نشرت صحيفة تشرين الصادرة بدمشق وضمن صفحة مدارات بتاريخ : الأحد 2 تشرين الأول 2005 المقال التالي ، وهذا نص المقال :
اضغط هنا لتقرأ نص المقال من الصحيفة
الحوار الثقافي والحضاري في خدمة السلام
رؤية إسلامية ( 3 من 3 )
يا أيها الإنسان: إذا كان المرء بأصغريه قلبه ولسانه، وهما أداتا الحوار، فليس
هو إذا بالجوارح أو بالفتك ...
ألم يأن لبني الإنسان أن يعامل بعضهم بعضا كما يعامل الإنسان نفسه حين تخالفه
نفسه، و "لا يؤمن أحد كم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " (6)، كما قال محمد صلى
الله عليه وآله وسلم .
فهل رأيت معتدياً على نفسه حين تخالفه نفسه أو يخالفها ؟ وهل يلجأ هذا إلى
القوة فينسف نفسه إذا خالفته ؟ فإن فعل هذا كان منتحرا ، وكان عقابه خلودا في
نار جهنم، كما جاء في مجمل أدبيات هذا الإسلام، بل الأديان كلها.
وقد يقول قائل: فمن الذي يرعى الحوار حتى لا ينتهي إلى دمار ؟ من الذي يضبطه ؟
ومن الذي يتولى عقاب من اشتطّ من الأطراف ؟ مَن ؟ من ؟
وهذا قول معتبر له حظ من النظر، ونشير في الإجابة إلى وجوب تنصيب قاض حاكم،
نرجع إليه مقرين بضرورة الالتزام بحكمه واعتماد قراره، والقاضي يتخذ شكل فرد أو
مؤسسة أومنظمة، والمهم هو الإذعان له، والإيمان بضرورته، والعمل على إيجاده،
ونأمل اليوم من المنظمات الدولية التي أخذت هذا الدور، أن تلعب الدور بشكل
أفضل، وبجدية أكثر، من خلال إلزام أعضائها بمقرراتها: ( فإن بغت إحداهما على
الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) الحجرات/9، وتعميم حوار ينصب
على ضرورة التزام الأعضاء بها، وإلا كانت اسما عائقا عن عمل جاد ، وصورة مانعة
من فعل حق.
ونرفض اقتراحات معادية للحوار، مثل التي صدرت عن فوكوياما حين قال: " كل
الحضارات ستذوب في الحضارة الأمريكية" .
وعن هانتنغتون الذي قال في كتابه ؛الإسلام والغرب آفاق من الصدام : أن الإسلام
خطر أخضر، وهو ذاتي التدمير، ويحذر من تحالف الإسلام مع الكونفوشيوسية، ويؤكد
على أن هناك صداما بين الحضارة الإسلامية من جهة، والمسيحية واليهودية من الجهة
الثانية.
6- الحوار إرادة ومسؤولية وتحديات :
ما كان الحوار في يوم من الأيام مجرد تنظيم يصدره قرار، ولا كان محض قضية يشر ع
بمرسوم، لكنه - أولا وآخرا - إرادة نابعة من الداخل، تتحمل من أجلها الصعوبات:
( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك)
لقمان/17.
الحوار مسؤولية كلمة ، وحصانة كلمة، وسيادة كلمة، لأن الكلمة هي الأصل كما
أسلفنا; ولأن الكلمة موقف ، ولأن الكلمة مرتكز السلوك; ولأن الكلمة هي كل شيء
لدى الإنسان.
الحوار تحد في حلبة الكلمة يؤكد على أطرافه البقاء فيها، وعدم الخروج منها إلى
حلبة السيف، أو اللسان، أو البارودة، أو النووي، أو ... (وإن كنتم في ريب مم ا
نز لنا على عبدنا فأت وا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم
صادقين ) البقرة/203 .
الحوار أمانة لا يراد منه الإدانة. لكنما الكلمة المقنعة هي الغاية المرجوة،
ولتظهر على أي لسان من ألسنة الفرقاء المتحاورة شاءت. فنحن في حوارنا لا ندين،
ولكننا نسعى إلى إظهار الذي به ندين: " لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس
أحسنا، وإن أساءوا أسأنا، ولكن وطنوا أنفسكم على إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن
أساءوا ألا تظلموا "(7) .
الحوار إنقاذ من جوع يستفحل، وعطش يتفشى، لأن ثمن الطعام والمياه تحول إلى
متفجرة دمرت حاضرا وهددت مستقبلا .
7- شروط الحوار :
ويمكن تلخيصها بما يلي:
1- تحديد المصطلحات وتبيانها: ولطالما أخفق الحوار لسوء فهم انتاب المفاهيم
المتداولة فيه، إذ يتكلم طرف عن مصطلح ما بتعريف قائم في ذهنه، يختلف عن ذاك
التعريف الذي قام في ذهن الطرف الآخر، ولو أنهما اتفقا لقطعا شوطا في الوصول
إلى المراد.
