آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


أخبار صحـفيـة

   
مداخل ترشيدية للتمييز ما بين الحق والباطل/ جريدة بلدنا

مداخل ترشيدية للتمييز ما بين الحق والباطل/ جريدة بلدنا

تاريخ الإضافة: 2011/12/19 | عدد المشاهدات: 2428

نشرت جريدة "بلدنا" الصادرة في دمشق بتاريخ الاثنين 19 كانون الأول 2011 وضمن صفحة (رأي) مقالاً للدكتور الشيخ محمود عكام بعنوان: "مداخل ترشيدية للتمييز ما بين الحق والباطل"، وفيما يلي نص المقال:

مداخل ترشيدية للتمييز ما بين الحق والباطل

أ- تعميق المسؤولية: لعل من أولى مهام الترشيد: تثبيت الإحساس بالمسؤولية في وعي الشباب وتنميته، وتقوية مسؤولية الكلمة، ومسؤولية البحث عن الحق، ومسؤولية التزام الحق، ومسؤولية النية الجادّة في البحث عن الحق وباختصار:

مسؤولية الإنسان عن الإنسان، أي عن نفسه في كل تجلياتها وتحديداتها المادية والمعنوية، والتأكيد في النهاية على مقولة: "أنا مسؤول إذاً أنا موجود"، فمن انعتق من المسؤولية انعتق من الإنسانية وهكذا.. ‏

ب- ثنائية الحق والباطل: ليس ثمة من لا يعتقد بثنائية الحق والباطل، وليس ثمة عاقل يبغي الانطواء تحت راية غير الحق، وليس ثمة إنسان لا يحب الالتحاق بركب الحق والانتساب إلى لائحته، غير أن هذا الإنسان - وبدوافع مختلفة - قد يعدل عن طلبه الحق وبحثه عنه فيلجأ - ظلماً وزوراً - إلى تحريف التوصيف، فيسمي الحق باطلاً والباطل حقاً، ليبقى في ظاهره ومنظور ادّعائه ساعياً إلى الحق وعادلاً عن الباطل، وأما داخله وعمقه النفسي فسيبقى يستيقن الحق الأصيل: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم﴾. فيا أيها الإنسان ما غرك بالحقيقة ؟ وما الذي أبعدك عنها ؟ ولماذا حرفت الكلم عن مواضعه ؟ ‏

ج- حكمة وراء الرسل والكتب: وهنا تتجلى حكمة الخالق الحق في إرسال الرسل وإنزال الكتب، وهل حسبت أيها الإنسان أنك خلقت سدى وانك إلى الله لا ترجع ؟ فلا تذهب بعيداً، وعد إلى جادة الفطرة التي طبعت عليها، واقرأ في هذا الذي أنزلنا قواعد السداد والثبات وأسس العود الأحمد بعد الشرود المضيع: ﴿والتين والزيتون. وطور سينين. وهذا البلد الأمين. لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون. فما يكذبك بعد بالدين. أليس الله بأحكم الحاكمين﴾. ‏

ودعماً منا - والمتكلم الخالق - لسدادك وثباتك فقد أنزلنا ما أنزلنا على أناس مُصطَفين، يقدمون ما أنزلنا مجسداً مشخصاً، ويحولون الذي أنزلنا الى سلوك وواقع لأننا نعلم أن الخطاب المنطقي الذي تتجلى به كتبنا يقنع، لكن رؤيته - اي الخطاب - مجسداً مطبقاً يطمئن: ﴿قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام﴾، ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان﴾. ‏

د- التاريخ للاختيار: أيها الإنسان عد إلى التاريخ وادرسه ومحِّصه واسأله واستنطقه، فسيخبرك في النهاية عن مسارين كبيرين، لا ثالث لهما، وضحا بعد أن ابتعدا عنا وابتعدنا عنهما فتعرّفْ عليهما وأحسن معرفتهما، وانظر إلى رجالهما، وابحث عمّن تقدر وتكبر من رجالاتك فيهما وبعدها أعلن انضمامك للمسار الذي أقنعتك مبادئه وأعجبك رجاله.

وإني لأذكر يوماً قلت فيه لأحد زملاء الدراسة في فرنسا: عدد لي شخصيات تاريخية تعجبك وتحب أن تكون في لائحتها بعد أن يلفك القدر المحتوم الذي هو الموت. فذكر في جملة من ذكر عيسى عليه السلام وأرسطو وأفلاطون وسقراط وأبيقراط... وسواهم، غير أنه لم يذكر الشيطان ولا فرعون ولا نيرون ولا.. الخ.. عندها قلت له: إننا متفقان، فلنسع الى أن نكون في قائمة هؤلاء، وحسبي بذلك تعبيراً عن ديني ودعوة إليه.

