عنك أو من غير بلدك، أحدهم لا ينتسب للدين الذي تنتسب إليه، لا ينتسب للمذهب الذي تنتسب إليه، والآخر من بلدك، ويُكنّى بكنيتك، ينتمي للدين والمذهب الذي تنتمي إليه، لكن الأول فيما لاح لك هو على الحق، وأما الثاني فليس على الحق، هنا تكون المجاهدة، أتراك تستسلم لهواك، أتراك تنزع من أجل أن تكون في صفّ هذا الذي يفرض عليك الهوى أن تكون بجانبه، وتعدل عن هذا الذي يفرض عليك العدل والحق أن تكون بجانبه: ﴿ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله﴾ واتبع العلم، واتبع الصدق واتبع الحق.
انظروا تربيتكم أولادكم أأنتم مع الحق والعدل أم أنكم مع الهوى ؟ تغفرون لأولادكم مالا تغفرون لجيرانكم، تسامحون أولادكم على ما لا تسامحون عليه جيرانكم، نتحمل ممن يصلي معنا أكثر مما نتحمل من هذا الذي لا يصلي معنا، يدفعنا الهوى، والهوى استسلام للمزاج واستسلام للغرائز واستسلامٌ للشهوات واستسلامٌ لغير العدل ولغير الحق، ولذلك: ﴿ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله﴾، ﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا﴾ جرب نفسك هل تستطيع الآن أن تكون صاحب حق وأنت تتكلم والقضية حسّاسة وأنت تحكم وتفصل بين اثنين أحدهما ينتسب لغير دينك والآخر ينتسب لدينك ؟ أكد هذا الأمر بالله عليك هل تستطيع أن تقول الحق ولو كان مراً ؟ هل تستطيع أن تقول الحق ولو كان قاسياً ؟ بينك وبين نفسك أنا لا أتكلم عن قول الحق أمام إنسان يرفع عليك العصا لكن أتحدث عن قول الحق أمام شهواتك ونزواتك ورغباتك التي تمتلكها وتستطيع أن تردها وتجعلها مكبوتة برداء الحق وسوط الحق ودعم الحق وضغط الحق.
عدت لأهوائك عبداً وكم تستعبد الأهواء أربابها
يخبرني بعض الناس بأنه طلق زوجته، لماذا طلقتها ؟ يقول لي ولا يرى سبباً مشروعاً وإنما الهوى لا أكثر ولا أقلّ، يقول لي إنسان آخر إنه لا يريد أن يكون ولده في المجال الديني، والسبب لا يتحدث عن حجة مقنعة وإنما يتحدث عن هوى يقبع في رأسه وفي قلبه وهكذا دواليك... ولا أريد أن آتي بأمثلة أوضح من هذا الذي آتي به خشية أن يكون في الأمر إحراج لنا على مستوى الشعب أو على مستوى القيادة أو على مستوى الأستاذ أو على مستوى المدرس وكوني مُصرحاً أكثر من كوني ملمحاً.
الأمر الثالث: الاستكبار والعناد، انظر أولادك وقام أحد الأشخاص بدراسة ميدانية فسأل أكثر من خمسين أباً عن أولادهم فكانت إجابات الكثيرين منهم أنهم يشتكون من الأولاد العناد، يرون الشمس شمساً لكنهم لا يقرون بأن الشمس شمسٌ. يشتكون من أولادهم المعاندة، والمعاندة تمنعك من أن تصل إلى الحق، العناد داءٌ وبيل، تقنع إنساناً ما بأنه على الباطل وبأنه يجانب ويجافي الحق لكنه يفكر كما فكر فرعون فيقول لك لن أقبل. يأتيك اثنان يُقرّان في البداية بأنهما يحتكمان إليك وسيرضيان بنتيجة الحكم الصادر عنك، تحكم بينهما، يتوقع أحدهما أن الحكم سيكون له، لكن يتبين له أن الحكم ليس لصالحه فيقول لن أقبل بهذا الحكم، الذي دفعه لهذا الرفض العناد والاستكبار.