2- وضوح الغاية من الحوار: هل الحوار لمجرد الحوار ؟ أم إن هناك غاية يراد
تحقيقها والوصول إليها ؟ وأخشى ما أخشاه أن يغدو الحوار هواية ووسيلة تسلية،
وأن يعزل عن دوره البناء في خدمة المجتمع وتطويره.
3- تساوي الأطراف من حيث الاعتبار: يجتمع المتحاورون تحت قنطرة الحوار دون
سواها، وتسقط سائر الصفات والألقاب، وتتهاوى القوى المسكتة.
4- احترام المتحاورين بعضَهم: إنه خلاف، وخلاف إنساني، فهل يحوّله الإنسان إلى
خلاف وحشي يبتعد عن الإنسان ومساره وطبيعته ? هل نستبدل بالحوار المغني للإنسان
إنساني ته بحوار يقترب من الحيوان?!
5- الإنصاف: بإقرار ما هو خطأ، وما هو صواب، وبغياب الإنصاف تغيب حتما الحقيقة
وبإرادة الإنصاف تبدو الحقيقة، فالقضية موضوعية، وليست ذاتية.
6- المرجع المت فق عليه في الحوار: من الحَكم ? هذا ما ينبغي توضيحه في عالم
الحوار. لقد رضينا شرع الله، وعلى الآخرين أن يبينوا ما يريدون.
8 - نداء إلى الإنسان وإلى المسلمين :
أ- نداء إلى الإنسان من أجل حوار جاد يفضي إلى تعايش وسلام :
أيها الإنسان في كل مكان، ادخل السلام والسلم، واعمل على أن يذكرك من بعدك داعي
لقاء ووفاق، لا داعي نزاع وفراق، اسع لمستقبل العالم ليكون إنسانيا ، أعمل عقلك
فيما يبقي لا فيما يفني، وفيما يجمع لا فيما يبلع.
أيها الإنسان، حاور ولا يستخفنك السفاكون، حاور ففي الحوار حياة، وفي الحوار
تطور نحو الأفضل.
أيها الإنسان، أمن الناس من جهتك، وقل لنفسك ؛كما تدين تدان، فاختر العمار على
الدمار، أدع ، بلِّغ ، علّم ، فكر ، ولكن إياك أن تقتل، وتفتك، وتسفك. لا تمانع
من لا يعجبك رأيه من الحديث والنقاش، وجاهد لتسمعه كما تسمع من يثني عليك
ويمدحك، والعاقل من أََخذ لا من أُخذ.
أيها الإنسان، إلى متى ستظل مهددا ؟ وأنت ترفض الحوار، لا أريد مثالية في
الحديث، لكني أرجو الكثير في هذا الشأن لننال من الكثير القليل، ليتابع من
بعدنا حتى يغدو القليل كثيرا .
أيها الإنسان:
أنت المحور والقطب والمرتكز والأسّ ، فإن صلحت صلح الكون كله، وإن فسدت فسد
الكون كله: ( فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم
ربهم بذنبهم فسواها . ولا يخاف عقباها ) الشمس/13-15 .
فهل تسعى يا إنسان إليه ؟ وإنا معك ساعون.
ب- نداء إلى المسلمين من أجل حوار فاعل يحقق تعاوناً على البر والتقوى :
ندعوا المسلمين إلى حوار يقرّب بعد إذ يُعرّف، فالمشكلة في أحكام متخذة حيال
بعضنا، لا تستند إلى معرفة موثقة عن بعضنا.
أيها المسلمون:
التقوا على مائدة الحوار، وليجنّد كل منا نفسه ليسمع الآخر حتى يعرفه.
فإلى متى نطرح الحوار أسلوبا جميلا للتغني دون التبني ?!
وإلى متى سنظل أسرى جرائم التاريخ التي باعدت بعضنا عن بعض ?!
وإلى متى سنبقى نردد المصالحة باللسان، ونسلك سبيل المسالحة بالفعل والميدان ?!
وإلى متى سنتوارى عن ساح المسامحة، لنظهر في قعر المسافحة ?!
وإلى متى سنعيش الفرقة قد را ننسج خيوطه بدمائنا المسترخصة منا ?!
وإلى متى سيلاحقنا الماضي المرفوض، ليغدوا الواقع والحاضر المفروض ?!
لقد سامنا كل مفلس، وانتزعت مهابتنا من قلب عدو نا، حتى صارت خطوط التاريخ أقوى
في تكويننا من نصوص القرآن، وذبذبات السياسة في ملف الزمن السابق أقوى وأعظم
أثرا فينا من معاني السنة المشرفة، الداعية إلى الوحدة والاعتصام.