ه-ـ ملامح الإنسان الصالح والمجتمع الصالح: جهدت يوماً من الأيام مع ثلة من المثقفين متنوعي الديانات والاتجاهات في الوصول إلى تحديد صفات الإنسان الصالح بالمعنى العام، والمجتمع الصالح بالمعنى العام أيضاً، فوصلنا فيما يخص الإنسان إلى: (المعرفة، وإرادة الخير، والصدق، والعمل النافع). وفيما يخص المجتمع إلى:( العلم، والفضيلة، والحرية، والأمن). وحينها قلت وقالوا: فلنعمل إذاً على التحقق بها وتحقيقها. وانفردت بالقول: إن هذا الذي اتفقنا عليه هو ما حضَّني عليه أيضاً إسلامي، ويحق لكم أن تقولوا: إن هذا أيضاً مما تدعو إليه دياناتكم ومبادئكم. وختمت بعبارتي:

تعالوا ننظم دنيانا على هذا الأساس، ونترك أخرانا ينظمها ربها ومالك زمامها الأوحد. ‏

ذكرت هذا لأنني أعتقد أن أهل الديانات جانبوا الحكمة، وابتعد غيرهم عنهم لأنهم أرادوا - في لحظة استمرت - تنظيم أخراهم في دنياهم، واستعجال حساب القيامة ليكون في الدنيا... وهذا أدى بهم إلى إهمال بناء دنياهم وكذلك اعمارها فخسروا الاثنتين .. وذلك هو الخسران المبين.

و- معايير الطفولة معايير صحيحة: كانت أيام الطفولة مرابع ومراتع وصفحات وأوراقاً، سجلت فيها كل القيم التي نادينا بها فيما بعد، وكأن التطبيق سابق، والتنفيذ مقدم، لتتحدث أيها الإنسان عن ذوق وشهود كما يقول الصوفيون، وأحلى الكلام ما صدر عن ذائق شاهد، وأشدّه تأثيراً في الآخرين ذاك الذي يصف بالحق، ويخرج بالحق، حيث لا وهم، ولا كذب، ولا ضباب، ولا ارتياب، ولا تكلف، ولا انفصام.. ‏

وصدق ربي إذ يقول عن القرآن العظيم: ﴿وبالحق أنزلناه وبالحق نزل..﴾ فبالحق قيل، وبالحق استقر في أفئدة العقلاء وعقول الحكماء.

والآن أيها الإنسان: ابحث في طفولتك عن صدى قولك الراهن فإن وجدته في ساح البراءة وميدان الفطرة الخالصة آنذاك، فالقول حق، وهو الوارد الرحماني، والإيحاء الخير الذي لا يستطيع الشيطان قربه، فضلاً عن أن يتنزل فيه؛ وإن لم تجده، فعاود النظر فيه، وأرجع البصر كرتين في أحقيته، ولابد في النهاية من أن ترى أن ما لفظ من قبل الفطرة يلفظه الإسلام الحنيف، وما قبلته الفطرة الصافية، التي يجسدها عالم الطفولة فإن الإسلام يتبناه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك، وتردد في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، استفتِ قلبك وإن أفتوك وأفتوك). نعم، استفت فطرتك، واستخبر طفولتك، واستنطق سرك، فليس من خبير بك أقوى منك: ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة﴾.

وإياك والتصيّد في الوقت الحرام للصيد الحرام، والوقت الحرام ما لم يكن إبّان نظافة القلب وطهارة السريرة. والصيد حرام ما فعل في غفلة عن الرقابة، وإياك أن تجعلهما الوقت والصيد، وهما بهذا الشكل، معايير ومقاييس ترجع إليهما وتعيد عليهما.. فمن خدع نفسه في الدنيا خدعه الله في الآخرة، ومن تصيد من غير دراية بالوقت والصيد وقع في حبائل الشيطان: ﴿وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد﴾.

عش الطفولة والبراءة خيالاً تستقي منه إشعاع خير وأنت كبير فلا والله ما حسنت نهاية لم ترد إلى البداية، بداية الفطرة والصفاء والوفاء... ولا والله ما استقام سلوك تنافر مع معطيات الأيام الأولى من خلقك، إذ كنت تذكر بالله من رآك.. فهيّا لسلوك يذكر بالله، يصدر عنك..

نادِ أيها الإنسان ظاهرك بحقيقة صوت باطنك، وأسمع جهرك صدق مضمون سرك، وكن مع شبابك وشيخوختك صافي الوفاء، كما كنت في طفولتك، واعزف لحن الأمان بوتر الإيمان، وغنِّ نشيد العبودية بنفحة الفطرة، وردد على مسامع الدنيا واثقاً: ﴿صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة﴾. وقل متأكداً: (كل مولود يولد على الفطرة).

بقلم

د. محمود عكام

مفتي حلب- مفكر إسلامي

لقراءة النص من المصدر، لطفاً اضغط هنا

التعليقات

شاركنا بتعليق