وهذا هو موقف أولئك الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في عهد النبي: ﴿أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً. أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً﴾ يا ناس الحق هذا، كنا منذ أيام مع إخوة من طلبة العلم فقلنا لهم قبل أن تناقشوا وتحاورا حددوا مصطلحاتكم فما يوصل إليه الحوار سنؤمن به وسنقنع به لكننا وصلنا إلى نتيجة لم تكن في حسبان بعضهم، فقال بعضهم لا نقبل هذا، نحن نردد ما كان يردده أشياخنا: ﴿تلك أمة قد خلت﴾ أنتم الذين ستحاسبون، أنتم الذين ستقفون بين يدي الله عز وجل وسيقول لكم ربكم لمَ لم تؤمنوا بهذا الذي وصلت إليه قناعاتكم عبر طريق علمي صحيح ؟ أستقولون لربكم بأنكم عاندتم ؟ نعم هو العناد بعينه، عاند مسيلمة الكذاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فالرسول جاء بقرآن من ربه قرأ على الناس سورة الصافات والنازعات والفيل والماعون. وقرأ مسيلمة على جماعته على سبيل العناد الطاحنات والوبر وما سوى ذلك، فبقي ما نزل على محمد وسيبقى إلى قيام الساعة وزال وانمحى هذا الذي أتى به المعاند مسيلمة: ﴿فألقي السحرة سجداً﴾، ﴿فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى. وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى﴾ رأى السحرة هذا الذي جاء به موسى وعلموا بقرارتهم أنه الحق، فألقي السحرة سجداً لكن فرعون بقي معانداً، لماذا نريد أن نسير اليوم، وأتحدث عن الشباب والنساء والشيوخ والأطباء عندما تناقش طبيباً بأمر ما لا يريد هذا الطبيب أن يناقشك يستعلي عليك، عندما تريد أن تناقش مسؤولاً لا يريد أن يناقشك يستعلي عليك، عندما تريد أن تناقش أستاذاً لا يناقشك يستعلي عليك، ويعاند ولربما رأى الحق أبلج وهو يخرج من فمك، إلا أنه لا يريد أن يستسلم للحق بل يريد أن يبقى ضحية العناد وأسير العناد.
الأمر الرابع: الخوف، الخوف يمنعك أن تصل إلى الحق، أنت تخاف على نفسك، تخاف أن يقال أنك كنت خلال أربع سنوات على هذا الفكر فما الذي غيّرك، تقول ما تقوله حق لكن ماذا أقول للناس وكأنك أنت وضعت الناس موضع الله، تعبد الناس، ولذلك كنت أمازح بعض الأقرباء فقلت لهم أنتم تعبدون الناس لا تعبدون الله لأنكم على اقتدار أن تغيروا الأمر إذا شعرتم أنه لم يكن على الحق، لكن هذا الأمر غير معروف عنكم لدى الناس أما إذا كان هذا الأمر قد عرفتم به أمام الناس حتى لو رأيتم الحق في الجانب الآخر فلن تعدلوا عنه لأنكم تخافون الناس. والناس الذين تخافونهم وهمٌ يا إخوة، لذلك جاءت الآية الرائعة العظيمة التي تقول: ﴿وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه﴾ من الذي أحق أن تخشاه ؟ وأنتم ونحن وكلنا في مقام واحد لا يكاد أحدنا يفترق عن الآخرين إلا بعض الشيء نخاف الناس على حساب خوفنا ربنا، نخاف الناس على حساب الوصول إلى الحقيقة، نجبن على حساب الوصول إلى ما يريح ضمائرنا، نحن نحب أن نريح ونقدم الراحة لشيء وهمي لأناس لا نعرفهم هكذا نتصور الناس سيعتبون علينا وبالتالي لن نتغير عن الباطل الذي رأيناه بأم أعيننا على أنه باطل، لن نتغير لأننا نخاف الناس، لأننا نخاف من أن نكون جرآء على أنفسنا: ﴿ولا يخشون أحداً إلا الله﴾ هذه صفات المؤمنين، ولذلك وأنا أدعوكم إلى تكرار هذا الدعاء: (اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال).
اجتنبوا يا إخوتي في حياتكم الجهل والهوى والعناد والخوف حتى تصلوا إلى هذا الذي تريدون أن تصلوا إليه وهو الحق في كل الجبهات التي تعملون فيها وعليها وفي كل المجالات التي تشتغلون فيها وعليها.
اللهم إني أسألك أن تجنبنا الجهل والهوى والعناد والاستكبار والخوف من سواك يا رب العالمين، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت بتاريخ 11/6/2010
التعليقات