نشرت جريدة "بلدنا" الصادرة في دمشق بتاريخ الاثنين 23 نيسان 2012 وضمن صفحة (رأي) مقالاً للدكتور الشيخ محمود عكام بعنوان: "قاسَمَونا فأعطونا الحربَ واضطرابها وأخذوا السَّلامَ واستقرارَه؛ فيا غباءَنا إن رضينا"، وفيما يلي نص المقال:
قاسَمَونا فأعطونا الحربَ واضطرابها
وأخذوا السَّلامَ واستقرارَه؛ فيا غباءَنا إن رضينا !
الحياةٌ قسمان غير متكافئين: حربٌ طارئة عارضة، وسلام ثابت وأصيل.
وقمينٌ بالإنسان أن يعطي مِنْ جُهده ووقته وعمله وأمله القسمَ الأوفر للسَّلام، وأن يدَّخر بعضاً من قدراته ومُكناته للحرب.
لكننا -وفي لحظة غفلة ووهم- عكسنا الشأن فجعلنا المساحةَ الأكبر منَّا للحرب، وقصرنا السَّلام على المساحة الأصغر.
والذي زاد الطينَ بِلَّة أنَّ الغربَ المقابل لنا، بكل أطيافه، شجَعَنا على هذا الذي فعلنا، بل ومنحَنا الأوسمةَ في مجال الحرب والقتال، وأبقَى أوسمة السَّلام لنفسه، يعلِّقها على صدره وصدر الكون، حجرِه وشجرِه وأرضه وسمائه.
وابتدأ التاريخُ الذي لا أحبّ، فنحن الأبطال نقتل ونضرب ونستشهد ونموت... ويا غرب هات ما عندك من أسلحة وعتاد، وخذ مقابله ثرواتنا الخام وما تحتوي عليه بلادنا من خيرات.
والمهم أن يحكمنا صاحب البزة العسكرية، نرفع صورَه المتنوعة المتعددة بلباسه الحربي، مع النياشين تارةً وبدونها تارةً أخرى، وببذلة الميدان مرة ثالثة، أو زد على ذلك القائد ما شئت من فنون السلاح تلبيساً.
ولا بدَّ للحاكم في بلاد العرب والمسلمين اليوم من رتبة عسكرية ومكانة حربية، وإلا فلن يُذكَر في سجل الأبطال ولوحة الميامين، وهناك في الغرب أو في الجهة المقابلة لعالمنا العربي والإسلامي -حيث يُصنع السلاح وتخترع الآلات الحربية- لا ارتداءَ للباس العسكري من قبل الحكام، ولا جنودَ تُطِّعم محافلَ الناس المختلفة، الاجتماعية منها والعلمية، بل ولا تفاخرَ بالمعارك ولا بالوقائع القتالية.
قلت هذا منبهاً أمتي العربية، ومن ثمَّ الإسلامية، إلى ضرورة وعي الحياة في أصلها، فهي -أعني الحياة-لا تسجل في نيِّرات صحائفها إلا أبطالَ السلام والأمان، ولا تعترف إلا على من طمأنَ الإنسان وأمَّنَه على حريته وعدالته وقيمه وسكَنه وأهله وعشيرته وحجره وشجره، أمامَ من أشعل الحرب وعاشها هاجساً وجعلها كذلك لدى أمة ما، فهو عن تاريخ البناء معزول.
فيا أمتي:
أفيقي من وهمٍ سَدرتِ فيه قروناً طويلة، وعودي إلى رحاب السَّلام، وخذي فيه موقعاً، واعملي على منافسة أصحاب المواقع فيه عبر الاستقرار الاقتصادي والعلمي والسياسي.
حوِّلي القيم إلى مؤسسات، وإياك أن تفردي بالتقديس شخصاً، وأن تمنحي هذا الشخص كلَّ مفاتيح الحل والعقد، فيكون مصيرك مرتبطاً به وجوداً وعدماً، خطأً وصواباً، ذلاً وعزاً، فما هكذا تورد يا سعد الإبل، ولا هكذا تُبنى المجتمعات، فالمجتمعات ليست مجتمعات إلا بالمؤسسة والقانون الشامل والقضاء العادل والتعليم الواعي والإمام الراعي.
والحرب شرٌّ حتى ولو كانت فيها مسحة خير أحياناً، لكنَّ الصُّلح والسَّلام خيرٌ كله، ولا يشوبه شائبة شرّ.
نريد يا أبناء وطني بطولات في مجال السَّلام، ومجالُ السَّلام صناعةٌ وزراعةٌ وتجارة وبناء ورفاهية وسرور وأمان.
أمَّا الحرب فليس من آثار لها سوى الإنهاك والتعب والاضطراب والرعب وإعادة العمل من جديد، كالتي نقضت غزلَها من بعد قوة أنكاثاً.
وصدق الله تعالى إذ قال: ﴿كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين﴾ المائدة: 64.
وحسبُنا أن نؤكد بلغة الإحصاء أن القرآن الكريم ذكر الحرب والجهاد والقتال واشتقاقاتها المتنوعة إيجاباً وسلباً حوالي 225 مرة، وذكر السِّلم والأمن والأمان والإيمان والإسلام آلاف المرات، فهل من مدَّكر ؟!
ولعل قائلاً يتردى لبوس سائل يقول: وكيف السبيل لاسترجاع ما فقدناه من أرض وبلاد وثروات ؟
فأجيب: بالجهل ضيعتم ما ضيعتم، فما عليكم إلا العلم حتى تعيدوا ما فقدتم، فادخلوا معركة العلم تسترجعوا ما لكم، وترثوا حتى ما هو لغيركم ظاهراً، إن كنتم متفوقين على ذاك الغير بالعلم والمعرفة والفكر والحركة السننية الجادة، تطبيقاً لقول الله تعالى: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ الأنبياء: 105.
وقد أكَّد جلُّ المفسرين على أن الصالحين في هذه الآية هم أولئك العالمون العاملون، الخبيرون الفاهمون، فهم بهذه الصفات يغدون صالحين لعمارتها، فهيهات أن يورث الله الأرض أو أرضاً مَن يعبث بها ولا يصلحها: ﴿فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين﴾ يوسف: 64.
والسَّلام.
بقلم
الدكتور محمود عكام
مفتي حلب- مفكر إسلامي
التعليقات