لقد استبدلنا بالنصوص الأساسية بعض التطبيقات البشرية الخاطئة، ونهلنا منها
أحكام علاقاتنا، وآداب لقائنا، ورفض حوارنا، حتى لكأن السنة والشيعة، والصوفية
والسلفية - هكذا مفر قين - قدر محتوم، لا يمكن أن تقاومه آيات القرآن المكلفة
لهؤلاء جميعا بالتوحيد والاتحاد.
أملي أن نحسم الخلاف بيننا بحوار جاد فاعل، قبل أن يحسم علينا، إن لم نقل أن
نحسم في وجودنا.
يا مسلم:
حاور المسلم ولا تحاربه: فإذا اتفقتما فتعاونا.
وإذا اختلفتما فقد أغنيتما إسلامكم.
وتعاونا، وهل التعاون - في النهاية - إلا وليد الحوار، فأين فريضة التعاون
وتعاونوا ، وأين قبلها فريضة الحوار ( لتعارفوا ) فالمسلم أخو المسلم.
ولنلتق دون ألقاب، أفلا يكفينا الإسلام ?!
خاتمة :
الحوار للسلام ، والسلام مطلوب الإسلام الأول من المجتمعات الإنسانية على
اختلاف عقائدها وأفكارها ومذاهبها ومبادئها ، وهو مطلوب الثقافة الجادة ،
فالحضارة الخيّرة ، وما لم يحقق الإسلام السلام فليس هو بدين حق آتٍ من الله
السلام ، وكذلك الثقافة إن أفضت إلى غير السلام فهي السفسطة القاتلة ، وأما
الحضارة فإن لم تنشر في ربوعها السلام ، فهي تقدم مادي يحمل في طياته إنذارات
شر واضطراب وقلق ، والحوار هو السبيل دائماً ، لأنه وسيلة سلمية ( إسلامية ) ،
والسلام الغاية يقتضي ويستلزم ذريعة وطريقاً يتصف بمثل ما اتصفت به الغاية .
والسلام المنشود ذو مستويات :
- فهو سلام الفرد مع ذاته ، فلا تشديد ولا قسوة ولا عنف ولا انتحار ، فللنفس حق
علينا وللزوجة حق علينا ، وللجسد حق علينا ، فلنعط كل ذي حق حقه .
- وهو سلام الإنسان مع الآخر : أياً كان :
أ- فإن كان الآخر مثلك ، فلا يؤمن أحدنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وكل
المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه ، وسب المسلم فسوق وقتاله كفر .
ب- وإن كان غير مسلم فكان ذمياً من أهل الكتاب فهو في حصن وأمان ، من آذاه فقد
آذى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن جار عليه فقد برئت منه ذمة
الله وذمة رسوله .
ج- وإن لم يكن من أهل الكتاب فكان معاهداً أو معاقداً ، فمن ظلمه أو انتصفه أو
كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه ، فالنبي صلى الله عليه وآله
وسلم خصمه يوم القيامة .
د- وإن كان الآخر – أخيراً – محارباً ، فآداب الجهاد ، وهي إنسانية كلها ، فلا
مباغتة ، ولا غدر ، ولا مبادرة بالاعتداء ، ولا اعتداء على مسن أو امرأة أو طفل
أو شجرة أو حيوان ، وكل ذلك منشور مبثوث في كتب الفقه والشريعة ، فهل أنتم
منصتون .
والسلام الذي نعنيه في النهاية ، هو ضمان الحياة والحرية الشخصية ، وحرية
التعبير ، وصيانة المال والأعراض ، والدعوة إلى الكلمة الطيبة بشكل عام ، وعدم
بخس الناس أشياءهم .
وعند الوداع كلمة :
السلام أصل ، والحرب عارض ، لأنه مكروه ، وهيهات أن يكون المكروه أصلاً .
والسلام استراتيجية الاستراتيجيات ، والحرب دواءٌ لأمر طارئ ( وقاتلوهم حتى لا
تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) .
فإلى الحوار مختارين ، لنصل إلى السلام آمنين .
وإلى الحرب مضطرين ، والضرورة تقدر بقدرها ، لنصل إلى السلام آمنين .
وإلى الإسلام والثقافة والحضارة ، فإن رفض الأول ، فما أظن عاقلاً يرفض الثاني
، وكذلك إن رفض الثاني فلن يرفض الثالث .
وكلها : الإسلام والحضارة والثقافة تدعو إلى السلام عبر طريق الحوار . فهل من
المسلمين والمثقفين وذوي الحضارة من مجيب ؟؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.
بقلم الدكتور محمود عكام
دمشق ، صحيفة تشرين ، مدارات ، الأحد 2تشرين الأول
2005
التعليقات